تعود الأصول التاريخية للنظام السياسي الطائفي في لبنان لعام 1840 عندما تم اعتماد نظام القائم مقاميتين، ومن ثم نظام المتصرفية باتفاق تركي-أوروبي، والذي عُمِلَ به من عام 1861 حتى عام 1918، وصولاً الى إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، وما تلا ذلك من استقلال لبنان وما عُرِفَ آنذاك بالميثاق الوطني 1943، الذي وزّع السلطات السياسية الثلاث بين طوائفه الأكبر، انتهاءً باتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، وفيه تم تكريس النظام التوافقي الطائفي بحيث أصبح يستحيل فيه اتخاذ أي قرارات كبرى دون توافق جميع الفرقاء السياسيين الموزعين على أساس طائفي، لهذا أصبح الشغور في المناصب العليا في الدولة أمر شائع ومتزايد، فشاهدنا فراغ رئاسي عدّة مرات وفراغ حكومي وفراغ في العديد من المناصب الإدارية المدنية والعسكرية العليا، والعارفون بطبيعة النظام السياسي في لبنان، يعلمون جيداً مدى صعوبة تمرير مثل هذا النوع من الاستحقاقات من دون الدخول في فترات طويلة من الفراغ، لذلك لا يبدو صادماً لكثير من اللبنانيين خلو القصر الرئاسي اليوم من رئيس الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وفشل البرلمان في انتخاب خلف له بعد مرور ثماني جلسات، الأمر الذي أدخل البلاد في فراغ رئاسي لا يمكن لأحد اليوم أن يتكهن بكيفية الخروج منه أو طول مرحلته أو النتائج التي قد تنتج عنها.

تُبيّن القراءة التاريخية الموجزة لطبيعة النظام السياسي الذي حكم لبنان منذ ما قبل إعلانه كبيراً عام 1920، أنّ أزمة تعاقب السلطة في لبنان لا تتعلق بالانتخابات فحسب، بل ترتبط بشكل رئيس بالنظام السياسي المولد لكل الأزمات، إلى جانب العامل الخارجي الحاضر دائماً، والذي يؤدي دوراً كبيراً ومؤثراً في الحياة السياسية اللبنانية.

صحيح أن الدستور اللبناني واتفاق الطائف لم ينصّا صراحةً على نمط للحكم السائد في لبنان والمعروف باسم "الديمقراطية التوافقية"، إلا أنّ هذه النمط أصبح نمط الحكم الأساسي فيه، الأمر الذي جعل مع كل أزمة مفصلية تحل بلبنان تبرز تساؤلات وآراء تحاول تفسير سبب أو مصادر تلك الأزمة، ومما لا شك فيه أن النظام الطائفي يحتل مرتبة متقدمة ضمن هذه الأسباب والمصادر إن لم نقل إنه يتصدرها، فـ "الديمقراطية التوافقية" كنمط للحكم في لبنان تلبس ظاهرياً لبوس الديمقراطية إلا أنها في الجوهر تنتج نظاماً تسلطياً يهدف إلى تقاسم النفوذ والمصالح سواءً بين الأطراف الداخلية اللبنانية مع بعضهم البعض، أو بينهم وبين الأطراف الخارجية، التي يدعم كل منها طرفاً داخلياً على حساب الأطراف الأخرى، لدرجة أنّ اختيار الرئيس ورئيس الوزراء في لبنان أصبح يرتبط بأطراف إقليمية ودولية أكثر من أنه يرتبط بمصالح لبنان وفقاً للدستور الذي أصبح تفسيره أيضاً طريقة لتقاسم النفوذ وتوزيع الحصص بين الفرقاء اللبنانيين لنهب الثروات وقمع الأصوات بعد أن ضاعت المسؤوليات وغابت المحاسبة والمساءلة.

فما عاناه لبنان من أزمات سياسية بشكلٍ عام منذ إعلانه كبيراً قبل أكثر من مئة عام، وما يزال يعانيه حتى الآن، لم تكن ناجمة عن مشكلة في انتقال السلطة، وإنما هي التي انعكست على انتقال السلطة، بعبارة أخرى لم تكن العلاقة بين انتقال السلطة والنظام السياسي في لبنان تفاعلية كما هي الحال في كل نظم العالم، وإنما كانت علاقة من جانب واحد احتلت فيها عملية انتقال السلطة دائماً مكان المتغير التابع، الأمر الذي يعني أن الصراع على السلطة في لبنان لا يمثل إلا جزءاً من صراع عام وأشمل على القيم السياسية ككل بين الطوائف المتباينة والارتباطات الخارجية، ومن ثم فقد بات العنصر الحاسم في قضية انتقال السلطة فيه هو التوافق الوطني، هذا التوافق الذي كان يجد ترجمته الواقعية في مسألة التوازنات الطائفية حتى وقت قريب، ولكن لسوء الحظ فقط تعاونت الحرب الأهلية والتدخلات الخارجية والبيئة الإقليمية على إضعاف الدولة في لبنان، وأقحمت نوعاً جديداً من التوازنات في معادلة التوافق الوطني وهو التوازنات بين المؤسسات المدنية والمؤسسات العسكرية.

وبالتالي لم تجعل بنية النظام السياسي في لبنان من العملية السياسية تدخل الإطار المدني المرتكز على أسس تقوم على التوازنات السياسية الهادفة إلى التنافس وفقاً للمشاريع والبرامج، تتفق عليها أو تعارضها القوى السياسية ضمن مفهوم الدولة الوطنية الجامعة، إنما بقيت أسيرة توازنات جامدة لا تلبث أن ترتدي الرداء الطائفي - المذهبي الذي يغلّب مصلحة طائفة أو مذهب على حساب مصلحة الدولة، والذي لا يعكس بالضرورة الطروحات السياسية التي ترجّح طرحاً على آخر وفق معايير الديمقراطية التنافسية إنما عطّل النظام وكبّل الإرادة السياسية التي تحاول التفلّت من بنيته اللاديمقراطية، وهذا ما يدفع للقول أن النظام السياسي اللبناني بسبب المرتكزات الطائفية والمذهبية للسلطة فيه، ينطوي على خلل جوهري يجعله مفتقراً إلى مرجعية داخلية تعالج الأزمات أو يمتصها على الأقل، وهذا ما يفسّر فشل كل المبادرات الرسمية أو حتى غير الرسمية في حل أو حتى التعامل مع الأزمات اللبنانية المختلفة، ومع فشل المحاولات الداخلية في حل أزمة لبنان تطلب الأمر تدخل أطراف خارجية، غير أن الحلول التي جاءت من الخارج كانت دائماً مقرونة بفاتورة مصالح أو مطالب وإملاءات كما أنها كانت مجتزأة ومؤقتة وهشة، فكل الاتفاقات التي تم التوصل إليها لم تعالج الأزمة من أساسها بل كانت مجرد صيغ مؤقتة أو اتفاقيات مرحلية لمعالجة زمنية محدودة، فاتفاق الطائف على سبيل المثال الذي يدير البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية، خُطط له أن يكون مؤقتاً ليعمل على تمهيد الأرضية لتأسيس دولة مدنية، إلا أنه تحوّل إلى أداة لأمراء الحرب السابقين وزعماء الطوائف، خاصةً مع اعتقاد هؤلاء أنّ اتفاق الطائف أزلي مقدّس لا يفنى، وأنّ ما جاء فيه لا يجوز المساس به، ويجب الحفاظ عليه لمواصلة إحكام قبضتهم على مختلف نواحي الحياة من السياسة إلى الاقتصاد إلى الأمن وكل شيء.

حاصل الأمر وجوهره، النظام الحالي في لبنان لم يعد قابلاً للاستمرار وعدم قابلية هذا النظام للاستمرار لا تعني استبداله بنظام جديد تتموقع خلاله نفس الطبقة السياسية المسيطرة، والتي كانت سبباً أساسياً في تحويل النظام السياسي اللبناني من نظام ديمقراطي برلماني تعددي إلى نظام طائفي محاصصاتي، فأي نظام سياسي جديد في لبنان يجب أن يقوم على أساس إعادة تكوين السلطة عبر انتخابات نيابية حقيقية على أساس "المواطنة" بعيداً عن الطائفية والمذهبية وخارج القيد الطائفي، واعتماد إصلاحات حقيقية وجدّية في الدستور تتيح بناء "دولة المواطنة" الحقيقية على قاعدة العدالة والمساواة لكل أفراد الشعب.