لمن يريد حلّ الدولتين، وقيام الدولة الفلسطينية أينما وجدت، على أي حدود كانت، هلا تفضلت ووصفت لي ما ستكون عليه هذه الدولة الفلسطينية العتيدة؟ إن كانت سلطة "أبو مازن" الفلسطينية هي المثال، فلنخبز بالأفراح. وإن كانت حكومة "حماس" في غزة هي المثال، فربّ قائل يردد "فليبقَ الإسرائيلي، ففي أقل تقدير، هذا عدو أحاربه ويحاربني".
إن قامت الدولة الفلسطينية، التي يجتمع العالم أول مرة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي على المطالبة بها، أو بخارطة طريق تؤدي إليها، أو بوعد – غير وعد بلفور – بقيامها يومًا ما، فكيف ستكون؟ الجواب عن هذا السؤال صعبٌ قليلًا. فالشعب الفلسطيني ليس شعبًا عاديًا، ولا هو شعب منطقي. فهو غارق في النضال التحريري منذ عام 1948، لذا تجده مثقفًا على فقره، أبيًا على انكساره، وحدويًا على انقسامه، ثوريًا على خسرانه.
ربما تكون منظمة التحرير الفلسطينية، التي جمعت طويلًا فصائل الثورة الفلسطينية كلها، صورة بدائية لأي صورة قد يكونها إنسان في ذهنه لدولة فلسطينية جديدة. فقد التم فيها الشامي على المغربي: الماركسي المثابر على خطى جورج حبش في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والديمقراطي المتابع مسير نايف حواتمة في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والماركسي – الديمقراطي الذي انشق مع أحمد جبريل ومشى معه في الجبهة الشعبية – القيادة العامة، والعلماني الذي أحب أبا عمار فانضم إلى حركة فتح، وغير هؤلاء من المنتمين إلى حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية وحزب الشعب الفلسطيني وجبهة النضال الشعبي وجبهة التحرير العربية والجبهة العربية الفلسطينية وحزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني.. وبقيت حماس وحركة الجهاد الإسلامي خارج المنظمة، ثم علق جبريل عضوية القيادة العامة. ولا ننسى يومًا ولادة فتح - الانتفاضة التي سيّر فيها السوريون فلسطينيًا يدعى أبو موسى ليكون ندًا لياسر عرفات بعد عملية "سلامة الجليل" الإسرائيلية في عام 1982، والتي وصلت إلى بيروت وأخرجت المقاومة الفلسطينية منها إلى تونس، في ذلك اليوم الذي بدأ فيه ابتعاد عرفات النهائي عن دمشق.
إقرأ أيضاً: حماقة إسرائيل أو حنكة إيران؟
في هذه المنظمة، كان لكل فلسطيني رؤيته في الطريق إلى فلسطين وتحريرها: طريق الثورة الماكسية، أو الثورة الديمقراطية، أو طريق العروبة وحشد الأمة العربية.. وخارج المنظمة، كان ثمة من يقول إن المقاومة الإسلامية في داخل فلسطين هي الحل. اليوم، إن قامت فلسطين، فلكل فلسطيني رؤيته في قيام هذه الدولة ونشوئها وتطورها. النقاش السياسي في مجتمع تعددي غني سبيلٌ قويم لقيام ديمقراطية فلسطينية يمكن أن تشكل بيئة جامعة للاتجاهات الأيديولوجية كلها. لكن! بكل تجرّد، لا أرى نقاشًا ممكنًا في الدولة الفلسطينية التي ستولد ولادة قيصرية على سرير حوله ألف جراح: الأميركي والإسرائيلي والعربي والأوروبي والروسي والإيراني. لن تولد هذه الدولة للفلسطينيين، كأي دولة تخص شعبها، إنما ستولد كي تكون حلًا لمشكلةٍ قرّبت العالم مرارًا من حروب إقليمية كبرى، ولصراع تعبت منه الكرة الأرضية كلها.
إنها "سَلَطَة" فلسطينية بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
لنقل إننا رزقنا بدولة فلسطينية. سينتقل العالم من معالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى معالجة الصراع الفلسطيني – الفلسطيني. فلا حماس سترضى بفتح. ولا فتح راضية بالجهاد. ولا الجهاد ترضى بالجبهة الشعبية. صراع الأيديولوجيات سيستعر، والتنافس على السلطة سيزدهر، وسيعود الفساد، وسينخر الموساد عظم الدولة، وسيكون لكل دولة ناسها في هذه الدولة، ومآلها لن يختلف عن مآل لبنان: دولة صغيرة فاشلة لا يمر فيها يوم من دون أزمة، وشعب منقسم بين أمراء حرب فاسدين يظن أن على العالم كله أن ينبري لتنفيذ رغباته. فأمراء التحرير الفلسطيني سيتحولون فورًا إلى أمراء حرب يديرون الدولة الجديدة وكأنها من ممتلكاتهم الخاصة، والتبرير جاهز (على الطريقة اللبنانية): لقد دفعنا دمًا كثيرًا من أجل قيام هذه الدولة، ولنا الحق الشرعي في أن نشارك في حكمها. لا أرى نقاشًا ديمقراطيًا أصلًا في هذا الجو؛ فكل فريق سيتمسك بسلاحه لسبب ما، أو سيتسلح خفية لسبب ما، وسنكون أمام تمثيلات جديدة لصيغة حزب الله اللبناني الذي ما رضي يومًا بأن دوره التحريري انتهى في خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان مهزومًا في 25 أيار (مايو) 2000، فبقي مهيمنًا بسلاحه غير الشرعي على مفاصل لبنان ومصائر اللبنانيين، حتى أنه دخل البرلمان تحت شعار "الوفاء للمقاومة" من منطلق أن من لا يكون وفيًا لها فهو صهيوني خائن.
إقرأ أيضاً: هيا بنا نقصف سوريا!
لنقل مرة ثانية إننا رزقنا بدولة فلسطينية. كيف ستكون هذه الدولة مقارنة بجارتها اللدودة إسرائيل؟ هل سيستمر أبناء الدولة الفلسطينية في التدفق على إسرائيل للعمل والترزّق؟ بكلام آخر، وبكل احترام.. هل سنحظى بنموذج آخر لثنائية باكستان – بنغلادش؟ فالدولة الفلسطينية لن تكون غنيةً، الدخل الفردي فيها مرتفع، إنما ستكون دولة تعيش على المساعدات العربية والأوروبية وحتى الأميركية، بلا صناعة ولا تجارة ولا سياحة ولا اقتصاد حقيقي... دولة تبدأ من الصفر وإلى جانبها دولة فيها اقتصاد قائم: تجارة وصناعة وزراعة وسياحة وتعليم. فها قد زادت دول العالم الثالث دولة تعتاش على الهبات!
لنقل مرة ثالثة إننا رزقنا بدولة فلسطينية. تم حلّ الدولتين، وبدأت مشكلة الدولتين. هذا الإقليم يعيش ملعوناً بحضاراته: بدأ مهدًا لها، وينتهي لحدًا لها.
التعليقات