بالنسبة لكثير، من الخبراء الحقوقيين والقانونيين الفرنسيين المستقلين، عن الهيئات السياسية، أي مشروع لقانون متشدد، ينتهك حقا أساسيا، مرتبط مباشرة بحرية التعبير عن الرأي؛ ولو عبر سلوكيات وتصرفات، تعتمد على حراك الشارع، وعلى آليات الاحتجاج (احتجاج أصحاب السترات الصفراء ثم بعدها غير الملقحين) يعتبر تجاوزا خطيرا، لأنها رغم كل شيء تبقى في عيون الشعب الفرنسي ، حرية محمية دستوريا.
أما الدفع بحجة: أن تحقيق أمنية حكومة ايمانويل ماكرون، وطموحها في تشريع قوانين من هذا النوع القمعي، ستقتصر فقط على محاربة العنف المنفلت، الذي يتم استغلاله بوحشية، من طرف حركات راديكالية متخفية، معادية لمبادئ الجمهورية، فإنها لا تفعل، إلا أن تزيد من صلاحيات الإدارة الأمنية التابعة لها، والتابعة هرميا إلى قطاع الداخلية، على حساب دور السلطة القضائية المستقلة، عن كل السلط التنفيذية، والتي لها الأولوية دستوريا في التحكيم.
وأي تدبير من هذا النوع، سينقل تطبيق القانون، من دائرة القضاء المختص، في الفصل بين ما هو محظور وما هو مسموح به، مجال الحقوق المكفولة دستوريا، إلى أيدي من يتحكمون في إصدار صكوك المنع البيوقراطي، ويحسنون إداريا باحترافية، التخويف من مواقف الاحتجاج المشروعة مطالبيا (عندما تتفاقم الامور ويتصاعد التوتر) وإدراجها في خانة حالة الطوارئ.
من حيث المبدأ، ضامن الحريات الفردية في فرنسا هو القاضي المستقل، هو الذي لديه مهمة حرمان شخص من حريته، إذا كان ثمة دليل ملموس يدينه. ولا يمثل محافظ الدائرة أو حاكم المنطقة الذي يمثل الدولة ويتلقى تعليماته من الحكومة، هذا الضمان القانوني، لعدم استقلاله بالكامل عن المهمات السلطوية ولتبعيته لجهاز آخر. ربما كل هذا، يستدعي منا الرجوع قليلا إلى المعاهدات، والتعريف بما تتضمنه القوانين، والحقوق المتعلقة، بممارسة حرية التنقل والتواجد في الأماكن العامة، في دولة غربية كفرنسا، عرفت بانها مهد الثورة الديموقراطية والحريات الحديثة.
أولا الفضاء العام، هو المكان الذي يتاح فيه للمواطنين الفرنسيين، ممارسة أغلب الحريات الأساسية، المكان المناسب لكل جماعة، تريد إيصال أراءها علانية أو الضغط انطلاقا من حراك الشارع على السلطة السياسية الحاكمة، بالتعبير عن مطالبها عبر الاحتجاج وممارسة حقها في التظاهر وكذلك التجمع. هذه الحقوق، تستمد طبعا مشروعيتها من المبادئ الأساسية، التي تعترف بها قوانين الجمهورية الخامسة، وغالباً ما تكون مرتبطة ببعضها البعض ونعني بهما حق التظاهر وحق التجمع. فالحق في التظاهر، متفرع من حقوق الإنسان عامة، وحق حرية التعبير (بند أساسي من الدستور) في حين أنه قريب جدا، من حق التجمع، بموجب مادة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، المعترف بها من طرف الدولة الفرنسية.
ممارسة هذه الحريات العامة هي إذن حق محمي، واي عرقلة لهذه الممارسة، بطريقة مستهدفة، مع استخدام التهديدات، هي جريمة يعاقب عليها بالسجن والغرامة. وتزداد العقوبة لمدة سنوات في حالة ارتكاب أعمال عنف، ضد الأشخاص الآمنين أو في حالة التخريب، وإلحاق الضرر بالممتلكات العمومية والخاصة.
ومع ذلك، فإن ممارسة حقوق التظاهر والتجمع في الفضاء العام من المرجح، أن تسبب إخلال بالنظام العام وتؤدي إلى منزلقات، أو إلى مخاطر على الأشخاص المتواجدين فيه، أو على أغراضهم، التي تبرر القيود القانونية والتنظيمية حمايتها. وبالتالي يمكن أن تتصادم مع حقوق أو حريات أخرى، مثل الحق في الإضراب أو حرية العمل.. الخ
في مثل هذه التوترات الاجتماعية، الخيارات الوحيدة المشرفة للسلطات العامة، هو الإشراف على مواكبة مجريات الأحداث التظاهرية، وتأمين نجاحها، وفقا للمواثيق الأوروبية لحقوق الإنسان. التي تقر أن على الدول الأعضاء، التزام ضمان حرية التظاهر، وكفالتها على أرضها السيادية، لأنها مبدأ معبر عن جزء من القيم الأساسية، التي هي جوهر اقامة أي مجتمع ديمقراطي حقيقي.
فإذن لا ينبغي لمشروع قانون بمثل هذه الحدة الانزلاق في هودة التعارض مع هذا الالتزام الواجب من طرف القوات العمومية تجاه حريات الأشخاص. وبالتالي يجب على الدولة حماية اولا حق الاحتجاج وليس الاحتراز منه والتضييق عليه. فخدعة تحويل انتباه الرأي العام لاستنكار العنف الحاصل من أحداث الاشتباك في الشارع والإلحاح فقط على البدائل القانونية الرادعة للوقاية منه، لن تنجح، لأنها بكل بساطة تبتغي إغفال أمر ملح ألا وهو المطالب الاجتماعية المتزايدة في فرنسا، التي تنعش حيوية التظاهر والاحتجاج، وتجعل زخمه يستمر. بالإضافة إلى أن هناك، في سلة القوانين الفرنسية ترسانة تشريعية كافية للغاية، لمكافحة أعمال الشغب التي تشوش على مسار المظاهرات السلمية!!
فعوض عن تشريع قانون مستقبلي تسلطي، يحذر ويقترح الحقوقيون الفرنسيون، إعادة تصور استراتيجية أمنية، أكثر مرونة في التعامل، من خلال تفضيل منطق فتح الحوار، مع الجبهات المحتجة، وإزالة فتيل التوتر، كما هو الحال في البلدان الديموقراطية الأخرى، المؤمنة بشرعية الاحتجاج، كوسيلة لإيصال الرأي، ولو بطرق انفعالية متذمرة من الأوضاع القائمة. لأن في الأخير، تجريم حرية المتظاهرين في النزول إلى الشارع للاحتجاج، وتكبيلها بقوانين اكراهية وظيفتها مطاردة المشتبه فيهم، بذريعة أن لهم سوابق في ارتكاب أعمال العنف؛ نقول تجريم مثل هذه المواقف، يتعارض مع المثل العليا، التي نادت بها جمهوريات فرنسا، عبر تاريخها الديموقراطي المزعوم، ولن يؤدي إلا إلى عدم الثقة، في مبدأ الحاجة إلى السلط الحاكمة وفي شرعيتها الجمهورية السيادية، لتعزيز الديموقراطية المترنحة.