لقد حمل هذا العصر الكثير من التعقيدات التي تهدد الوجود البشري وتنذره بالفناء، فأسلحة الدمار الشامل من نووية وذرية، تجعل كوكب الأرض على كفّ عفريت، إضافة الى تقنيات العلوم الجينية من استنساخ و تدخلّ في عمليات التكوين والتعديلات الوراثية التي تنذر بطفرات بيولوجية لكائنات هجينة قد تخرج عن سيطرة البشر وتفتك بهم، وما يتصل بذلك من أسلحة فيروسية و جرثومية؛ أضف الى كل ذلك التلوث البيئي الذي تسببه الصناعات، وآثاره المدمرة التي أحدثت تغييرات مناخية جذرية ومنها الاحتباس الحراري وارتفاع مستوى المياه في البحار والمحيطات، مما يشكل كارثة بيئية وانسانية حقيقية.

ويترافق المشهد هذا مع ثورة اتصالات ولّدت حروب سبرانية شرسة، وأدت الى تدفق المعلومات وانتشارها بشكل سريع، الأمر الذي نقل الحضارة الانسانية الى طورٍ لم تشهده من قبل، ووضعت البشرية امام واقع افتراضي، أربك نظام الاشياء، وجعل من المتعذَّر السيطرة على القوانين، أوحتى مجرد فهم المتغيرات.

كل ما سبق يضعنا أمام تساؤل بالغ الأهمية حول ماهيّة القيم الأخلاقية المشتركة التي ينبغي على البشرية الإلتزام بها ؟ وهل نحن على أبواب عصر عدمي يشهد أفول القيم تمامًا ؟ أم نحن أمام عصر النهايات ، نهاية التاريخ ونهاية الإنسان؟ وما هي حدود مسؤولياتنا كبشر تجاه نفسنا وبيئتنا وتجاه الكائنات الأخرى وتجاه كوكبنا؟ وهل بالامكان الخروج على القوانيين الخاصة بكل فئةٍ وتطوير ميثاق انساني عالمي تتفق حوله شعوب العالم يُشكل أرضية لعمل مشترك يلزم الجميع بإيقاف الحروب والعمل على حماية كوكبنا المهدد بالزوال ؟

إن أزمة اليوم شاملة تطال القيم الانسانية كافّة، وتطال جميع أمم الأرض دون استثناء على اختلاف مصادرهم الفكرية والعقدية التي يرتكزون عليها في بناء قيمهم وقوانينهم، وعلى اختلاف أصول تشريعاتهم إن كانت دينية لاهوتية ، أو وضعية بشتى ألوانها وأشكالها.

اننا ككائنات إجتماعية شئنا أم أبينا لازلنا محكومون بالقيم والقوانين إلى الآن على الأقل ، ونحن مدينون للمعنى الذي تتضمنه القوانين والنظم الفكرية، الذي هو المظلّة الرمزيَّة للنصوص، والجدار الأخلاقي، والعنوان الوجودي لها . إذن وبغض النظر على المرتكزات الأساسية لا بد من تطوير "المعنى والدلالات " إن صح التعبير لمواكبة التغيرات ، إذ الخطورة لا تكمن في التحولات الحضارية العصريّة التي تباغتنا، بقدر ما تكمن في طريقة التعاطي السريع والمرن معها.

فنحن مطالبين اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بإعادة النظر في القيم و عالم المعنى من اجل صياغة رؤية منسجمة عن الواقع بكل أبعاده ومستوياته وهذا يطال بطبيعة الحال سائر مرجعيَّات المعنى، وأشكال مصداقيتها بما فيها دساتير الدول .

إن الدساتير الجامدة التي تعتمدها الديكتاتوريات عادة ما تختزل القيم في بُعدٍ واحدٍ ، وتحصر المعنى بمعنى واحد فقط ، وتحتكر الحقائق، و تكرس عبادة الشخص المتمثل بالزعيم، وهي تناهض "المقدس الديني" بغرض استبداله بصورة الديكتاتور.

ومع ان الحال أفضل في الانظمة العلمانية الديموقراطية التي ترتكز على الحريات الفردية ، إلا اننا نرصد في الوقت عينه "انانية" غير مبررة، وتنصل واضح لتلك الانظمة من مسؤولياتها الاخلاقية حيال القضايا العادلة في المحافل الدولية، معتمدة سياسة غض الطرف مرة او الكيل بمكاييل متعددة مرات أخَر.

خلاصة القول إن شعوب الأرض مطالبة بأقصى درجات الانفتاح على بعضها بالبعض والتعاون الحثيث والكثيف فيما بينها – ولعل جائحة كورونا أثبتت ان البشرية كلها في قارب واحد مشترك- وان هذا الانفتاح يتطلب من المعنيين، من قادة الفكر والمستقبليات بتطوير الانظمة وقوانينها ودساتيرها اولا بما يضمن مرونة لمواكبة المتغيرات العصرية، وذلك انطلاقا من أن للواقع مستويات عدّة تحكمها أنماط متنوعة من المنطق، وأن الواقع يشتمل على الذات والموضوع و"نصوص القوانين" ، وهي كوجوه ثلاثة للواقع ذاته، وعملية اختزال وجه من هذه الوجوه يؤدي الى جمود مدمر يبقي الشعوب كمومياء في ثلاجة التاريخ .

فجوهر "القوانين" ينبغي أن يكون مرنًا و يكفل التناغم بين الذات والموضوع ، عندئذٍ لا يمكن الوقوع في فخ التأويل الواحد وبالتالي لا يمكن أن الادعاء بحصرية الحقيقة ، إذ أن الحقيقة ترتبط بالواقع المحيط بها، فما يبدو صائبًا في لحظته، في مكانه، لا يكون كذلك في لحظة أخرى في مكان آخر او في واقع مغاير.

أما على صعيد العلوم البحتة والتقنية فينبغي ان تكون في خدمة الحياة لا تدميرها، وأن تكون النظم الاقتصادية في خدمة الانسان حيث ان منطق المردودية من اجل المردودية المعمول به حاليا يعد مروعًا .

وعلى الدول "المتطورة" مسؤولية جادة وحقيقية لمساعدة الدول الأكثر فقرا في ردم الهوة المعرفية من جهة، وفي تأسيس ميثاق أممي عالمي من جهة أخرى ، يضمن ضبط العلوم التقنية والاقتصاد العالمي بشكل لا يهدد الحياة برمتها، ويضمن حد أدنى من التكافل والتعاون بين الشعوب، وذلك من خلال الانفتاح بعزم فيما بينها، والاعتراف بالأرض كوطن لجميع البشر وان الحفاظ على مواردها مسؤولية الكلّ، وانه لا يمكن أن ينعم البعض بالأمن والخير إن حُرم البعض الآخر منه، وأن كرامة الكائن البشري هي أولى الأوليات .

الصورة الى الآن لا زالت شديدة القتامة، اذ لا زالت دول كثيرة الى الان غير ملتزمة بأبسط المواثيق الحقوقية والانسانية والبيئية ، ولا زالت المسؤولية الدولية عن النتائج الضارة الناجمة عن أفعال لا يحظرها القانون الدولي محط سجال وتجاذبات ، فيما كوكبنا كله بما فيه مهدد بالزوال عن بكرة أبيه !