ليس الاجتماع الصغير الذي عقد في أربيل هو الغريب، ولكن العواصف والأعاصير التي أعقبته هي الغريبة التي لم يكن لها مبرر.

فالمرحّبون المهللون، صراحة أو بالإشارة، ومنهم الإسرائيليون، لا يدركون أنه فقاعة لا قيمة لها.

كما يبدو أن الرافضين الشاتمين المهددين قد اعتبروها رسالة مشفرة إسرائيلية تبشر بعمل دولي قد يغير وجه المنطقة، ويعيد ترتيب أوضاعها، خصوصا بعد الانسحاب الأمريكي الموعود، وفي ظل الانعطافة الأمريكية النووية نحو المحيطي الهادي وترك المنطقة نارها تأكل حطبها، ومنح إسرائيل حرية الحركة لتحقيق مكاسب جديدة تحلم بها وتحتاج إليها.

فرغم أن الحاضرين الذين رأيناهم في القاعة هم عراقيون مجهولون لم يُعرف لأي منهم نشاطٌ متميز سابق سياسي أو فكري أو عسكري يُعتدُّ به ليجعل لحضورهم أو لخطابهم قيمة، إلا أن الحكومة الإسرائيلية، من رئيسها إلى وزرائها وإلى جميع أجهزة إعلامها، سارعت إلى تحويل الحبة إلى قبة.

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بنيت، إن "إسرائيل تمد يدها بالسلام".ونقلت وسائل إعلام إسرائيلية عنه قوله، إن "مئات الشخصيات العراقية العامة، من السنة والشيعة، تجمعوا، أول أمس للدعوة إلى السلام مع إسرائيل". و"هذه دعوة تأتي من أسفل وليس من أعلى، من الشعب وليس من الحكومة، والاعتراف بالظلم التاريخي الذي تعرض له يهود العراق خاصة أمرٌ مهم".

ثم تبعه وزير الخارجية، يائير لابيد، فقال إن هذا الحدث "يبعث الأمل في أماكن لم نفكر فيها من قبل". "نحن والعراق نتقاسم تاريخاً وجذوراً مشتركة في الطائفة اليهودية، وكلما تواصل شخصٌ ما معنا، سنفعل كل شيء للتواصل معه".

ونشر موقع (دفكا) الإسرائيلي العسكري التابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية، يقول، "اجتمع حوالي 300 من (كبار) الشخصيات السنية والشيعية والكردية في أربيل عاصمة إقليم كردستان يوم أمس الجمعة لمناقشة تحويل العراق الى دولة فدرالية تضم دولاً شيعية وسنية وكردية.

بالمقابل تدافعت أحزاب السلطة إلى الرفض والشجب والاستنكار. وظهر رؤساؤها، بلحمهم وشحمهم، على غير العادة لإدانة الدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل، غضبا لفلسطين، وخوفا على أرضه السليبة.

وغضبت وزارةُ الثقافة والسياحة والآثار العراقية على الاجتماع، واعتبرته "سابقة خطيرة تتعدى على الدستور وعلى رأي الشعب العراقي، وتمسّ كرامة القضية الفلسطينية وحقوق شعبها، وهو ما لا يرضى به العراقيون حكومةً وشعباً".

ونفت صلتها بالتصريحات التي صدرت عن موظفة "في قسم الإرشاد التابع للهيئة العامة للآثار والتراث، لا تملك أي صفة تخولها للتحدث باسم الوزارة، وإنما شاركت في المؤتمر بوصفها عضواً في أحد التجمعات".

أما القادة السياسيون والدينيون السنة، وفي مقدمتهم محمد الحلبوسي ورئيس عشائر شمر وكبير أسرة الحردان والوقف السني والمجمع الفقهي السني، فأسباب مبالغاتهم في الاحتجاج والإدانة والشجب والتبرؤ من المجتمعين في أربيل فمعروفة ومكشوفة. فهم ثلاثة.

مدافعون عن مكاسبهم ومناصبهم ورواتبهم التي يتوقف أمر استمرارها على رضا أبي فدك وهادي العامري وفالح الفياض.

أو خائفون من غضب حزب الله والعصائب وفصائل الحشد الشعبي الممسكة بجميع مفارق الطرق والمنافذ والمتاجر والمزارع والمساجد في مدن المحافظات السنية المغضوب عليها، أصلا، ولا يحتاجون إلى مزيد.

أو قوميون عرب ما زالوا، مثل ملايين العراقيين والعرب الآخرين، صادقين في حب فلسطين والدفاع عن شعبها، والحالمين بيوم الخلاص النهائي القريب.

ولكن هؤلاء، مع كامل الاحترام لصدقهم، لا يرون الذي تغير والذي يتغير في المزاج الشعبي العراقي، خصوصا من أن دخلت مليشيات إيران العراقية لتذيق أهل هذه المحافظات أنواعا من من الظلم والقهر والإذلال والاغتصاب والاغتيال والاعتقال ما لم يفعل حتى رُبعَه الإسرائليون بالفلسطينيين.

لقد كان الذي ينبغي عليهم الوقوف عنده هو البحث عن المسؤول الحقيقي الذي جعل مثل هذه الأفكار والدعوات التي كان أصحابها لا يجرؤون على التصريح بها حتى لزوجاتهم تخرج إلى العلن، دون خوف ولا حياء.

هل كلف أحدٌ منهم نفسه فقرر أن يتأكد من حقيقة المزاج الشعبي العراقي العام، خصوصا في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين".

هل كان مدبر الاجتماع المدعو وسام الحردان والفئة القليلة التي كانت معه، هم وحدهم فقط الذين لم يعودوا يعتبرون إسرائيل عدوهم رقم واحد، وجعلوا إيران، ومليشياتها وجواسيسها وذيولها، هي العدو التي يتمنون طرده من محافظاتهم، حتى لو استعانوا بإسرائيل ذاتها؟.

وقد كان الأمل أن تكفر أمريكا عن ذنوبها وتقوم بتحرير المحافظات، كلها، وأولها السنية، من الاحتلال الإيراني أو على الأقل من ذويل الحرس الثوري وأعوانه العراقيون المنحرفين، ولكن رئيسها قرر الرحيل وترك نار العرافيين تأكل أحطابهم، حتى لا تبقى أمامهم سوى إسرائيل وهو آخر الدواء على مرارته وأذاه.

وقد كان المنتظر أن يصحو هادي العامري ونوري المالكي وعمار الحكيم وفالح الفياض وأبو فدك وقيس الخزعلي، وبدل أن يتوعدوا النفر القليل الذي حضر اجتماع أربيل بالثأر والانتقام، كان عليهم أن يدركوا أنهم هم السبب الذي يدفع بالمضطر إلى ركوب العيب.

وكان عليهن، وعلى الفور، أن يدركوا أن الوقت قد حان لإخراج (مجاهديهم) ومدافعهم وصواريخهم ومكاتب أحزابهم من مدن السنة وقراهم، وأن يَعدلوا، ويعيدوا الحرية والكرامة إلى اليائسين من أهلها. فهذا وحده الذي سيجعل المشاركين في اجتماع أربيل وغيرهم الآلاف، وربما الملايين، يتخلّون عن فكرة الإقليم، ولا يتوهمون بأن التطبيع مع إسرائيل سيحقق لهم الحرية والكرامة والأمن والأمان.

ولكنهم لن يفعلوا. فأمرهم ليس ملكهم، وإنما هو في يد السيد القابع وراء الحدود.