قبيْل انعقاد ندوة :"أي نظام عالمي بعد حرب أوكرانيا" في مدينة أصيلة المغربية في بداية الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر-تشرين الأول من هذا العام، سألني السيد جيم غاما، رئيس مجلس الجهورية البرتغالية، ووزير خارجيتها سابقا، والتي كانت لبلاده علاقات وثيقة ومتينة بتونس في زمن الرئيس الراحل بن علي:" من أين جاءكم هذا الرجل؟" (يعني الرئيس قيس سعيد).

وسؤاله كان يعكس استغراب الكثيرين من أبناء تونس، ومن العرب والأجانب. من وصول قيس سعيد إلى كرسي الرئاسة في بلادنا التي تميزت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر بنخبة لها دراية ومعرفة دقيقة بعالم السياسة وأسراره، ولها تجربة مديدة وعميقة في مجال الحكم وإدارة شؤون الدولة. وكان جوابي ونحن على مائدة الغداء بأن الفراغ هو الذي جاء به.

وهذا الفراغ كان نتيجة لتلك الحملات المسعورة التي شهدتها تونس اثر انهيار النظام، ولجوء الرئيس بن علي إلى المملكة العربية السعودية. وكان الهدف الأساسي من تلك الحملات طرد المسؤولين الكبار والصغار في مؤسسات الدولة، وفي وزاراتها، وتعويضهم بأنصار حركة النهضة وحلفائها، والذين لم تكن لهم أدنى دراية بإدارة شؤون الدولة على جميع المستويات.
وفي بضع أشهر، تمكنت حركة النهضة وحلفائها من اليساريين المتطرفين من التخلص من أبرز رموز النخبة الحاكمة. وقد انتهت تلك الحملات المسعورة بفرض الاستقالة على محمد الغنوشي الذي كان وزيرا أول في حكومة الرئيس بن علي، والمعروف بخبراته الواسعة في عالم الاقتصاد.

وكان التونسيون يأملون في عودة النخبة التونسية إلى الحكم بعد انتخابهم للباجي قائد السبسي إلاّ أن هذا الأخير خذلهم حال دخوله إلى قصر قرطاج، مُفضلا التحالف مع حركة النهضة التي وعدته بـ"مستقبل سياسي" لابنه .

وقد ازداد الفراغ السياسي تعمقا إثر رحيل الرئيس الباجي قائد السبسي ليجد التونسيون أنفسهم خلال انتخابات 2019 أمام خيار وحيد: أما قيس سعيد وأما نبيل القروي. وأغلبية الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع فضلوا التصويت لصالح قيس سعيد باعتباره "الرجل النظيف"، و"ابن الشعب" الذي سيدافع بقوة عن حقوق الفقراء والمقهورين، و يضمن للبلاد انتقالا ديمقراطيا حقيقيا كانت حركة النهضة وحلفاؤها قد أفسدوه بألاعيبهم ومؤامراتهم، وبانعدام خبرتهم في إدارة شؤون الدولة.

وكان تفضيل قيس سعيد على نبيل القروي أمرا مشروعا. إذ أن هذا الأخير الملقب بـ"برلسكوني التونسي" اتهم في أكثر من مناسبة بـ"الفساد"، وبـ "التهرب الضريبي". مع ذلك، لم تكن "نظافة" قيس سعيد مؤكدة بحيث لا تثير أدنى شك في مصداقيتها. فالرجل الذي عمل كأستاذ من الدرجة السفلى في مجال القانون الدستوري، والذي لم تعرف له أية خبرة في المجال السياسي على مدى الثلاثين سنة التي أمضاها في الحرم الجامعي، لم تتوفر له أية فرصة لإثبات "نظافته".

وخلال الحملة الانتخابية رفع شعارا غامضا هو :"الشعب يريد". وذلك الشعار خدع الكثيرين من التونسيين فصوتوا له ظانين أنه سينقذ بلادهم من الأزمات الخانقة التي أصابت بلادهم. وللتأكيد على أنه "ابن الشعب المقهور"، شرع قيس سعيد منذ الأسابيع الأولى من انتخابه في التجول في الأحياء الشعبية، لشرب قهوته، أو للصلاة في المساجد التي يرتادها عامّة الناس.

وهذا ما وفر له المزيد من الشعبية. وقد ازدادت هذه الشعبية ارتفاعا لما قرر في الخامس والعشرين من شهر يوليو-تموز ، تعليق أعمال البرلمان ، والتخلي عن دستور 2014 الذي كانت حركة النهضة ضالعة في اعداده.

وبعدها بدأ قيس سعيد يتصرف كما لو أ نه "الحاكم بأمره" مُصدرا المراسيم تلو الأخرى من دون استشارة أحد من الفاعلين السياسيين. بل أنه فاجأ التونسيين بنشر دستور جديد أعده على مقاسه في "الرائد الرسمي" رغم الأخطاء اللغوية الفادحة التي تضمنها. كما أنه فرض، ومن دون استشارة أحد أيضا، قانونا انتخابيا يضمن لأنصاره السيطرة المطلقة على مقاعد البرلمان.

وقد توهّم قيس سعيد أن مثل هذه الإجراءات التي أرفقها بوعود لم يُنفّذ أيّ واحد منها، وبتعهّد واضح وصريح بـ"محاكمة الفاسدين"، والمتآمرين" من دون أن يسميهم، سوف تزيد في شعبيته إلاّ أن هذه الشعبية بدأت تتآكل وتتفتّت في ظلّ مناخ اجتماعي واقتصادي مخيف، بسببه أصبح التونسيون يركضون كل يوم بحثاً عن المواد الغذائية المفقودة. كما أبرزت السنوات الثلاث التي حكم فيها قيس سعيد البلاد الحقائق التالية:

أولها أنه-أي قيس سعيد-لا خبرة له بعالم السياسة ولا بأصولها وخفاياها. لذلك هو يُكثر من اصدار القرارات والمراسيم للتستر على غياب الفعل عنده، وعلى عجزه عن معالجة الأزمات الخطيرة التي تعاني منها البلاد.

والأمر الثاني هو أن الشعار الذي رفعه: "الشعب يريد: "يكشف في الحقيقة عن جهل قيس سعيد بالشعب، واستخفافه بهمومه ومشاغله فهو بالنسية له كتلة هلامية يستغلها بمثل هذه الشعارات الفارغة للحفاظ على رصيده الشعبوي.
والدليل على ذلك أنه لم يتوجه منذ توليه السلطة وإلى حد هذه الساعة إلى الشعب بأيّ خطاب، بل هو يكتفي دائما بترديد نفس الكلام أمام وزرائه، وأمام كبار المسؤولين في الدولة من دون أن يترك لهم الفرصة بالتعليق عليه، بل يظلون جامدين أمامه، فلا تأتي منهم أية حركة أخرى سوى تحريك رؤوسهم من حين لآخر للتعبير عن توافقهم المطلق معه.

وكل هذا يعني أن قيس سعيد يتّبع أساليب الحكام الشعبويين الذين يبالغون في "تمجيد الشعب"، لكنهم ينكرون عليه الحق في التعبير عن الادلاء برأيه في شؤون البلاد، وفي إدارة دواليب الدولة. وهم يفرضون عليه أفكارهم وقرارتهم الخاصة حتى ولو كانت مُتعارضة مع مصالحه، ومنافية لها. ومعنى هذا أيضا أن قيس سعيد يخشى المواجهة المباشرة مع الشعب لأن هذا الشعب "غير مرئي" بالنسبة له. لذا هو يتعامل معه كما لو أنه شيء جامد مسلوب من إرادة الحياة.

إن الحوار الحقيقي مع الشعب لا يتم عبر الشعارات البراقة والكاذبة، وهو ليس هدية ولا تكتيكا للسيطرة، بل هو لقاء بين الحاكم والمحكوم من أجل المصلحة العامة للبلاد، وهو كما يقول البرازيلي باولو فريري صاحب كتاب:" بيداغوجيا المقهورين" شرط أساسي من أجل بناء مجتمع جديد على أسس صلبة ومتينة، ومن أجل تثبيت الثقة بين السلطة العليا والشعب.

الأمر الثالث هو أن قيس سعيد كشف من خلال استحواذه المطلق على كل السلطات أنه يبتغي التمتع بـ"الهيمنة الكاملة" التي هي شكل من أشكال السادية كما يقول باولو فريري. والغرض الحقيقي من "هذه الهيمنة المطلقة" هو تحويل الشعب من "شيء متحرك"، إلى "شيء غير متحرك"، أي جامد وسلبي مسلوب من الحرية ومن إرادة الحياة. كما تكشف "الهيمنة المطلقة" أن التظاهر بـ "حب الشعب"، والمبالغة في ذلك، هو في الحقيقة " حب منحرف، وسادي". وهو في النهاية "حب للموت وليس للحياة" كما يقول باولو فريري .