تفتح الانسحابات الصورية المتزايدة من الانتخابات العراقية المبكرة المزمع إجراؤها في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) القادم، باب المزايدات السياسية قُبيل الدخول في العملية كما شهدناه خلال الانتخابات الأربع السابقة، أما الجديد هذه المرة فهو أن الانتخابات نفسها قد تحولت إلى أداة للمزايدة والتجني؛ فهناك كيانات سياسية بارزة ومؤثرة أعلنت انسحابها وعدم مشاركتها، ولكن المفوضية العليا للانتخابات تؤكد عدم تلقيها أي طلب رسمي بذلك.
الأحزاب والكيانات التي أعلنت الانسحاب كالتيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، والحزب الشيوعي، وتحالف المنبر العراقي بزعامة أياد علاوي رئيس الوزراء الأسبق، وجبهة الحوار الوطني برئاسة صالح مطلك نائب رئيس الوزراء الأسبق، ساقت في أثناء إعلان قرارها مبررات واهية لا ترقى إلى حد مقاطعة العملية، فالعراق يعاني منذ 2003 من التحديات الأمنية، والفساد الإداري والمالي، والسلاح المنفلت، وتزايد المجاميع الخارجة عن القانون، واغتيال الناشطين والإعلاميين، وقتل المتظاهرين، وضعف الدولة والمؤسسات، وهشاشة سيادتها، وكذلك الخوف من التزوير والتلاعب بالنتائج، وبالتالي لا تشكل هذه الحقائق حجة لعدم المشاركة في انتخابات غايتها في الأساس تغيير الواقع السيء والسير به نحو الأفضل، مع العلم أن هذه الأحزاب كانت في طليعة الداعين إلى المشاركة الفاعلة في العمليات السابقة حين كانت الدولة تواجه الفوضى وانعدام الأمن والأمان، فماذا تغير الآن؟
اعتاد الناخب العراقي خلال الحملات الدعائية التي صاحبت كل انتخابات، سماع الشعارات الرنانة التي تتغنى بحب الوطن، وصون كرامته، والمحافظة على أرضه ومياهه وثرواته من أيدي العابثين، وكذلك تلقي الوعود الانتخابية بتوفير فرص العمل والقضاء البطالة، وتقديم الفاسدين إلى العدالة، وتخليص البلد من آثارهم، ودعم سيادة القانون، ومحاسبة كل من تسوِّل له نفسه المساس بأمن البلاد واستقرارها، ولم يرَ شيئًا من ذلك، أما هذه المرة فتكاد الانتخابات نفسها تتحول إلى نقطة محورية في تلك الحملات، وتمسي مادة دسمة لإعلاء الشأن، وضرب المناهضين، والتنكيل بالمنافسين، ووسيلة رخيصة لكسب الأصوات واستغلال النقمة الشعبية لحصد التعاطف الجماهيري، فالمواطن بات يسمع ويرى تصريحات وبيانات تحرض على المقاطعة وعدم المشاركة فيها والحكم المسبق على فشل العملية وعدم نزاهتها، واختلالها، فيما لا تبدو هناك نية حتمية بالمضي في ذلك، فهناك مؤشرات جلية على عدم الجدية والإصرار لتنفيذ الأقوال عملًا على أرض الواقع، فالحديث عن الانسحاب يكتنفه الضعف والتردد والميوعة، ولم يخلُ من خطوط رجعة أملًا في العودة والدخول بقوة أكبر في العملية كما يرى الكثير من المحللين والمراقبين.
في المقابل بدأت جبهة أخرى بالتشكل كائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق، وتحالف فتح بزعامة هادي العامري، وائتلاف النصر بزعامة حيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق، وتحالف قوة الدولة الوطنية بزعامة عمار الحكيم، وهي تنادي بقوة للمشاركة الفاعلة والواسعة في الانتخابات كمبدأ أساسي للديمقراطية ووسيلة سائغة للتغيير وتحسين الحكم وإدارة الدولة. هذه الجبهة تحاول استغلال فرصة غياب بعض الأحزاب الفاعلة لتزيد من مقاعدها البرلمانية وتثبت أقدامها في مفاصل السلطة أكثر.
الأحزاب الملوحة بالانسحاب يبدو أنها استشفت أمر تراجع مؤيديها وأصواتها في ضلّ القانون الانتخابي الجديد وتأثير الأحداث التي شهدتها البلاد مؤخرًا وبالتالي تحاول كسب جبهة الشارع التي سيكون لها كلمة الفصل الأخيرة، في حين أنها لا تريد خسارة مواقعها التي تبؤتها في العملية السياسية بعد جهد جهيد، وهي تضع نصب أعينها أن المقاطعة ستفقدها مكاسبها وتبعدها عن الحكم كما رأيناها تفعل مع الأحزاب السنية التي قاطعت انتخابات 2005، لذلك لا تريد تكرار التجربة نهائيًا، كما أنها تعلم جيدًا أنها لو دخلت العملية بوضعها الحالي فستفقد الكثير؛ لذلك تحاول التوفيق بين الأمرين والإبقاء على الخيار قائمًا.
الانتخابات ماضية في ترتيباتها كما أعلنت المفوضية، وأغلب الظن إجراؤها في موعدها المحدد كما تصر وتؤكد الرئاسات الثلاث والأمم المتحدة والولايات المتحدة، وإذا لم تتوسع دائرة الانسحابات كثيرًا ولم تطرأ مستجدات تستدعي التوقف، فستجد الأحزاب التي هددت بالمقاطعة نفسها بين خيارين أحلاهما مر، فإما أن تمضي قدمًا في قرارها إلى النهاية وهو ما يعني حرمانها من الكثير، أو تسلك طريق العدول والتراجع والمشاركة على مضض، وفي كلتا الحالتين يبدو أنها ستخرج من المولد بلا حمص.

صحافي من كوردستان العراق