قد يرحل المرء لكن الكلمة لا ترحل ...

بعيدًا عن كل الروايات التي طُرحَت حول مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة برصاصة في الرأس أثناء تأدية عملها، و فوق كل وجهات النظر والتحليلات والاتهامات المتبادلة في جريمة مروعة كتلك، وبغض النظر عن كلّ من أراد ان يركب موجة وفاتها ويستثمرها في مجالات أخرى، إلا أن طريقة وفاتها شكّلت علامة فارقة استقطبت انتباه العالم أجمع، لا سيما الطواقم الصحفية العاملة عند خطوط المواجهة في الحروب والنزاعات، و دفعت بالمواقف الرسمية للدول إلى إدانة هذا العمل المروع والمطالبة بتحقيقٍ واضحٍ بوصفه يخرق كل القوانيين والمواثيق التي تنص عليها شرعة الأمم المتحدّة .

وعلى الرغم من ان الشعوب لم تعد آبهة كثيرا بتلك الادانات، ولم تعد تنتظر تحقيق العدالة في كثير من القضايا العادلة والمحقّة حول العالم، حيث انتهت ملفات العديد من عمليات الاغتيالات في تاريخنا المعاصر في غياهب المجهول، إلا أنّنا شهدنا توحدًّا وتعاطفًا عالميًّا جذب الأنظار مجددًا إلى الأوضاع الغير عادلة التي تقبع تحتها شعوب الأرض المظلومة وإلى ضرورة حماية الصحفيين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يؤدون عملهم.

و بعيدًا عن أي انفعال، وبموضوعية هادئة، ثمة تساؤل حقيقي وجوهري يطال تلك العلاقة بين الصحفي من جهة والجهات الرسمية من جهة أخرى، لا سيما في الدول التي تشهد نوعًا من الديموقراطية والدينامية الفاعلة، إذ أن الديكتاتوريات لا تسمح أصلا لأي نوع من أنواع الصحافة بالعمل على أراضيها، لأنها تشرف بشكل مباشر وكامل على وسائل اعلامها المحليّة التي تلتزم تماما بالبيانات و تنفذ حرفيًّا ما يُطلب منها دون زيادة أو نقصان.

إذن ، ما الذي يدفع بدول تدّعي الديموقراطية إلى التضييق على الصحفيين وصولا الى محاولة تصفيتهم، ولطالما تساءلت عن تلك العلاقة المأزومة بين من هم في "السلطة" ومواقع القرار وبين االاعلاميين، وما الذي يدفع بجهة ما الى اسكات صاحب رأي او كلمة، ولماذا يعمدون الى إلصاق التهم به من أجل محاكمته وتشريده؟

يلوح لي أن أهمية الاعلام الميداني والصحفي تكمن في محورين اثنين، أولا في فعالية الكلمة والصورة، وثانيًا في دور ذلك ومدى تأثيره على صناعة الرأي العام.

إن من أولى خطوات رفع والقهر هو قطع حالة الصمت، فالسكوت هو تواطؤ مع الكذب والظلم، وهنا تتجلى أهمية العمل الاعلامي والصحفي، لذلك فإن مجرد ان تكون صحفيًّا أو كاتبًا ينقل بكل أمانة ما يراه، فإن ذلك يعني أنك تكلمت جهرًا بما لا يرغب به "أصحاب النفوذ" حتى وان كان لإظهار مطالب العدالة، فبالكلمة ورفع الصوت تتظهَّر أولى خطوات المقاومة ضد الطغيان، وهي نقل صورته الى العالم وفضح فظائعه في المجال العام. فالصحافة هي عمل الحاضر الواقعي، اما السياسيون فغالبًا ما يتوهون في متاهات الوعود المستقبلية، حيث يجددون يوميًا الوعود نفسها. فالوسيلة الاعلامية بأدوات الصوت والصورة تشكل اولى معاول الهدم لبنيان الظلم.

وبما ان الصحافة هي عمل ميدانيّ يوميّ فهي غالبًا ما تُظهر هذا التناقض بين ما يدعيه الساسة من وعود، وما هو موجود فعليًا على أرض الواقع، مما يثيرالتساؤلات لدى المشاهد والقارئ. وقد يعمل على تحشيد الرأي العام المؤيدة أو المعارضة لموضوع ما.

ان العمل الصحفي ليس بنية ذات محورين بل ذات ثلاثة محاور، فهو لا يقتصر على نقل الواقع بين طرفين، بين الناس من جهة وبين أصحاب سلطة القرار من جهة أخرى، بل يُقحم محورًا ثالثًا وهو صناعة الرأي العام، و المعركة الحاسمة تكون في كسب الرأي العام.

أما في مناطق الاحتلال أو النزاعات والحروب فإن السلطات المدججة بالسلاح وأصحاب النفوذ هم سجناء بطشهم وسلطتهم، وهم يسعون دوما الى تبرير العنف الذي يمارسونه وهم يرتهنون لنظام من مهامهم الأساسية الدفاع عنه. لذلك فإن الحوار معهم او اقناعهم بعدالة قضية ما تبدو مهمة شبه مستحيلة، لذلك فإن دور وسائل الاعلام سيف ذو حدَّين فإما ان يروج الأكاذيب أو ينقل الواقع كما هو. وفي الدول التي تشهد حراكًا شعبيا او حتى "انتخابيا" تبدو معركة كسب الرأي العام مسألة حاسمة حيث تدفع بالسلطات الى تغيير قراراتها تحت وطأة ضغط الناس.

وبالتأكيد فإن إحداث موجة عارمة من الرأي العام تتناسب و ديمقراطية المجتمعات؛ فكسب هذه المعركة في المجتمعات الأكثر ديموقراطية يبدو اسهل بما لا يقارن في المجتمعات الديكتاتورية، او في المجتمعات القابعة تحت سلطات الاحتلال والتي تعتبر ان الناس المعترضين او المدافعين عن حقوقهم، هم مجرد تخريبيين وخارجون عن القانون، وبالتالي فهي تعتبر ان عملية سحقهم بعنف وبلا هوادة أمرًا "مشروعًا".

أيضًا العمل الصحفي الميداني في مناطق الحروب والنزاعات فهو محفوف بالمخاطر الجسيمة، لأن الاعلام عندها وخلال سعيه لتغطية الوقائع على الأرض بالصوت والصورة المباشرة، فإنه سيخلق موجة من المواقف لدى الرأي العام حول جدوى العمليات العسكرية والمآسي التي من شأنها ان تخلفها الحروب على الانسانية، فالمعتدي المدجج بالسلاح غالبًا ما يحاول ان يعزل المدنيين ويُهمّش مطالبهم، فيما الاعلام يسعى الى ابراز هذه الصورة للعالم اجمع مما يدفع بالسلطات الجائرة والقامعة الى التعاطي مع الصحفيين على انهم أعداء لها أيضًا.

على ايّة حال لا بد من الإشارة أيضًا أن "الرأي العام" ايضا في واقع الأمر قد يكون آراء متنوعة وذلك بحسب التضامن او التعاطف مع قضية ما بين مؤيد لها ومتعاطف ولا مبالي بها او معارض لها، وهنا يبرز دور الاعلام في التوعية او التعمية عندما يُسدد وجهته الى حدث ما بعينه وبوجه خاص دون سواه.

على أية حال، عندما يؤمن الانسان ان ليس ثمة سلام دون عدالة، وليس هناك عدالة دون مواجهة. فإن تمام العدالة تتطلب وسائل عادلة وأعني هنا "لا عنفية" بالتأكيد. والصحفي الانسان بإمكانه عبر نقله لمشاهد القمع والظلم الى آذان واعين العالم حول الأرض ان يضع المجتمعات والدول أمام مسؤولياتها القانونية والأخلاقية.

أخيرًا، تجدر الاشارة الى ان تمادي الظالم في غيّه سيعود بكارثة عليه، ولعل الالتفاف العالمي والادانات الدولية الرسمية ومواقف المنظمات الصحفية والحقوقية الأممية إثر وفاة الصحفية شيرين أبو عاقلة، والذي بدا خافتًا بداية الأمر سرعان ما تحول الى موجة رأي عام عالمي لإدانة "مبطنة" لإسرائيل، وتحوّلت فيه شيرين أبو عاقلة من صحفية - تنقل الخبر باللغة العربية وغير معروفة لكثير من الشعوب - إلى أيقونة عالمية لحرية الصحافة والإعلام وتحول اسمها الى الخبر الأول في وسائل الاعلام العالمية.