فوز فخامة الرئيس الدكتور عبداللطيف جمال رشيد بمنصب رئاسة الجمهورية، أعاد تصحيح المسار الكردي بالعملية السياسية في العراق. فمنذ تولي الزعيم الراحل مام جلال لهذا المنصب عام 2005 أصبح المنصب حصة ثابتة للمكون الكردي. وبحسب إتفاق مسبق بين الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) ذهب المنصب الى ممثل الاتحاد الوطني مقابل منصب رئيس إقليم كردستان للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البارزاني، وهكذا سارت الأمور بسلاسة طوال الفترة اللاحقة لتولي الرئيس مام جلال الى يومنا هذا.

لقد كان العظيم مام جلال هو الممثل الشرعي للمكون الكردي في العراق، فقد كان هناك إجماع كامل لترشحه وتبوءه المنصب بمباركة ودعم شخصي من الزعيم الكردي مسعود البارزاني، وكذلك عبر إنتخابه بالإجماع من قبل البرلمان العراقي. ورغم إنتمائه القومي لكردستان وللشعب الكردي، لكنه كان زعيما فوق الميول والاتجاهات، ولهذا أصبح بحق صمام الأمان للعراق. وتمتع فخامته بكاريزما سياسية قوية وسط القوى العراقية نتيجة نضاله السياسي المتواصل عبر نصف قرن ضد الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة على العراق وكونه أحد أكبر رموز الثورة والحركة القومية الكردية في العراق. وكان يتمتع فخامته بأكبر قدر من الإحترام والتقدير في الأوساط الدولية والإقليمية الى جانب القوى السياسية العراقية بمختلف مكوناته العرقية والدينية والمذهبية، ولذلك كان كلامه مسموعا بين الجميع، لذلك تعتبر الفترة التي تولى فيها مام جلال أعلى منصب سياسي في الدولة من أزهى فترات عراق ما بعد صدام حسين. فأي مشكلة حتى وإن كانت كبيرة كانت تحل على مائدته فتتصافى القلوب ويغادر الجميع تلك المائدة بروح من التلاحم الأخوي.

يلاحظ أنه مع رحيل هذا الرمز العظيم دخل العراق في معمعة لا تنتهي من صراعات حزبية وخلافات سياسية وسادت المصالح الذاتية فوق مصلحة الشعب العراقي. وللأسف شهدت الساحة العراقية أزمات كثيرة خلال فترة غياب مام جلال أخرت كثيرا من تقدم البلاد نحو الأمان والإستقرار.

وكانت دورتي الرئاسة للدكتور فؤاد معصوم هي في الغالب إمتدادا لفترة رئاسة مام جلال، لكن في عام 2018 شهدت الإنتخابات الرئاسية إنقساما واضحا بين القوتين الرئيستين الديمقراطي والاتحاد) حين تقدم الحزب الديمقراطي بمنافس بديل مقابل ترشيح الدكتور برهم صالح، فلم يبق ذلك الإجماع الكردي حول المنصب الرئاسي مما ترك آثارا سلبية على مجمل العلاقة بين الحزبين وعلى الوضع العام بكردستان العراق طوال السنوات الأربع الماضية. وعليه لم يكن برهم صالح يمثل الإجماع الكردي حول المنصب في غياب دعم الحزب الديمقراطي الذي يتملك فعليا أغلبية برلمانية في العراق وكردستان. وكادت الخلافات تتجدد مرة أخرى في الدورة الأخيرة بإصرار الاتحاد الوطني على تجديد ولاية برهم صالح مقابل تقدم الحزب الديمقراطي بمرشح بديل.

ولكن على العكس من الانتخابات السابقة كان هناك هذه المرة مرشح توافقي قوي ممثلا بالدكتور عبداللطيف جمال رشيد الذي إستطاع بتحركاته المدروسة وعلاقاته الطيبة والناضجة مع مختلف القوى السياسية أن يطرح نفسه كمرشح بديل تتوافق عليه القوى السياسية العراقية الفاعلة، وهكذا نجح في إكتساح الإنتخابات بدعم من ممثلي الشعب الكردي ليكون هو المرشح التوافقي الأفضل لتولي الرئاسة معبرا عن الإجماع الكردي كما كان الحال في إنتخاب الراحل مام جلال وسلفه الدكتور فؤاد معصوم..

الدكتور عبداللطيف لم يكن فقط عديلا لمام جلال، بل كان زميله ورفيق درب نضاله طوال أكثر من خمسين عاما. لكنه آثر أن يكون في الظل ويمارس دوره السياسي بعيدا عن الصراعات السياسية والحزبية، فلم يتسابق كغيره من السياسيين والحزبين لتولي المناصب الرفيعة لا داخل حزبه الاتحاد الوطني ولا على مستوى مناصب الدولة رغم توفر فرص كثيرة أمامه، حيث أنه تولى العديد من المهمات الصعبة والكبيرة أثناء نضاله الثوري ضد الأنظمة العراقية، فقد كان ممثلا للإتحاد الوطني في قيادة المؤتمر الوطني العراقي الموحد الذي تشكل في بداية التسعينيات، وكان أحد أقطاب المعارضة العراقية بالخارج وله علاقات متينة مع جميع القوى العراقية والإقليمية بمختلف آيديولوجياتها وإنتماءاتها ويحظى بإحترام الجميع.

وكانت خبرته الطويلة في مجال العمل الميداني مع المنظمات الدولية وعقود العمل في مجالات الري والسياسات المائية قد ساعدته في تولي أول مهمة وزارية بتولي حقيبة الري ومصادر المياه لثلاث دورات متتالية بالحكومات العراقية. والى جانب مهماته الوزارية كان لصيقا بالزعيم الراحل مام جلال وساعده الأيمن في بناء وإدامة العلاقات السياسية مع القوى العراقية، وبذلك أصبح هو إمتدادا للإرث العظيم الذي تركه مام جلال لتدعيم الدور الكردي بالعملية السياسية في العراق الجديد.

لقد عايشت الرئيس الدكتور عبداللطيف لثمان سنوات مضت، وعاينت تحركاته السياسية وعلاقاته المتميزة مع القوى السياسية العراقية وكذلك مع الأوساط الدولية والدبلوماسية، وتلمست مدى الإحترام والتقدير الذي يحظى بهما وسط هذه القوى، وعليه فإنني متأكد بأنه سوف ينجح في المهمة الجديدة التي تحمل أعبائها، خصوصا وأنه على غير وضع سلفه يحظى بكل الدعم والمساندة من شعب كردستان أولا بإعتباره ممثله الشرعي، وكذلك دعم حزبه الاتحاد الوطني الكردستاني وبالأخص دعم وإسناد الزعيم مسعود البارزاني. أكاد أرى صورة مام جلال متجلية في شخص الدكتور عبداللطيف كصمام أمان للعراق، وأعتقد أنه سيكون الخيمة التي يستظل بها العراقيون مرة أخرى، وسوف يستعيد ذلك الإرث الجميل للزعيم الراحل مام جلال الذي كرس جل حياته لخدمة كردستان والعراق، فيسير بالعراق نحو المزيد من الأمن والإستقرار والتقدم الحضاري..