في كتابه الذي يحمل عنوان (الحرب على العراق-نظام لم يتغير) للكاتب البريطاني المناهض للحرب ميلان راي الصادر سنة 2003 يكشف عن براهين عديدة على إن الحكومتين الأمريكية والبريطانية لم تسعيا فعلا إلى إنهاء نظام صدام حسين بل "المحافظة على نمط صدام دون صدام" (ص426) وإن ما هو واضح " هو غياب النية لدى واشنطن ولندن لتغيير حقيقي للنظام في العراق" ويؤكد إنه "عندما تفكك النظام خلال الحرب، سعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى إعادة بناء النظام نفسه بخسائر أقل وكان لهذه السياسة جذور عميقة" (ص420) ويسوق راي في كتابه أمثلة عديدة على تعيين بعثيين معروفين في مناصب مهمة في المؤسسات الأمنية والعسكرية بعد الإحتلال مباشرة كأدلة على تبني الحكومتين الأمريكية والبريطانية خيار" المحافظة على نمط صدام دون صدام".
قرأت النسخة المترجمة عن الكتاب بعد نشرها سنة 2005، ولم أتفق مع ما ذهب إليه الكاتب في حينه، لكن بعد الخذلان والخيبة التي أصابت أمثالي من العراقيين بعد تجربة حكم فاشلة لأحزاب الإسلام السياسي وتبنيها لذات وسائل النظام السابق القمعية في الحفاظ على السلطة وتسويقها لنفسها بذات طرائق تسويق البعث لنفسه، تصبح المراجعة والتقويم أمران لابد منهما لتتضح الصورة للمصابين بعمى الألوان.
النظام السياسي لا يرتبط بوجود أو عدم وجود شخص أو مجموعة أشخاص على رأس السلطة السياسية، بل في مجموعة القوانين والأنظمة والإجراءات والممارسات المعتمدة من قبل أجهزة ومؤسسات ذلك النظام، لذا لا يمكن أن يعد "تعيين بعثيين" في مناصب مهمة في مؤسسات الدولة بعد سقوط النظام السابق دليلا على إستمراريته لو لم يكن مقترنا ببقاء القوانين الجزائية والمدنية والتنفيذية والأنظمة والإجراءات، ولو لم يكن تنفيذها يجري بذات الطريقة التي كانت سائدة زمن النظام السابق التي تعتبر المتهم "مجرم لحين إثبات براءته" وليس "بريئا لحين إثبات جريمته" كما ينص "دستور ما بعد 2003، وكذلك دستور البعث"،فكان على مجلس النواب العراقي منذ الأيام الأولى لدورته الأولى بعد إنتخابات 2005، إصدار قوانين جزائية ومدنية وتنفيذية وأنظمة وإجراءات ، تتناسب مع المسار الديمقراطي الذي يفترض أن يكون بديلا عن النهج الدكتاتوري لنظام البعث الذي لازالت قوانينه وأنظمته وأجراءاته سارية المفعول رغم مرور 17 عاما على سقوطه، وليس إصدار قانون رقم (32) لسنة 2016 الخاص بحظر حزب البعث الذي لا يعني شيئا على أرض الواقع غير إثارة الجدل الفارغ.
من أسوأ ممارسات النظام السابق هوممارسته التمييز الطائفي في التعيينات في المناصب المهمة وخاصة في الأجهزة الأمنية والعسكرية، لكن تلك الممارسة لم تكن مقترنة بخطاب طائفي علني كما هو حاصل الآن، وكان البعثيون في الدرجات المتقدمة ينالون المناصب التي تتناسب مع درجاتهم الحزبية، تماما كما تفعل أحزاب الخراب بعد 2003، فلا وظيفة لغير منتسبيها، ولا تعيين لمن لا يؤدي فروض الطاعة لهذا الحزب او ذاك، ولا مكان للعراقيين المستقلين الذين باتت تلك الأحزاب تنظر لهم بعيون الريبة والشك ماداموا لم ينخرطوا معهم في سباق التسلط والهيمنة.
كان على أدعياء محاربة الطائفية تشريع قانون حظر الخطاب والممارسة الطائفية وليس تبنيها كوسيلة من وسائل التحشيد السياسي وكمبرر للحصول على "حصة المكون" في بازار تشكيل الحكومات بعد 2003.
لجأت أغلب أحزاب ما بعد سقوط النظام السابق إلى إستنساخ تجربته في إنشاء ميليشيات تؤدي مهام قمع الآخر حين يشكل خطرا على وجودها أو إستمرارها في السلطة كما فعلت مع شباب إنتفاضة تشرين، ولم تتوان عن ارتكاب المجازر للحفاظ على السلطة تماما كما إرتكب النظام السابق المجازر بحق العراقيين في إنتفاضة 1991حين إستشعر خطرها على وجوده.
كنا نعتقد إن النظام السابق كان يشكل عائقا أمام قوى وأحزاب ما كان يطلق عليها "المعارضة" في النهوض بالبلد وإنتشاله من الوضع المزري الذي أوصله النظام السابق إليه بمغامراته المهلكة، لكن ما ترشح من التجربة عدم وجود إرادة "نهوض" أو "بناء" لأحزاب ما بعد 2003، بل وجود إرادة "القمع" و"الصراع على الثروة والنفوذ" وتغليب المصالح الحزبية والشخصية في كثير من الأحيان على مصالح الدولة وكرامة شعبها، وهي لا تختلف بذلك كثيراعن حزب البعث ولا عن طريقته في تكريس سلطته ونهب خيرات العراق من أجل حفنة من الإنتهازيين.
فنظام صدام حسين باق في قوانينه وقرارات "مجلس قيادة الثورة"، وباق في ممارسات أحزاب السلطة القمعية ضد معارضيها، وباق في الكواتم التي تغتال ابناءنا، وباق في التمييز الطائفي والعرقي، وباق في تشبت أحزاب الخراب بالسلطة، وباق في التعاطي مع المواطن بإعتباره "مجرم لحين إثبات براءته".

[email protected]