لو قمنا بعمل مقارنة بين المجتمعات الإسلامية في عصرنا هذا مع المجتمعات الإسلامية في السابق، فإنني أعتقد أن الفرق سيكون لصالح التاريخ الإسلامي رغم كل ما فيه من مآسي، أعني هنا مستوى ودرجة الوعي وما يترتب عليه من قبول وفهم وتعايش ومرونة...إلخ.
على سبيل المثال؛ المجتمع الإسلامي في عصر الدولة الأموية كان أكثر وعياً وتقبُّلاً للآخر مما نحنُ عليه الآن، ويكفي فقط أن تعلم أن القديس يوحنا الدمشقي كتب كتابه(الهرطقة المئة) والذي تضمن نقد لجميع الحركات المسيحية المبتدعة(كما يراها كذلك) والتي جعل من ضمنها الإسلام معتبراً إياه أحد الهرطقات المسيحية!
ليس ذلك فحسب، بل كان يحاور ويناظر رجال الدين والفقهاء المسلمين في وسط حضور كبار رجال الحكم والسلطة في الدولة الأموية.
ورغم ذلك لم يتعرض للمحاسبة من الدولة ولا حتى للإيذاء من أي أفراد في المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه وبينهم. والحكم الصادر تجاهه بقطع يده لم يكن له علاقة بنقده للإسلام، إنما بسبب تأليبه للمسيحيين للخروج في مسيرات للدفاع عن الأيقونات لأنه قد صدر قراراً في ذلك الزمان من جهات مسيحية عليا ترى أن تكريم الأيقونات والاعتقاد بها نوع من الهرطقات المخالفة لمنهج الكتاب المقدس، وهو ما أثار استياء الدمشقي وأتباعه. وبسبب ذلك تم الوشاية به عند الخليفة الأموي واتهموه بأن له محاولات لزعزعة الأمن والاستقرار وتحريض الشعب بكافة مكوناته على السلطة، وهو الأمر الذي تسبب في قطع يده.
لو كان يوحنا الدمشقي بيننا الآن ويعيش في أي دولة عربية أو إسلامية وكتب كتابه هذا، ماذا سيحدث له؟
على أقل تقدير سيتعرض للأذى لا محالة وقد يُقتل من الغوغاء، فإذا كان فرج فودة رحمه الله تم قتله رغم أنه مسلم؛ فقط لأنه اختلف معهم في رؤيته للدين والدولة وكيف يجب أن تكون العلاقة بينهما تم إنهاء حياته، هل ستنجو شخصية مسيحية كيوحنا الدمشقي لو قال وكتب ما كتبه في تلك الحقبة الزمنية؟! لا أعتقد ذلك.
أحد الكُتَّاب السعوديين كتب تغريدة لا علاقة لها بنقد الدين الإسلامي لا من قريب ولا من بعيد، ولا تمس الفروع فضلاً عن الأصول والثوابت، رغم ذلك واجه حملة عدائية شرسة تطالب بإغلاق حسابه والقبض عليه ومحاسبته!
هؤلاء يريدون أن يكونوا نبويين أكثر من المجتمع النبوي، بمعنى أنه في عهده عليه الصلاة والسلام كان هناك اختلاف وتنوع، كان هناك من يبيع الخمور ويحتسيها(سواءً كانوا من المسلمين أو غيرهم). حتى الحجاب الإسلامي الذي يثير امتعاضهم كان فيه تنوع بين من يرتدينه بصورته التقليدية ومن لا ترتديه أصلاً، رغم أنه عليه الصلاة والسلام كان قادراً على توحيدهم على أمر معين لا يحيدون عنه، فهل أنتم أكثر نبوَّة من نبوته عليه الصلاة والسلام؟!
رغم أنني ممن ينتقد مواقع التواصل الاجتماعي وأرى أن ضررها يكاد يطغى على نفعها، إلا أنه من أحد أهم محاسنها هو أنها جعلتنا نرى مستوى الوعي لدى الشعوب والمجتمعات، جعلتنا ندرك الحقيقة بلا رتوش، أعطتنا انطباع عام واستثارت لدينا العشرات من الأسئلة عن الأسباب التي تقف خلف هذا التشنج الغير مبرَّر رغم الانفتاح الذي نعيشه في ظل قيادة جديدة أخذت على عاتقها محاربة التطرف بكافة صوره وأشكاله.
لذا على كل سعودي مفكر أو معلم أو كاتب أو طبيب أو مهندس...إلخ، أن يسعوا إلى مقاومة جميع الأفكار الظلامية ومن يروجون لها، حاربوهم بالفكر، فنِّدوا مايطرحونه من أوهام، اجعلوا كل إنسان يعلم أن الله ليس هو كما قدموه لنا، أخبروهم أن الله أجل وأعظم وأرحم وأسمى من الشخصية الإلهية الشريرة التي رسموها في أذهاننا منذ أن كنا تلاميذ صغار في المدارس أو عبر الإعلام الديني بخطابه التقليدي البائس.
خطفوا العقول لعقود من الزمن، شوهوا الوعي وحددوا ماهية وطريقة التدين وكيف يجب أن يكون، وهنا يأتي دور المتعلمين من أبناء المجتمعات العربية والإسلامية في مجابهتهم حتى يتلاشى تواجدهم وتندثر أفكارهم بصورة نهائية ويُسدل الستار على حقبة تعيسة تسببت في تشويه عقلية المسلم وتدمير مجتمعات إسلامية أصبحت تُوصَم بالتطرف والإرهاب.
...