يا قدس، يا زهرة المدائن.. غنتها سيدة الغناء العربي فيروز عندما نُكست فلسطين والقدس عام 1967، واليوم حلت بالقدس نكبة جديدة، وهو استشهاد أبنتها العزيزة، وزهرتها الجميلة، المقدسية شيرين أبو عاقلة برصاص الحقد.

عيون العرب ليست وحدها هذه المرة ترحل إلى القدس، فعيون العالم ترنو للأرض المقدسة والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وتتذكر المعابد والكنائس القديمة وأهل فلسطين، لأن شيرين أيقظت فيهم روح الإنسانية، وكشفت لهم همجيّة من أحتل أرضها وجرائمهم الوحشية، وحرقهم لبساتين الزيتون والبرتقال والزهور، وتحويل الأرض إلى مخيمات متناثرة بالفقر والحزن والألم.

في بلدة بيت حنينا في القدس المحتلة وفي منعطف يتجه إلى اليمين ويُعرف مقدسيا بـ "دخلة جنّة عدن" ولدت نجمة فلسطين في ارض الأجداد لكنها اصطدمت برؤيتها للغريب الغازي وهو يكتب لها هويتها وجنسيتها، ويرسم لها خرائط الدخول والخروج. فاستيقظت على ظلم المحتل وعنجهيته، وعلى لص يريد سرقة تاريخ وطنها وتراثه وأغانيه.

من هنا بدأت جيناتها الوطنية تتمرد، ووعيها يورّق مع فسائل الزيتون والنخيل والحمضيات وورق العنب، فاختارت مهنة المقاومة والاستشهاد لنقل الحقيقة وفضح الجرائم؛ ويالها من مهنة مقدسة بالصوت والصورة، وياله من استشهاد مهيب ورأسها ملفوفا بالكوفية الفلسطينية، وجسدها بالعلم الفلسطيني، ومعها درع الرصاص الواقي وخوذتها المطرزة بحروف "صحافة" باللغة الإنكليزية.

استشهدت المقدسية، شهيدة الواجب والكلمة الحرّة. وهي نجمة فلسطين التي فاح عطرها الفلسطيني في كل أحياء وفناءات ومخيمات الأهل، حيث ولدت في القدس واستشهدت في مخيم جنين قرب "شجرة الصحفيين" التي كانت مكاناً لاحتماء الإعلاميين من رصاص الغدر وقنابل حقد جيش الاحتلال. صورة ذكرتنا بمقتل الشهيد محمد الدرّة في قطاع غزة وهو يحتمي بأبيه خلف صخرة عام 2000، بل هي صورة مكررّة للإعدامات الحية التي ينفذها الاحتلال كل يوم بعشرات الفلسطينيين بدم بارد سرا أو أمام شاشات التلفزة مباشرة.

أبو عاقلة صحفية لقضية كبرى اسمها فلسطين التي تأسست في الوجدان العربي منذ عقود، وصارت حلما من أحلام الأجيال المتعاقبة، وأصبحت نشيدا صباحيا في المدارس، ومنهجاً دراسياً في الوطنية والقواعد والنحو والشعر. ربما تقلص الواجب المدرسي والوطني خلال السنوات الأخيرة بسبب الحياة، لكن فلسطين مازالت في الجينات العربية، وبروتيناً يسير في الجسد.

لكن شيرين بقي صوتها عبر ثلاثة عقود تشهق بالقضية والأرض كأنها أغنية فيروزية تنشد من "اجل بهيّة المساكن، ومن تشردوا، وأطفال بلا منازل، ومن دافع وأستشهد في المداخل، ولأجل مدينة المعابد والكنائس، حيث العيون ترحل كل يوم" لأن باب المدينة لن يقفل وهي ذاهبة لتصلي من أجل فلسطين. ولو كان الموت رائعاً لكان هو موت شيرين.

ظلت على مدار سنوات وسنوات تنقل لنا ما يحدث إما بصوتها أو بعدسات الكاميرات، لتفضح للعالم وحشية الاحتلال وهمجيته بحق الشعب الفلسطيني. ربما تذكرت كلمات شاعرها المفضل محمود درويش: الوطن هو الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الأرض والحق معا. الحق معك والأرض معهم. أرضنا ليست بعاقر.

شكرا لشيرين لأنها فجرت روح فلسطين الغائبة في قلوب العرب؛ أيقظت النائم من السبات، وأعادت الأمل لمن فقدها، ورسمت خريطة فلسطين بألوان الحياة الجديدة، ووخزت ضمائر العالم بأبر الإنسانية، وحطمت صورة الاحتلال أمام الرأي العام العالمي الذي كان مخدّراً بأفيون دعاية الكذب والتلفيق، والمريض بنرجسية التفوق وجمود الضمير.

نعرف لماذا أعدموك يا بنت القدس وفلسطين لأنك كنت الشاهدة على جرائم الاحتلال لمدى العقود الثلاثة بالصوت والصورة والوثيقة. لم يتحملوا رسالتك المليئة ببارود الحياة والسلام ومقاومة الظلم، مثلما لم يتحملوا غيابك الجسدي من اجل الحقيقة، ولا تظاهرة تشييع المحبة والوفاء. كانت الهراوات الظالمة والقنابل الصوتية شهادة أخرى للهمجية والخوف من الحقيقة.

شيرين في الحياة والموت، صنعت لنا مترادفات للوجود؛ الإعلامية المقاومة التي كانت تحمل جهاز "السونار" الإعلامي الكاشف للحقيقة، ما بين مقاومة الاحتلال وظلم الغزاة، وهي الإنسانة التي تزوجت فلسطين القضية والموقف، فكانت الأم الحنونة التي دافعت عن أبناءها بنكران الذات. مثلما صنعت بعد موتها أسطورة التوحد؛ مسيحية يرفع نعشها المسلمون، ويتباهون بها كشهيدة، كما يعلو تسبيح المسلمين في الكنيسة في وداعها. هكذا هي صورة فلسطين في إعلانها تحرير العقل، وتخريس الفتاوى المتعصبّة!

شكرا لزهرة المدائن التي عطرت أجواء فلسطين برياحين القدس ومدن الزيتون والكروم. لن ننساك أيتها الشهيدة والشاهدة، لأننا سنتذكرك دوما مع فلسطين، وستبقى عيوننا اليك ترحل كل يوم مع صوتك الحيّ: أنا شيرين أبو عاقلة.

[email protected]