تتزاحم اجنحة الجمعيات الدينية في الكويت بكل زاوية ومكان وشارع حتى في الأسواق والأنشطة والمرافق العامة وهو دليل على نفوذ تلك الجمعيات وتربعها على عرش من الأموال على خلاف وضع مؤسسات المجتمع المدني الأخرى!

أصبحنا أمام اقتحام ممنهج للمناطق السكنية والدولة ككل من قبل جمعيات دينية كجمعية احياء التراث وجمعية الإصلاح الاجتماعي وجمعيات مثيلة أخرى تحت غطاء العمل الخيري، وهو ما ينذر بصدام ديني مع التيار المدني خصوصاً في ظل تفشي عصبية دينية وقبلية وطائفية.

بلا شك أن التيار المدني ليس بقوة التيار الديني بسبب منح حكومات سابقة الدعم اللوجستي والسياسي للجمعيات الدينية، في حين تجاهلت الدولة دور جمعيات مهنية كان من الممكن أن يكون لها دوراً بترسيخ مفاهيم الاعتدال الفكري وثقافة الاستنارة في المحافظة على الدولة المدنية!

من المؤسف أن جمعيات مهنية ومنها جهات تعليمية ومهنية ونقابات طلابية، تحولت إلى أذرع للجمعيات الدينية الكويتية حتى بالخارج وبين الطلبة في الدول العربية والغربية ايضاً، فبدلاً من عودة خريجيين متفتحين علمياً وفكرياً، نجد أفواجاً منهم تتبنى التشدد الديني!

لسنا ننشد الانحلال الأخلاقي ولا نشر سلوكيات وثقافات شاذة، وإنما ننشد ترسيخ تسامح ديني كما عرفته الكويت منذ نشأتها، وننشد أيضاً أن تسود السيادة لقيم وقواعد الدولة المدنية وفقاً لدستور الدولة وليس وثائق دخيلة على المجتمع والدولة ايضا.

فلا يمكن تحقيق التسامح الديني والثقافي دون إدراك السلطة في الكويت لأهمية قيم وقواعد الدولة المدنية بغية المحافظة على تاريخ ومستقبل البلد وتجاوز الصدام الديني مع التيار المدني من أجل ترسيخ ثقافة التسامح والتعددية الفكرية في المجتمع على نحو مدني دستوري.

لا شك أن المسؤولية تتعاظم على التيارات السياسية والفكرية المدنية التي انغمست، للأسف، في تمايز وخلافات وتشرذم إلى درجة فقدان دورها الاجتماعي المدني وجعل جل اهتمامها على قضايا مُنفرة للرأي العام بسبب طبيعة الخطاب المتحجر في بعضه والمُحتضر في بعضه الأخر!

فالنخب السياسية باتت متهالكة بسبب التشرذم والانقسامات الحادة بينها، مما حفز تلك النخب على الانكفاء وفقدان روح المبادرة والجرأة على مواجهة التشدد الديني والتزمت الاجتماعي تزامناً مع غياب الحزم الرسمي بالتصدي لمحاولات حزبية لتفريغ دستور الدولة من مضامينه لغايات غير مدنية!

نجني اليوم ثمار صمت التيارات الثقافية المدنية المُريب على تحالف تاريخي حكومي مع التيارات الدينية الحزبية، التي باتت مُهيمنة على شتى شؤون الحياة والميادين وتوغلها في مؤسسات الدولة وفي الإدارات التنفيذية الوسطى واللجان البرلمانية المؤثرة تشريعياً خاصة.

مثلا، وزارة الأوقاف ومركز الوسطية ومؤسسات أخرى شتى تتقاسمها قوى السلف والإخوان فكرياً ومنهجياً وكذلك الحال في بيت الزكاة وهيئة طباعة ونشر القرآن الكريم، دون الالتفاف الرسمي لخطورة الانحرافات السياسية والتشوهات الثقافية الممنهجة والفتن الدينية نتيجة عدم تطبيق القانون ومواد الدستور.

ويلاحظ عدم توفر الدعم المادي والسياسي الحكومي لمؤسسات المجتمع المدني مما عمق الانكفاء والابتعاد عن الدور الاجتماعي والثقافي بترسيخ قواعد صلبة للدولة المدنية ونشر وعي ثقافي تنويري وتسامح فكري، على عكس الدعم السخي الممنوح للجمعات والأحزاب الدينية غير المُشهرة رسمياً.

فقد بات واضحاً تلاقي الأهداف للجمعيات الدينية والجماعات الحزبية مع قوى اجتماعية ونيابية متحفظة من جهة، وخشية من المواجهة مع التيارات الدينية المتشددة بسبب عوامل ومصالح اجتماعية وسياسية شتى من جهة ثانية.

ينبغي على أجهزة الدعم الاستشاري الحكومي في الكويت تقديم الرصد الدقيق والتحليل الموضوعي في تقييم مخاطر أفول الدولة المدنية وانعكاس ذلك على النظام السياسي والأداء الحكومي والبرلماني ايضا، فلدينا العديد من تجارب الماضي وحولنا يضا التي ينبغي الاستفادة منها والتعلم منها.