الراصد لواقع الحراك السياسي، من الخليج إلى المحيط، تتشكل لديه قناعة راسخة، أن الأنظمة العربية الاستبدادية ظلت تحتضن النخب البرغماتية، سواءً أكانت مجموعات مثقفة أو عديمة الثقافة والتجربة، وعليه ظل هذا التوجه ولفترات طويلة من أدوات الحفاظ على مصالح هذه الأنظمة القمعية والمتخلفة التي تمنعها عن حركة التطور السياسي، ونتيجة لهذه التوجهات تحول المجال العام إلى ساحة تمارس فيها كل أنواع الفساد السياسي والأخلاقي.

هذا التدهور طال معظم المجالات بما في ذلك التيارات السياسية والتي تحولت إلى تجمعات تدار عبر قادة العشائر من عمد ومشايخ، وهذا النموذج يتضح أكثر في الدول العربية التي تشهد حضوراً للبعد العشائري كعامل رئيسي في بناء الهياكل القيادية للدولة .

والسودان، كنموذج، كان من المفترض بعد الثورة أن يتجه الناس إلى مربع الدولة المدنية، لكن بدا المجال السياسي كما لو أنه نتاج الصداقات السياسية اللحظية ذات البعد البرغماتي الذي تتحكم فيه المصالح الذاتية، وهذا النمط في بناء العلاقات هو ما نتج عنه (المثقف التقني) الذي يؤدي وظيفة محددة، تكبل حريته الفكرية وتحد من طاقته المعرفية، ومن ثم يتحول إلي مجرد مفسر أو مبرر لهذه السلطة المستبدة. أضف إلى كل هذا ظاهرة موسمية نشاط هذه الأحزاب في عالمنا العربي حيث تتكاثر كالفطر وتحت عناوين ولافتات مختلفة وبالذات في موسم الحملات الانتخابية التي تنظمها وتشرف عليها الحكومات والتي تسعى من خلال إنشاء هذه الأحزاب وإشراكها في الانتخابات إلي تبديد أصوات الناخبين بما لا يحقق الصعود للأحزاب المناوئة، ومن هنا يبدأ السياسيون الانتهازيون في التباري من خلال برامجهم الخاوية والمعدة وفق مقتضيات اللحظة وبالتالي ينتج خطاب سياسي ومقاربات لا تخاطب جذور القضايا الجوهرية والمحورية ولا تنحاز لقضايا الشعب.

ولأن العقل السياسي بطبيعته عقل سلطوي غير معني بقضايا الخدمات التي تهم المواطن البسيط تتحول كل الشعارات إلى مجرد وعود كاذبة فارغة القيمة تزيد وتفاقم حالات البؤس المتفشي في ربوع الوطن العربي. المؤسف هذه الحكومات لا تواجه بحراك سياسي قوي وناضج، لأن المثقفين الحقيقيين لاذوا بالصمت وغادروا المكان لصالح أباطرة السياسة المتملقين. هذا الراهن الحزبي الهش مقلق ويولد في النفوس الشعور بالإحباط وانعدام الثقة في السياسيين بشكل عام، وهنا تكمن الخطورة، لأن سيطرة هذه المجموعات المتملقة أصاب الشباب بحالة عزوف عن ممارسة العمل السياسي بشكل منظم حيث نأوا بأنفسهم بعيدا عن التيارات السياسية أو المنظمات المدنية.

بكل المقاييس نحن الآن نعيش حالة من النفور السياسي داخل المنظومة الشبابية، على الرغم من أن هذه الطبقة هي التي يعول عليها في اتخاذ القرارات الحاسمة في المستقبل. وهنا ثمة سؤال موضوعي وملح بطرح نفسه/ كيف لهؤلاء الشباب أن يتخذوا القرارات وقد أوصدت في وجههم كل الأبواب؟!.

على أية حال لو استمر هذا الواقع بدون فتوحات شجاعة وراشدة بين المثقف والسلطة سنظل نردد أنه لا سياسة حقيقية في المنطقة العربية. لان البرلمانات التي من خلالها يمارس العمل التشريعي بشكل ديمقراطي تحولت إلى تجمع للبراغماتيين حيث انعدام الغايات الكبيرة والرصانة السياسية وندرة المناضلين النبلاء. بل المؤسف جدا أن هذه البرلمانات وبشكل علني تحولت إلى سوق للبذاءات ونادي لكثير من الساقطين والمتطرفين بل تحولت إلى منصات للخطاب الشعبوي وسوق لشراء الذمم.

وفي ظل هذا الراهن المظلم لا تعدو السياسة أن تكون سوى ممارسة فاقدة للشرف كونها ممارسة تعوزها القيم وتفتقر إلى المبادئ، بل يغيب عنها المفهوم الأعمق وهو مفهوم (التعاقد) بين المثقف الحر والسياسي الواعي والمواطن النافع.

شكلت ثنائية (السياسي والمثقف) في العالم العربي فضاء لمحاولات التقزيم من بعضهما بمعايير التأثير على الشعوب لكن، هل يستمر المثقف الحر في حالة تمرد ونقد وهل على مصيره الصدام مع السلطة لكي يتم استبداله بمثقف انتهازي، أم يستسلم لإكراهات السلطة وتكون المحصلة هذا المشهد الذي يسيطر على العالم العربي اليوم؟

في تقديري الخاص أن السياسي الواعي هو الذي ينزل عند رأي المثقف دون حساسية كون المثقف هو مرآة تعكس واقع التغيرات على الأرض ومن ثم رفد السياسي بمنتوج فكري يسهم في معالجة القضايا المختلفة للشعوب.