قرار الولايات المتحدة بسحب قواتها من أفغانستان ومن دول المنطقة يعيدنا للتذكير بنظرية فراغ وملء القوة.

هذا الفراغ الذي سيترتب على إنسحاب القوات العسكرية الأميركية يثير تساؤلاً رئيسياً: من هي القوة التي ستملأ هذا الفراغ؟

فالقرار يأتي في سياقات سياسية تختلف تماما عن السياقات السياسية التي سادات فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي من الخمسينات حتى التسعينات من القرن الماضي.

اليوم هناك تحولات بارزة في بنية القوة الإقليمية والدولية، صعود قوى إقليمية طامحة كإيران وتركيا ، وتطلعات قوى دولية لتقاسم قمة النظام الدولى الصين وروسيا. ويأتي أيضا في سياق دور يتجاوز حدود دور الدول ذاتها كدور الفواعل من غير ذات الدول وخصوصا الجماعات والحركات المتشددة كحركة طالبان وداعش والقاعدة والحوثيين وحزب الله وغيرها.

وليس معنى ذلك أن التواجد العسكرى الأمريكي في المنطقة سيضمن إستقرار المنطقة وعدم تدخل هذه الفواعل من الدول وغيرها. فالفرضية الأساسية ان هذه الدول الإقليمية مثل تركيا وإيران والدولية كروسيا والصين أصبح لها وجود وحضور كبير في المنطقة، ولن تجد صعوبة في محاولة ملء فراغ القوة حيث توجد.

وتاريخيا فإن نظرية فراغ القوة برزت بشكلٍ واضح ومهيمن في فترة الحرب الباردة الطويلة والتنافس والصراع بين القوتين العظمتين آنذاك الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي وأرتبطت بالمصالح العليا والأهداف القومية لكل منهما في المنطقة.

وأصبحت نظرية فراغ القوة أحد أهم الإستراتيجيات الأميركية في المنطقة وتزامنت مع القررا البريطاني بالإنسحاب من المنطقة في السبعينات من القرن الماضي. فسارعت الولايات المتحدة لملء هذا الفراغ، وحاول الإتحاد السوفيتي الوصول للمياه الدافئة في الخليج. وسارعت إيران لإحتلال الجزر الثلاث التابعه لدولة الإمارات. وسعت إسرائيل لفرض وجودها كقوة إحادية في المنطقة.

وكل ذلك في غياب الدور العربي وغياب دور الدولة المحورية القيادية في المنطقة. وذلك في أعقاب نكسة وحرب 1967 والتي شكلت تحولاً كبيراً في موازين القوى في المنطقة لصالح القوى الإقليمية والدولية.

وقد ارتبطت السياسية الأميركية وتمسكت بسياسة نظرية فراغ القوة وملئها توافقاً مع الأهداف العليا للولايات المتحدة التي سيطرت على السياسة الأميركية وصولاً لإدارة الرئيس ترامب، ومن قبله إدارة الرئيس أوباما.

وهذه الأهداف تمثلت أولا: في الحفاظ على أمن وبقاء إسرائيل وضمان تفوقها العسكري. وهذا الهدف أحد الثوابت في السياسة الأميركية. وهو الذي يفسر لنا أحد أسباب التواجد العسكري.

ومن ناحية يمكن تحقيق هذا الهدف اليوم بضمان التفوق العسكرى لإسرائيل، والحيلولة دون إمتلاك إيران للقوة النووية.
وثانياً ضمان تدفق النفط وبأسعارٍ معقولة. لكن هذا الهدف لم يعد أحد الثوابت في السياسة الأميركية
وثالثا ضمان أنظمة الحكم الحليفة. ولم يعد هذا الهدف أيضا كما كان سابقاً

والخلاصة هي أن الاهتمام الأميركي لم يعد يتركز على منطقة الشرق الأوسط، وتتطلع إلى منطقة شرق آسيا وهي منطقة الصراع الجديدة بين الصين والولايات المتحدة.

هذا التحول هو الذي يقف وراء قرار الانسحاب الأميركي ناهيك عن الإنفاق المالي الكبير الذي تجاوز التريليون دولار في أفغانستان والحرب الباردة الجديدة لا تسوتجب ان تتبنى نظرية ملء القوة بالقوة العسكرية والأمنية. وهذا هو مفهوم نظرية فراغ القوة.

إلا أن القرار الأميركي يأتي في ظل مدركات قد تكون غير مؤاتية لا للولايات المتحدة ولا لدول المنطقة أولها عدم قدرتها على إستيعاب وفهم عناصر القوة الخاصة السائدة اليوم.

وثانياً التحولات المصاحبة لبنية القوة وصعود القوى الإقليمية على حساب دول المنطقة.
وثالثا صعود القوة الصينية والروسية وما تشكلانه من تحدى للقوة الأميركية ,وهذا قد يتعارض مع مبدأ الرئيس بايدن عودة أميركا لقيادة العالم وإستعادة دور التحالف الديموقراطى الذي تمثله أوروبا. وهذا مالمسناه في زيارته الأخيره لأوروبا.
ورابعا وهذا الأهم أن المنطقة تعاني من مشاكل إعادة بناء القوة، وحالة من الفوضى والتدخلات العسكرية، وضعف لبنية القوة الإقليمية مما يشجع القوى الأخرى على التدخل كما إيران في سوريا ولبنان واليمن، وتركيا في ليبيا والعراق وسوريا، وهناك إمتداد النفوذ القوي لروسيا في المنطقة.

السؤال هنا: ما هي السيناريوهات التي يمكن تصورها للقرار الأميركي أولا سيناريو تسارع القوى الإقليمية لملء هذا الفراغ، وهي الأكثر إحتمالا.
والسيناريو الثاني تسارع الفواعل من غير ذات الدول مثل طالبان في أفغانستان وهو سيناريو قوي.
والسيناريو الثالث تثبيت الوجود الروسي وتحول روسيا لفاعل رئيسي وإستعادة حلم الإمبراطواية السوفيتية في المنطقة، وهو سيناريو قائم على الأرض.

في المقابل، تتمثل السيناريوهات العربية اليوم بسيناريو بناء قوة عربية مشتركه قوامها مصر والسعوديه والأمارات والأردن والعراق، وسيناريو بناء القوة الذاتية والقدرات العسكرية لدول المنطقة؟
والسيناريو الثالث الذي تسعى إليه إسرائيل والولايات المتحدة بناء تحالف عسكرى إقليمي تقوده إسرائيل في مواجهة الخطر الإيراني.

يبقى السيناريو العربي هو الأكثر واقعيةً وتحقيقاً لإستقرار المنطقة. فكل السيناريوهات الأخرى ستعني مزيداً من الصراع وتزايد إحتمالات الحرب الإقليمية. هذه التداعيات السياسية والعسكرية لقرار الانسحاب الأميركي في زمن تحولات القوة الإقليمية والدولية المتسارعة، والتي تسوتجب حراكاً عربياً سريعاً.
دكتور ناجى صادق شراب
[email protected]