أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن معايير وضوابط أكثر دقة بشأن مسألة عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، بمعنى أن الانخراط مجدداً في الاتفاق من دون شروط لم يعد أحد السيناريوهات المطروحة في هذا الشأن، ومع ذلك يتبقى نقطة مهمة للغاية تتعلق بموقف حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ فرغم أن وزير الخارجية الأمريكي الجديد انتوني بلينكن قد تحدث بشكل واضح عن معايير وضوابط للمسار المتوقع لعودة بلاده للاتفاق النووي، وألمح إلى أن الأمر قد يكون بعيداً، فإن هذه المعايير ـ كما هو معلن حتى الآن ـ لا تتوافق مع مطالب حلفاء الولايات المتحدة، فإسرائيل على سبيل المثال ترى أنه لا يمكن العودة للاتفاق النووي وترفض ذلك بشدة، بل كشفت عن أنها تدرس احتمالات توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النوووية الايرانية في حال عادت الولايات المتحدة للاتفاق النووي، في خطوة اعتقد ـ شخصياً ـ أنها رسالة إنذار تستهدف بالأساس ردع الإدارة الأمريكية الجديدة عن الاقدام على هذه الخطوة، وليست موجهة لملالي إيران، لأسباب واعتبارات عدة أهمها أن التهديد الاسرائيلي بضرب إيران ليس جديداً، بل هو أمر متكرر ومدرج ضمن أدبيات الحرب النفسية المحتدمة بين الجانبين منذ سنين طويلة مضت.

هناك أيضاً موقف دول مجلس التعاون التي ترى أن الاتفاق النووي بصيغته الحالية ملىء بالثغرات والعيوب، وهو بالفعل اتفاق منقوص، ويوفر لملالي إيران الغطاء السياسي الذي يحتاجونه لتنفيذ مشروعهم التوسعي الاقليمي، والذي انطلق بالفعل عقب توقيع الاتفاق عام 2015 حتى وصل إلى مانراه من تمدد وهيمنة إيرانية طائفية على أجزاء شاسعة من جغرافيا المنطقة العربية، حتى أنها اعترفت علناً وتباهت على الملء باحتلال أربع عواصم عربية والسعي لاحتلال الخامسة!

علينا إذن أن نتذكر جيداً أن المعضلة ليست في عودة الولايات المتحدة للاتفاق من عدمه، فالملالي يريدون اختزال الأزمة في هذه النقطة، ولكن المسألة أعمق من ذلك بكثير، وتبدأ وتنتهي عند الاقرار بفشل هذا الاتفاق والسعي لتوسيعه ليشمل البرنامج الصاروخي والدور الاقليمي الايراني، أو التفاوض حول صفقة جديدة أكثر شمولاً تضمن الأمن والاستقرار الاقليمي والدولي من جوانبه كافة. وأحد التساؤلات الأكثر الحاحاً في هذا الإطار تتعلق بموقف إدارة الرئيس بايدن من تحفظات حلفاء واشنطن على العودة الأمريكية للاتفاق النووي، وكيف يمكن معالجة هذه المعضلة؟!

اعتقد أن البداية الصحيحة لبناء تفاهم أمريكي مع الحلفاء بشأن الاتفاق النووي يبدأ من تقييم الموقف بشكل دقيق، فالأمر لا يتعلق بمخالفة سياسات الرئيس السابق ترامب والسير في عكس الاتجاه، بل يفترض أن ينطلق من مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وهنا نشير إلى أن فريق الرئيس بايدن يسعى لتحقيق ذات الهدف الحيوي الذي أراد ترامب تحقيقه بشأن إيران، ولكن مع اختلاف التكتيكات والاستراتيجيات وبالتالي الأدوات والنهج، ولكن علينا أن نتذكر أيضاً أن الرئيس الأسبق باراك أوباما حين وقع في عام 2015 هذا الاتفاق المعيوب، كان يسعى أيضاً لضمان المصالح الاستراتيجية الأمريكية، ولكنه سقط في خطأ أضر بتلك المصالح وتسبب في تهديدها والاضرار أيضاً بمصالح الحلفاء!

الواقع يقول أن إدارة الرئيس بايدن تمتلك الآن ورقة تفاوضية في غاية القوة لا يجب أن تتخلى عنها بسهولة ومن دون عائد يوازي ثقلها، وهي ورقة الضغوط الهائلة التي أنتجتها استراتيجية "الضغوط القصوى" التي انتهجها الرئيس السابق ترامب تجاه نظام الملالي، وهي ضغوط قوية رغم الإنكار الايراني المستمر، ولذا يجب أن تستثمر جيداً من خلال صيغة متوازنة بين توظيفها سياسياً من ناحية، ورغبة الرئيس بايدن الشخصية في "انقاذ الاتفاق قبل أي شىء" من ناحية ثانية.

وزير الخارجية الأمريكي الجديد انتوني بلينكن كشف خلال حديثه عن رؤية الإدارة الجديدة للمسار المتوقع للتعامل مع العودة الأمريكية المزمعة للاتفاق النووي، من خلال عودة الملالي أولاً لالتزاماتهم الواردة بالاتفاق ثم اثبات هذا الالتزام، واعتبر أن هذه العودة ستكون نقطة انطلاق للبناء مع حلفاء واشنطن وشركائها، وصولاً إلى اتفاق "أكثر ديمومة ومتانة للتعامل مع العديد من القضايا الأخرى التي تطرح إشكالية كبيرة في العلاقة مع إيران"، وهو مسار وصفه بلينكن نفسه بأنه "بعيد"، واعتقد أن هذا الحديث معناه أن الفريق الأمريكي الجديد يأخذ بالاعتبار صعوبة التحديات التي تواجه التوصل إلى نقطة النهاية، وبالتالي فقد أراد منذ البداية لجم الاندفاع وخفض مستوى التوقعات.

الرئيس بايدن حليف وداعم قوي لإسرائيل طيلة حياته السياسية ويكرر مراراً دعمه اللامحدود لها، كما لن يجازف مطلقاً بخسارة الشراكات الاستراتيجية للولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون، أو فقدان خصوصية العلاقات مع هذه الدول، وهذه عوامل مهمة تؤكد أن بناء التوازن الصعب بين حلفاء واشنطن من جهة وملالي إيران من جهة ثانية، ليس قريباً، ولن يتحقق بسهولة. واعتقد أن عمل واشنطن مع حلفائها الشرق أوسطيين سيكون الضمانة الأفضل لرسم مسار قابل للاستمرار والبقاء بغض النظر عن العصي التي سيضعها الملالي في عجلات أي مسار محتمل، فالعمل المشترك والاقتناع بأن إيران ليست مشكلة اسرائيلية أو خليجية فقط، هو المفتاح الحقيقي لتحقيق الأمن والاستقرار الدائمين في المنطقة والعالم، والحقيقة هنا أن اتفاق عام 2015 قد تسبب بشرخ عميق في علاقات الولايات المتحدة بحلفائها الاقليميين، لذا من البديهي أن يكون ترميم هذه التصدعات أحد أهم أهداف أي خطط أمريكية جديدة للتعاطي مع الملالي.