أسوأ ما حدث الخميس في الطيونة في بيروت هو إدراكنا أننا لو ابتعدنا آلافًا مؤلفة من الأميال عن مسرح الجريمة، سنشارك فيها بكل ما أوتينا من عواطف وهواجس. فما كنا هناك حين خرج مسلح شيعي متأبطًا الـ "آر بي جي" ليطلق قذيفتها، فعاجله المسلح المسيحي برصاصة أردته، وما كنا نريد أن نكون هناك، لكن هذا الجوال سيء السمعة دسّنا دسًّا في نار هذه الحرب.

هذا مشهد واحد من مئات المشاهد المحزنة التي اضطر اللبنانيون، إلا من شارك في حرب الطيونة الأهلية، إلى مشاهدتها والتفاعل معها، وتوجيه الشتائم إلى كل الناس وكل شيء، وتحديدًا توجيه الشتائم إلى البلد، بأمه وأبيه.

ثاني أسوأ ما حدث الخميس في الطيونة في بيروت هو سردية شيعة حزب الله أن قناصين تابعين لمسيحيي القوات اللبنانية عاجلوا متظاهرين نخبويين سلميين بطلقات في الرؤوس، وهي سردية نفتها القوات اللبنانية، مؤكدة أن لا ناقة لها في مقتلة الطيونة ولا جمل.

حسنًا، إن "مسرح الجريمة" واقع في منطقة يراقبها حزب الله جيدًا، كونها خط تماس قديم، تستقر إلى الشرق منه جماعةٌ يناصبها العداء ويرميها بالتخوين ليل نهار. فإن كان حزب الله أدرى بشعاب فلسطين المحتلة، كيف له ألا يعرف ما تحضره القوات اللبنانية في جواره القريب؟ وإن كان حزب الله يُباهي الأمم بحسّه الأمني الاستخباري، كيف غفل عن قناصين اعتلوا أبنية واقعة أصلًا في الشياح والطيونة، على حدود عين الرمانة "القواتية"، يملكها أشرف الناس ويسكنها أشرف الناس؟ وكيف يأتي الخبر أن بين الموقوفين قناص تابع لجهاز أمني؟ وكيف يفسّر أن يطلق عناصر حزب الله وحركة أمل النار على من ظنوهم قناصين في إحدى الشقق العالية، وكان هؤلاء عناصر في الجيش اللبناني يداهمون شقة ظنوا أن فيها قناصًا؟

ثالث أسوأ ما حدث الخميس في الطيونة في بيروت هو مشهد السلاح المتفلت في أيدي الحزب والحركة، أمام الجيش اللبناني الشرعي، في تذكير فعلي لما حصل في 7 أيار 2008 ببيروت، وفي 11 ايار 2008 في الجبل، حين نأى الجيش اللبناني بنفسه عن هذه الحروب الأهلية الصغيرة، تاركًا حبل الأخوة الحزبيين والحركيين على غاربه، ليعيثوا في بلاد الآمنين فسادًا ما بعده فساد.

ففي الحقيقة، بين ما وصلني من المقاطع المصورة وما شاهدناه على وكالات الأنباء ومنصات التواصل الاجتماعي أكثر من 70 مقطعًا، البطولة فيها لشبان يافعين بسلاحهم الحربي الفردي والمتوسط، وبقاذفات الصواريخ، ينتمون إلى جانب واحد من معادلة "الخضوع أو الحرب": شيعة أمل وحزب الله. لكن.. من كان يقاتل هؤلاء؟ على من أطلقوا ملايين الرصاصات في ميني حرب أهلية دامت أربع ساعات؟ أليس هناك من وثّق بالصورة والصوت مسلحًا واحدًا من مسيحيي القوات اللبنانية؟ أيعقل أن ليس في المنطقة مسيحي واحد يلتقط جواله ويصور ويُرسل ليرى الناس أشكال هؤلاء المسلحين وألوان بذّاتهم العسكرية؟ أكانوا أشباحًا؟ أكانوا خيالات على جدران عين الرمانة وبدارو؟ أرونا لنتعرف على وجوههم، أو على عيونهم الظاهرة من وراء أقنعتهم.. أرونا سلاحهم..

رابع أسوأ ما حدث الخميس في الطيونة في بيروت هو أننا زدنا يقينًا، نحن اللبنانيين العاديين، بأننا ما عدنا نأبه لما يحصل لهذا البلد. فسيّان عندنا اليوم إن عَمِرَ أو خَرِبَ.. إن يحيا أو يموت.. إن ينبعث من تحت الأنقاض أو ينتشلونه فتاتًا.

ربما، قبل أيام، في ضوء تجاذب سياسي بين منظومة الكذب كاملة من جهة وقاضي التحقيق العدلي من جهة، كان ثمة أمل في إمكانية الوقوف إنتخابيًا في وجه المافيا اللبنانية، ولو استظلت رشاشات الميليشيا، لتغيير وجه لبنان الذي صار إيرانيًا إلى درجة صارت بيروت طهران أكثر من طهران نفسها. أما اليوم، بعد أرجوزة حزب الله "طريق العدالة تؤدي إلى الحرب الأهلية"، وبعد تنفيذ الوعيد فعلًا في الطيونة، لا سبيل بعدُ للحياة إلا بالنجاة من هذا اللبنان الذي لا يُشبهنا في شيء، لا في وطنيتنا، ولا في عروبتنا، ولا في سيادتنا، ولا في استقلالنا، ولا في حيادنا.

سقط سبعة بالرصاص في الطيونة.. وسقط أيضًا انتماؤنا إلى "وطن" لا يقبل في جنباته إلا المذهبي القاتل، والطائفي العنيف، والمرتهن للخارج، والذي لا يعترف بآخر لا يطأطئ له الرأس ويقول له "أمرك يا سيّد". لقد قتل حزب الله فينا كل شعور بالانتماء، وكل قبول بالشراكة، وكل إحساس بالشفقة، حتى زرع فينا روح الشماتة بمن ماتوا، وأيضًا بمن رقصوا على وقع "شيعة.. شيعة" ظنًا من – غافلين - أن لهم الأرض هنا إن عاشوا، ولهم الجنة هناك إن هلكوا.

الطيونة مسرح الجريمة، حيث حزب الله قاتل دائمًا.