في السبعينات حين تفتحت مداركي كنت شغوفا بقراءة التاريخ تحديدا، ونتيجة تلك القراءات وجدت أن أصل المدينة التي أنتمي اليها ( أربيل )، كانت تسمى فيما مضى بمدينة ( أربائيلو ) والتي تعني مدينة الآلهة الأربعة.. ياللهول!!.. أربعة آلهة في مدينة لا تعدو سوى قلعة رابضة في سهل المدينة !!. هي كانت بالأساس مدينة وثنية، لكنها تعترف بالتعددية.. وهكذا يتبين لنا أنه منذ آلاف السنين كانت هناك حرية العقيدة والإيمان..

وتاليا، تحولت المدينة من الوثنية الى المسيحية، وتاريخ بلدة ( عينكاوة ) التي تقع بضواحي مدينة أربيل تؤكد ذلك، فهي بلدة يسكنها المسيحييون منذ آلاف السنين، وقد يكونوا هم أقدم من الشعب الكردي الذي يبدو أنهم نزحوا إليها من القرى والبلدات المجاورة للمدينة وقلعتها.

نحن نتفاخر بأن قلعتنا في أربيل ظلت طوال سبعة آلاف سنة مأهولة بالسكان ولا زالت، لكننا نتناسى القوم الذي سكنوا هذه القلعة، وخلافنا السفسطائي مستمر بدون أية نتيجة حاسمة. فهناك من يقول بأن الكرد سكنوها وحافظوا على أصالتها، ولكن هذا يتعارض مع الأبحاث التاريخية التي تؤكد ما أشرنا أليها في صدر المقال. على كل حال لنترك هذا الجدل العقيم جانبا، ودعوني أدخل في صلب الموضوع.

في شبابي كنت أرى في مدينتي الكثير من أبناء بلدة عينكاوة من المسيحيين، وكان أكثرهم يعمل أو يدير محلات داخل مركز المدينة لا أحد يستطيع أن يميز بينهم وبين السكان الكرد المسلمين، فنجدهم يرتدون نفس ما نرتديه نحن من ( الشروال ) ويعتمرون نفس العمامة الكردية، ويتحدثون لغتنا بكل رصانة. والأغرب من كل ذلك كنت أتعرف على أسماؤهم ( يوسف، عزيز، صباح، جودت، سليم، فؤاد، ماهر، سعدي..الخ ) ثم طغت بينهم أسماء كردية مثل ( سوران، كاروان.. الخ ). بل الأعجب أنني قابلت في إحدى لقاءاتي الصحفية مدير مؤسسة حكومية في بلدة عينكاوة يسمى ( فاروق ) وهو مسيحي وإستغربت كثيرا لأن هذا الإسم هو اللقب الذي عرف به الخليفة عمر بن الخطاب ثاني خلفاء الاسلام وأحد أصحاب الرسول عليه السلام ومن أقرب المقربين اليه.

منذ فجر البشرية دارت صراعات وحروب دينية بين أبناء البشر، حتى الوثنيين من عباد الشجر والحجر والحيوانات كانوا يتصارعون فيما بينهم. ثم توالت الصراعات بين اليهودية والمسيحية، ثم بين الاسلام والمسيحيين، وتفرعت عنها صراعات المذاهب والطوائف، ولم يسلم دين من هذه الصراعات، فاليهود إنقسموا الى طوائف متعددة، والمسيحية تصادمت طوائفها وكنائسها. والإسلام شهد صراعات مريرة بين أصحاب مذاهبها. حتى أن الصراع بين هذه الطوائف وصل الى مواجهات دموية خصوصا بين الشيعة والسنة، بل وحتى بين الأحزاب السياسية داخل الطائفة الواحدة. والمؤسف أن كل تلك الصراعات كانت تبدأ وتنتهي بإراقة أنهار من دماء أصحاب الدين الواحد، وما زالت المعارك مستمرة الى يومنا هذا. فالكل يرى في نفسه أنه حزب الله المفلحون أو أنه من الفرقة الناجية!. وأقسم بالله العظيم أنني لو وجدت في القرآن الكريم ولو إشارة واحدة تحدد تلك الفرقة الناجية لأنتميت اليها حالا لكي أضمن الجنة لي بيوم القيامة. ولكن حتى هذا الحديث الذي يشار اليه أنه صدر عن الرسول الكريم فإنني أنزه رسولنا العظيم الذي أرسل رحمة للعالمين أن يفضل مسلما أو جماعة على أخرى. فأكثر الظن أن هذا الحديث المنسوب الى الرسول هو حديث كاذب ومختلق من قبل بعض الفرق أو المذاهب أو فقهاء السلطان، فلا يليق بمن يصرخ يوم القيامة ( أمتي.. أمتي ) أن يقول مثل هذا الكلام.

على كل حال، ينص معظم دساتير الدول الإسلامية، أن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. ورغم أن أكثر دولنا الإسلامية في الواقع تضم أقليات مسيحية ويهودية وإيزيدية وصابئة وغيرها من الطوائف الدينية التي لكل منها كتابها المقدس، فإن الدول الإسلامية غالبا ما تضع هذه المادة في صدر دساتيرها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو، كيف يلزم من هو على غير دين الدولة أن يلتزم بتشريع قد يخالف شريعة دينه؟.

فهل يصح مثلا أن تفرض دولة مسيحية على مواطن مسلم أن يعلق صليبا على رقبته؟. طبعا هذا غير وارد في الدول المتحضرة. وبالمقابل لا يمكن أن نرغم المسيحي أو غيره في الدولة الإسلامية أن يكشف عن هويته الدينية. اذن من المفترض أن يراعي الدستور الحالات التي تتناقض مع عقائد الآخرين. والأصح هو أن يأخذ الدستور الجانب الإنساني قبل أن يعبر حصرا عن شريعة اسلامية أو مسيحية. فدساتير الدول المحترمة لا تركز على جوانب شريعة دينية محددة، بل على الجوانب الإنسانية وحقوق المواطن وواجباته، والقوانين المستمدة من روح الدستور تعتمد مبدأ العقاب والثواب دون الإلتفات الى الهوية الدينية للمواطن.

ثم لماذا يرغم المواطن في بلده أن يكشف إنتمائه الديني في الوثائق الرسمية للدولة؟. فمن المعروف أن هويات الأحوال المدنية أو البطاقة الشخصية في معظم البلدان الاسلامية تحوي خانة الديانة التي يجب أن يكشف فيها المواطن ديانته، ولا أعرف ما جدوى ذلك ؟ ولماذا يجب أن يعرف ديانة المواطن في وثيقة رسمية، فما الفرق بين هذا المواطن أو ذاك؟.

طوال آلآف السنين عانت البشرية من ويلات الحروب الدينية والصراعات الطائفية بسبب الهوية الدينية، والإسلام تحديدا عانى في العقود الأخيرة من هذه الصراعات، فلا ننسى الحرب الطائفية التي إستعرت في العراق بين عامي 2006-2007، حين كانت طائفتا السنة والشيعة يقتلون بعضهم البعض على الهوية، بل أن كثيرين لقوا مصرعهم بسبب أسمائهم، كما لا ننسى الهجمة الدموية الشرسة من داعش على الطائفة الايزيدية في شنكال العراق.

لقد عانينا في المجتمعات الإسلامية من سياسات السلطات الطائفية الحاكمة من جهة، ومن تسلط الأفكار الرجعية والسلفية المختلفة من جهة أخرى، وقدمنا مئات الألوف من الضحايا في حروب وصراعات دينية عبثية لا طائل منها، وساعدت دساتيرنا وقوانيننا في تغذية تلك النعرات الطائفية والدينية، وقد آن الأوان لكي نجرب طريقة أخرى للتعايش بيننا كمواطنين في بلد واحد، وأن نسعى لتغيير دساتيرنا وقوانيننا بما يتلائم وروح العصر وتقودنا نحو مجتمع سليم صحي ومتكافيء، مجتمع لا يسأل فيه المواطن عن إنتمائه الديني أوالمذهبي، وأول خطوة بهذا الإتجاه هي رفع خانة ( الديانة ) في الوثائق الرسمية، ثم تعديل القوانين بما يكفل حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن ديانته، فالدين لله والوطن للجميع.

وكما قال عز من قائل " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ". صدق الله العظيم..