كان شعر الحنين إلى الأوطان وذكر الديار من ارق وأعمق ما قاله الشعراء عبر التاريخ، لأنه يصدر من قلب يحترق بالأشواق والذكريات، وولع بمكان الولادة والنشأة. إنه غريزة في النفس السوية، وولاء مغروس في الأرض. لكن مفهوم الوطن تطور، وصار يعني المدينة أو الحاضرة التي استقر فيها الشاعر.
قيل لأعرابي: أتشتاق إلى وطنك؟ قال: كيف لا اشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها ورضيع غمامها؟ فكيف بشاعر كبير غزير الأفكار والمعارف، وصانع لوحات شعرية مبهرة، مثل الشاعر حميد سعيد، وهو بعيد في غربته القسرية عن الوطن، عندما يكتب شعرا ملحميا في حب الأوطان لا يستطيع صنعه سوى المبدعين. ويبتكر لغة عميقة المعنى يستنطقها ويطوعها للتعبير عن خلجات النفس والروح. ناقلاً أنين الوطن وحزن بغداد ومدن الرافدين وتعبها من ضجيج الحروب والقتل والدمار والفوضى. كأن الحنين حكاية لمعنى الوجود والبقاء. هي غربة شاعر. ووقود قصيدة ملأى بأنين الديار. وعذابات شاعر يحلم ان يحتضن الوطن عن قرب في روحه التي لا تقبل الانفصام عنه، حيث تكون الكتابة هي الوطن الحقيقي.
أحد النقاد العرب يسأل اين العراق الذي سيعود اليه؟ اين هو، وقد تهدمت بغداده ومدنه وقراه، وحرثت قنابل الاحتلال بساتينه، وهرب الملايين من أهله ممن سلموا من الموت؟ وبثقة المقاوم الوطني والإنساني يرد بثقة: لا أود أن" أصف ابتعادي عن بغداد بأنه منفى، لأنه كما قلت من قبل: بغداد لم تفارقني، وأكاد أعرف عن يومياتها في هذه الحقبة التي كل ما فيها لا يليق بها ولا تليق به، أكثر مما يعرف الذين ما زالوا يعيشون فيها. أجدها أكبر من الحاضر بكل ما حفل به، من إشراقات وخيبات، ونراها أجمل من ماضيها، على عظمته الاستثنائية، وهي تفاجئنا باستمرار لتضعنا على مشارف مستقبل أراه جميلاً وثرَّ العطاء".
أنظروا لفلسفة الشاعر، كيف ينظر إلى المكان كإرادة للتغيير والأبداع ومواصلة الحياة حيث "المكان في النص الإبداعي، ليس الشواخص، بل هو مجمل خصوصيات المكان التي يتعامل معها المبدع جمالياً، لذا ترى إن المكان في الإبداع ليس هو المكان في الواقع".
ربما يسألني البعض: لماذا بدأت بغربة الشاعر، قبل أن تتحدث عن حميد سعيد الأنسان والشاعر. وهو سؤال منطقي بالمعنى والفكرة والاستفهام. فأقول لأن الغربة تمنحك فهم جدلية حياة الشاعر، ومعدنه الإنساني والوطني. واكتشاف المجهول في شخصيته وتفكيره. فالغربة عن الوطن امتحان مبهم ومعقد لعقيدة الشاعر ومنظومته الفكرية. وأقسى أنواع الغربة غربة الوطن، لأنها غربة الغربات. لكنها غربة مفيدة لاكتشاف الحقيقة واستنطاقها. واستيقاظ العقل لفهم تناقضات الحياة والأصدقاء. بل هي امتحان صعب للصبر ومقاومة الخوف والهمّ والرعب من المستقبل.
هكذا اكتشفنا أن غربة حميد سعيد الأنسان كانت متألقة في ثباته على الموقف الوطني، ومبدأية الولاء للأفكار التي حملها ودافع عنها منذ أكثر من نصف قرن. كذلك هدوء شخصيته وعنفوانها وإنسانيته الراقية التي يفصح عنها تواضعه الجميل ومحبته للآخرين. كم كان متواضعا محبا للخير وفاعلا له مع من يخالفه في الراي والعقيدة عندما كان في مواقع إعلامية متقدمة. قال عنه الشاعر الكبير سعدي يوسف بوفاء “إن حميدا يستحق ذلك، ليس فقط بوصفه شاعرا عراقيا مهمّا، وإنما لكونه إنسانا كبيرا أيضا، لا يمكن أن أنسى شخصيّا فضله عليّ، حينما كنت في بغداد، فقد كان حميد هو المدافع والحامي بكل ما يستطيع، إزاء ما كنت أتعرض له من تهديدات ومضايقات".
أما حميد الشاعر فقد منحته الغربة إبداعاً إضافياً، وتجربة عميقة زادت من ألق شعره. بل إن تجربته الشعرية لاقت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، بعد أن عاش معتزلاً في عمّان، من الاهتمام النقدي والإعلامي والأكاديمي، أكثر بكثير مما كان يتلقاه من قبل. وهي ضربة قاسمة لبعض الجهلة والفاشلين والمتعصبين الذين كانوا يروجون معلومات مضللة وحاقدة تقول إن الاهتمام النقدي بالشاعر مرتبط بوضعه الاعتباري، حتى أن البعض طالبه بالامتناع عن الكتابة. كما سعوا لتحريض السلطة ضده في كل مناسبة. وطالبوا بفصله من اتحاد الأدباء، رغم إنه ساهم في تأسيسه وتطويره وتعزيز وجوده، ودعم أنشطته الثقافية، بل ودعم جميع الأدباء دون النظر إلى مواقفهم وانتماءاتهم !
عندما اذكر حميد سعيد في غربته، أتذكر قوافل الأدباء والعلماء والفنانين وأصحاب الرأي الذين غادروا العراق تحت ظروف القتل والتهديد والجوع، وكم عالما ومثقفا غادرنا فقراً ومرضاً ولم نشعر برحيله. بل أن عدد الذين ساروا في جنازاتهم وشيعوهم إلى مثواهم الأخير أقل من عدد الكتب التي وضعوها وألفوها! هل نذكر من مات على فراش الموت ولم يجد من الحكومة عوناً ينقذه من المرض، ومن مات ولم يجد من يسير وراءه حتى ولو من باب الحسنات؟! بل لا يقوى ذوو هؤلاء أحيانا على تحمل تكلفة مراسم الدفن. وأكثر ما يحصل عليه المثقف العراقي اليوم بعد موته كلمة عابرة ذات معنى عميق (مسكين)!
والحقيقة أن أقسى موت للمثقف هو أن يدفن داخل جلده، وأن ينزف إنسانيته حتى آخر كلمة، ودمه حتى آخر قطرة، دون أن يراه أحد. فثمة نزيف داخلي غير منظور للذات وليس للدم فقط. فما عادت دواوين الشعر والقصص والروايات وبحوث العلماء تعني سلطة الجهلة وتشغلهم أكثر من منهجية اغتيال المثقف جسديا، وإرغامه على الهجرة. فأساطين المال والسلطة لم يعودوا بحاجة إلى مبررات أخلاقية وثقافية. ولا إلى مسوغات اجتماعية كي يحققوا ما يبتغون من (شرعية) زائفة. لأنهم استعاضوا عن المثقف ودوره، بوسائل أخرى، مثل القتل والاستبداد والتهميش والقمع والترويع الفكري. وبهذه الصورة تكون الثقافة في الجحيم العراقي قد رميت، و(ثقافة) الجاهلية قد سادت، والمثقفون خارج تغطية الوطن قد شردوا، والجهلاء أسياد الوطن قد نصبوا!
بالمختصر، حميد سعيد ترك الوطن مجبرا حفاظا على حياته وحياة أسرته. ترك بيته وحديقته ومكتبته في زيونة ببغداد. وترك الحلة منبته الأول إلى الأردن، حاملاً معه دواوينه وذكريات مغروسة في العقل والوجدان. لا أحد يسأل عنه من حكام الوطن، بل ساهموا في قطع رزقه، وحاولوا تشويه سمعته، رغم انه من أعمدة الشعر في العراق، وأحد أبرز الشعراء العرب المعاصرين. وقد حصل على جوائز كثيرة، آخرها جائزة القدس من اتحاد الأدباء والكتاب العرب.
أي غباء وحقد دفين هذا الذي يحدث لحميد سعيد وغيره من النخب الثقافية المبدعة ! وأي مسعى محموم لتجويعها وتشويه صورتها ومصادرة حقوقها الإنسانية. فالأفكار لا تقتل. بل لها ديمومة فاعلة ومؤثرة. والوطن لا يموت في عقول رجال التنوير. ومقابل كل حاكم متخلف وظالم وفاسد ودموي ثمة فيلسوف وشاعر وفنان وعالم ومثقف. فالتاريخ له دائما وجهان.
حميد سعيد يكلم الشمس بالشعر من اجل أن تصنع للعراق قصائد مشرقة في ديوان الكون. وهو لم يجعل من غربته دراما سوداء، فهو يقول "لست غاضبا على وطني، ولا أظن إن وطني غاضب علي “، لكن وجع الوطن المفقود والمشتهى بالعودة يستنقطه شعرا بالمدن والأحياء والنخيل.
أهذه مدينة السلام .. أم مملكة الذئاب
ليس سوى الرماد ِ والجرادِ .. بين الصُلب والترائب
ليس سوى الغرائب

الإمارات