إن الذين سارعوا إلى إبداء الضيق من قرارات الرئيس التونسي، قيس سعيد، وأبدوا مخاوفهم على الديمقراطية، أو الذين اتهموه بالديكتاتورية نوعان.
فالأوربيّون والأمريكيون ديمقراطيون في بلدانهم، نعم، وبدون شك، ولكنهم يبكون على الديمقراطية حسب الطقس وتقلب الرياح، وتبعاً للمصلحة والمزاج والمنافع السياسية والاقتصادية المبيَّتة، فيُسارعون إلى مقاتلة نظام حكم خارج على الديمقراطية في بلد معين، و(يطنّشون)، بل يصاحبون ويساندون من يدوس عليها بقدميه في بلد آخر.
أما العرب والمسلمون الذين بكوا بحرقة على الديمقراطية في تونس، وهددوا الرئيس التونسي وتوعدوه، رفاقُ راشد الغنوشي، فهم من خامته الإخوانية، ومن نفس أخلاقه وانتهازيته وفساده.
وكان يمكن أن نعذرهم ونصدق دموعهم لو كانوا ديمقراطيين، أباً عن جد، وممن يشهد لهم تاريخهم الطويل بأنهم لم يحتالوا على الدستور، ولم يزوّرا، ولم يمارسوا الغدر والقتل والاغتيال والسرقة والاختلاس وخيانة الأمانة.
فكل ما فعله الرئيس التونسي هو أنه خاف على الوطن من الكذابين والمزورين والانتهازيين وتجار الدين والشعارات، فلجأ إلى الفصل 80 من الدستور الذي يتيح له اتخاذ إجراءات استثنائية في حالة تعرض الوطن للخطر.
ولم يكن هناك خطر أكبر من جرائم الاغتيال التي ارتكبها الحكام في الظلام، ومن تبديد الثروة، وتجويع المواطن وإفقاره، وتهديد أمنه وسلامته.
ويكفي الرئيس قيس سعيد أن أغلب قرى تونس ومدنها سرعان ما امتلأت بالفرحين المهللين المزغردين المؤيدين لقراراته التي خلصتهم من (وجع تونس) الثقيل.
ترى هل يستحق على ما فعله لإنقاذ العدالة والديمقراطية كل هذا الكم من المخاوف الغربية والأمريكية على الديمقراطية في تونس، وكل تلك العواصف الشاجبة المستنكرة المهددة المتوعدة من أحزاب الدين المسيس التي لم توفق في منع الفساد والأنانية والاستغلال وشهوة الانتقام من خصومها من أن تكون سمتها الراسخة التي لا تتبدل؟
أول المسارعين إلى الاتصال الفوري بالرئيس التونسي هو وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن. فقد ذكرت وزارة الخارجية الأمريكية أنه دعاه إلى "الالتزام بمباديء الديمقراطية وحقوق الإنسان"، وأبلغه بأن "الولايات المتحدة ستستمر في مراقبة الأوضاع والبقاء على التواصل".
وفرنسا من جانبها لم تعترض ولكنها طلبت الإسراع في "عودة المؤسسات إلى عملها الطبيعي"، والاتحاد الأوربي، هو الآخر، دعا الأطراف السياسية الفاعلة في تونس على احترام الدستور.
والمتحدثة باسم وزارة الخارجية الألمانية أيضا طلبت العودة "في أقرب وقت ممكن إلى النظام الدستوري"، وأوضحت أن بلادها "قلقة للغاية" مما جرى.
ولكن كل هؤلاء الأوربيين والأمريكيين الباكين على ديمقراطية تونس هم أنفسهم الذين تفرجوا ويتفرجون على حملات الفتك الدموي الإيراني اليومي بالمتظاهرين الأحوازيين، ويتابعون أخبار مجازر الإخوان المسلمين وآلاف المرتزقة الإسلاميين المصدَّرين إلى ليبيا، ويراقبون مذابح الحوثيين في اليمن، وكانوا يرون براميل بشار الأسد المتفجرة سنوات عديدة، وعلى حزب الله اللبناني وهو يمزق الدولة اللبنانية ويقتل ويحرق ويفجر ويزرع المخدرات ويهربها إلى الخارج، ويمتدحون ديمقراطية الفصائل الولائية العراقية الإيرانية التي تجيز اغتيال المتظاهرين، وتغييب المعتقلين في سجونها السرية، وتمارس اختلاس الملايين والمليارات، وتقصف السفارات بالصواريخ، ثم لم نسمع منهم سوى التصريحات الخجولة، من باب رفع العتب، وكان في قدرتهم أن يوقفوا أو يخففوا الظلم والقهر والتجويع ولم يفعلوا.
ألأ ترونهم، اليوم، كيف يتحرقون شوقا إلى إعادة نظام الولي الفقيه إلى أحضانهم الدافئة، رغم أنهم لم يتوقفوا عن الشكوى البلاغية الصاخبة، في مؤتمراتهم ومنتدياتهم العالمية، من دمويته وديكتاتوريته، ويعتبرونه الراعي الأول للإرهاب في العالم؟.
هذا عن الديمقراطيين الغربيين. أما عن جوقة الإسلاميين المتّحدين العرب والترك، فحدث ولا حرج.
فالحكومة التركية، وهي الراعية الأولى للديمقراطية في ليبيا وسوريا وشمال العراق، وفي تركيا ذاتها، عبّرت عن "قلقها البالغ"، ودعت إلى إعادة إرساء "الشرعية الديمقراطية". وغرّد إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئيس التركي أردوغان، قائلا، "نرفض تعليق العملية الديمقراطية، وتجاهل الإرادة الديمقراطية للشعب في تونس الصديقة والشقيقة".
أما الحكومة القطرية، وهي حاميةُ الديمقراطية والإنسانية والعدالة في العالم، فلم تتخلف عن دعوة أطراف الأزمة التونسية إلى "تغليب صوت الحكمة، وتجنّب التصعيد"، وتعرب عن "أملها"في أن "تنتهج الأطراف التونسية طريق الحوار لتجاوز الأزمة".
والاتحاد العام لعلماء المسلمين، لصاحبه الإخواني يوسف القرضاوي، ومقرُّه الدوحة أصدر بيانا أعلن فيه عدم شرعية قرارات الرئيس قيس سعيد، وأفتى بحرمة "الاعتداء على العقد الاجتماعي الذي تم بإرادة الشعب التونسي، وينظم العلاقة بين الرئاسة ومجلس النواب ورئاسة الوزراء ويحافظ على مكتسبات الشعب في الحرية وسيادة القانون"، ووصف قرارات الرئيس بالاستبداد والانقلاب غير الشرعي، معتبراً أن ما حدث عودةٌ إلى الوراء، ومخالفة لإرادة الشعب والدستور الذي أقره التونسيون.
ثم أحزابٌ إخوانية بائسة أخرىسارعت إلى أعلان رفضها وإدانتها وتحريمها لقرارات الرئيس التونسي الأخيرة.
"حركة مجتمع السلم"، وهي أكبر حزب إسلامي في الجزائر، وصفت قرارات الرئيس التونسي بأنها "انقلاب على الدستور وعلى الإرادة الشعبية ".
و"حزب المؤتمر الشعبي" الذي أسسه حسن الترابي في السودان جرّم (الانقلاب) في تونس، قائلا: إننا "ندين الانقلاب الجاري في تونس الشقيقة على يد محور الشر العابث، ونؤكد على ضرورة احترام حق الشعب التونسي في اختياره السياسي الحر الذي جاء ببرلمانه المنتخب". ثم دعا جميع أحرار العالم، والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية المحلية والدولية والإقليمية، إلى "الوقوف ضد هذه الإجراءات التعسفية، ومحاولات عسكرة الحياة السياسية لصالح قوى الاستبداد في المنطقة".
وحزب جبهة العمل الإسلامي الأردني أعلن أن ما يجري في تونس مخطط لقوى الثورة المضادة التي "تستهدف إرادة الشعوب، وإعادتها إلى سلطة الاستبداد". ‎
وجماعة "العدل والإحسان"، وهي أكبر جماعة إسلامية في المغرب، دعت جميع القوى التونسية إلى رفض القرارات الأخيرة، واعتبرتها "انقلابا واضحا مدانا على التجربة الديمقراطية".
وهنا لا يبقى لنا سوى أن نستمع إلى التونسيين والليبيين والعراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين والغزّاويين وباقي العرب والعجم ومجلس الأمن ومفوضية حقوق الإنسان الدولية، جميعا، وهم يحدثوننا عن حقيقة هؤلاء المتباكين على الديمقراطية المغدورة في تونس، وعن تاريخهم الطويل العريض في ذبح الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وسلطة القانون. وهذا يكفي.