في البدء كان الاختلاف... ومازال مستمرا في ظل صراع الهويات والحضارات، وهو يطرح نفسه بقوة في كل ثقافـة إنسانية. ويخترق كل اجتماع بشري، إذ لا يوجد مجتمع يخلو من التعدد والتنوع، ولا أمة تعرى من الانقسام والفرقة. كذلك هو ظاهرة منتشرة في كل مكان في الحياة النظرية والعملية للإنسان. يتجلى ذلك في أشكال مختلفة، بدءًا من الجدل الخبيث إلى المناقشة المهذبة والمنظمة. وقد يؤدي إما إلى نزاع لا يمكن التوفيق فيه، أو يمهد الطريق لحل النزاع. ذلك لأن التجانس المطلق هو الموت. وقد عبر المعري عن ذلك أبلغ تعبير بقوله: رُبّ قبر قد صار قبرًا مرارًا ضاحكٍ من تزاحم الأضداد.
والاختلاف يحدث في الحياة الاجتماعية الخاصة واليومية، في قاعة المحكمة وفي السياسة، وكذلك في العلوم والفنون والفلسفة واللاهوت. أينما حدث، فإن الجدل يشحذ التفكير النقدي ويمنع الركود العقلي والاجتماعي. بدلاً من أن يكون الجدل ظاهرة هامشية.هو محرك التقدم الفكري والعملي.أنه بمثابة بطارية نفسية لشحن الطاقة الإيجابية عند الأنسان.
لقد ظهر الاختلاف يوم برز تفاوت بين أفهام الناس في مداركهم العقلية وتباينت أغراضهم ومقاصدهم ومصالحهم، واضطربت المواقف والمعتقدات بينهم حول رؤية العالم، وظهرت النزعة الفردية للإنسان والشعور بذات مستقلة تدفع إلى التميز والتفرد. وتحولت الذاكرة الجماعية المثقلة بالجراح والإهانات والميراث المليء بالكراهية والحقد إلى مصدر إزعاج وتوتر يعوق التقدم ويمنح انبثاق الحياة المشتركة. حيث الاختلاف خاضعًا لأربع ركائز للعقل: الهوية، والمعارضة، والتماثل، والتشابه.

سأقرب الصورة بشكل أوضح، الرجال الذين ذهبوا "لرؤية" الفيل. كل أعمى حلل فقط ذلك الجزء من المخلوق الذي لمسه: كان الجانب كالجدار. كان الذيل مثل الحبل. كان الجذع مثل الثعبان، كان كل واحد منهم على حق، وكان كل واحد على خطأ، بالطبع.
هكذا هي الحياة بهندستها الغريبة، وحال الأنسان في تفسير الأمور. ولولا وجود هذا الجدل والاختلاف والتحدي لفقدت الحياة عنصر الجدليّة والاستمرار، وجمال الاختلاف. وقد ميز أفلاطون بين الرأي أو المعتقد الشائع. فالرأي لديه درجة من الذاتية وعدم اليقين. لكن "الرأي" يتراوح من الأذواق أو التفضيلات، من خلال وجهات النظر حول الأسئلة التي تهم معظم الناس مثل الحكمة أو السياسة، إلى وجهات النظر القائمة على الخبرة الفنية، مثل الآراء القانونية أو العلمية.
دائما في الحياة يتكرر السؤال "ما هو رأيك؟" فقد تحصل على رد مثير للجدل، أو قد تحصل على استجابة تقليدية، والتي تفتقر للوهلة الأولى إلى أي جدل. الآراء غالبًا ما يتم انتقادها لكونها إما مثيرة للجدل، أو غير تقليدية، أو كونها مجرد انعكاس من المعتقدات التقليدية. لذلك فان الحقيقة هي بيان ما يمكن إثبات صحته أو خطأه. والرأي هو تعبير عن مشاعر الشخص التي لا يمكن إثباته.
يمكن أن تستند الآراء إلى حقائق أو عواطف وفي بعض الأحيان يكون الغرض منها تضليل الآخرين عمدا. لذلك عند مناقشة الأخلاق والموضوعات الأخرى المثيرة للجدل، كثيرًا ما يسمع المرء الادعاء "هذا مجرد رأيك." وهو ادعاء خبيث خالي من وضوح المعنى، ويجب أن يتم إلقائه في النيران!
علمتني التجارب بان الاختلاف في الرأي نعمة ورحمة، لكنه نقمة عندما يكون مع النرجسي المريض، أو المتخلف العقلي، والمتعصب المؤجر الذي عقله لشيخ قبيلته أو لقائده السياسي أو لرئيس طائفته وقوميته. فالاختلاف بمنطق العلم هو " "اضطراب الوجود غير الأصلي والمكون": فهو يختلف مكانيًا، ويخلق فراغات واختلافات. كذلك هو مكون لكل من المعنى والهوية. غير إن إطلاق وصف "فلسفة الاختلاف" كما يرى الفيلسوف " جاك ادورلو" لا يمر من دون أثارة مشاكل. انه وصف مستمد من النقد الموجه لفكر الهوية. لذلك ليس أمامنا سوى طريق واحد إن «نخرج عبر المفهوم من المفهوم»، لأن الخروج من الفلسفة يظل في حد ذاته فلسفة، لكنه خروج يحمل معنى القطيعة النهائية مع التقاليد.
مطلق القول، إن فكر الإنسان هو مركز الكون. والاختلاف، كما قيل، معطي وجودي، لا يحتاج إلى البرهنة عليه بغير شهادة الحواس وتصديق العقل. وهو يرمي ليس إلى القضاء على التفرد وتذويب الأنا، وإنّما إلى أن يغدو التفرد ضعيفا أمام قوة التعدد، والتوحد ضيقا أمام شساعة التنوع، والاقتصار على الأنا فقرا أمام غنى الآخر، والانطواء على الذات سدا أمام انفتاح الآفاق، والانغلاق على النّفس حدّا أمام لا نهائية الأبعاد الممكنة.
الاختلاف بطارية الحرية، وثراء الأقوال والأفكار، والسعة وتعدد الأراء. وهو عدو التعصب والانغلاق. لذلك قال أحدهم "رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطا يحتمل الصواب " ولما سألوا أبا حنيفة عن رايه في مسالة الصواب المطلق، قال: ومايدريني أنه الخطأ المطلق. لكن الجاحظ كان له رأي آخر: سبحان من جعل بعض الاختلاف، سببًا للائتلاف!