إن من أعظم المكتسبات الفطرية لدى الإنسان هي حريته كحق أصيل له في كل الأديان وجانب مهم في مختلف الثقافات الإنسانية العالمية عبر التاريخ، وبمنطلق تمييز الإنسان من بين خلائق الكون في حريته لخياراته وتنوع سمات عيشه وبعقل يستنتج الأفكار ويستخلص المهارات بآلية مختلفة من شخص لآخر، ولعل أقسى عقوبة قد تقع على الإنسان هو سلب حريته وقطع استطعام لذتها الطبيعية، لذلك شُرع في القانون عبر العصور الإنسانية السجن وقطع الحرية عن المذنب كخيار في تهذيب سلوكه العدائي وفي استتباب الأمن القومي للمجتمعات.
وقد أنصف التاريخ عرض المجتمعات التي يتمتع أفرادها بحرية تمكنهم من الإبداع والابتكار وفي تعاطيهم للحياة فكرًا ومضمونًا كمجتمعات منتجة للحضارة وزاهرة بالثقافة ومزدهرة بالفنون التنموية في عصرها وأٌرخت كمجتمعات تمثل بها نموذج التطلع البشري نحو الإعمار الحيوي والنهوض بجودة حياة تنعكس إيجابًا على بنية الدولة اجتماعيًا وحضاريًا وثقافيًا، ولم يذكر التاريخ المجتمعات التي حكم أفرادها على مرونة الفكر بالتجميد وأغلقوا الباب في وجه الجديد المختلف وأوصدوا بأغلالٍ على نوافذ التباين في سلوك الحياة، بل وردت في طرح العصور الظلامية وزمن التكهيف القسري التي برز اعتمادها على نظام الملاحقات الاستقصائية وحملات التفتيش الفكري والإرهاب النفسي كسيكولوجية يظن أفرادها أنها فطرة سوية وجبلة سليمة.
أما عصرنا الحاضر تنشط المجتمعات أو تتصارع من جانب اقتصادي وسياسي في عرض حضارتها وثقافتها وفنون اجتذابها للآخر المختلف بالتعريف والتعرف، وتحفيز المجال الاقتصادي والثقافي عبر تشريع الأذرعة أمام الجميع وتخصيب الفكر وتمرينة بالتفهم والتقبل ما لم يحمل الضرر المادي والمعنوي، فالدول ذات التخطيط التنموي والتحول الديناميكي الاقتصادي وفق خارطة احترافية تضمن للمجتمع جودة ومستوى حياة يليق بفطرة الإنسان وكرامته و طبيعة حريته؛ يجب أن يعي أفراده هذه الخارطة والجهود المبذولة في حفظ هذه الشعيرة الإنسانية شعيرة اختلاف الفكر وحرية الفكرة.
فالتجييش ضد من لا يتوافق مع المنظار الشخصي للفرد والمختلف معه في الفكر وأسلوب الحياة وطريقة تعاطي الآخر مع تفاصيل الأمور والثقافة الخاصة المختلفة واستعداءه سواء بتوجيه الجماهير عاطفيًا وإثارتها نفسيًا ضده، أو بناء محاكم فكرية في ملاحقة الأفكار المختلفة وتحويل المشاعر ضدها من فرضيات الى حقائق وثم إطلاق الأحكام والألقاب الجائرة لاسترضاء الأهواء والميول الفكرية والمفاهيم الشخصية فثقافة الملاحقة الفكرية: توابيت ظلامية تدفن فيها عقول الإبداع وبنات أفكار المدنية وتهرم بسببها خطط الاقتصاد قبل بلوغها، وقد يدخل منها سماسرة التخريب والترهيب سواء داخل المجتمع أو خارجه.
ولعلي هنا أعرج على عاطفة شعوب منطقتنا العربية ورهان العقول الظلامية المنتفعين من كبواتها بسهولة خلخلة ثقتها تجاه من يملك آلة التطوير و يهندس تنميتها رغم تكرار الكبوات وتشابهها في ذاكرة هذه الشعوب للأسف؛ فتظهر هذه العقول الظلامية النفعية أحيانًا في صور متعددة قد يظهر نزية محارب فساد، وفي مستثقف حاز العلم من قممه، ويكون في صورة محلل المؤامرات والحملات المشبوهة، ويظهر كثيرًا بصورة الغيور الأخلاقي وحارس الفضيلة، وجميع هذه (الوظائف) تنتهي بالمجتمع المستسلم المُسَلم لهم الى الركون والهوان واستمرار استهلاكه الحضاري وضموره الثقافي وفساده الاقتصادي ورخاوته الأمنية.