رحيل رمز الديمقراطية في غابة البنادق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ياســـرعــرفـات
"أخشى أن يندم الأسرائيليون لأنهم فوتوا فرصة الاتفاق مع ياسر عرفات "
رولان دوما وزير خارجية فرنسا السابق
ـ حينما يتماهى الرجل بالقضية، يعصى على الاخضاع.. يقوى بالشعب.. ويصلد بالصبر.. ويسمو على المساومات.
ـ لم تكن أوسلو سوى احدى معاركه، وطابا وكامب ديفيد وواي بلانتيشن سوى استراحات المحارب..
الصمود الصمود، الوحدة الوحدة، الصبر الصبر، فالعهد هو العهد هو العهد.
والقسم هو القسم هو القسم، وانا لصادقون.
الفجر آت، آت، آت، آت.
وحتى اقامة دولتنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف. ويا جبل ما يهزك ريح..
ياسر عرفات
في يوم من أكثر أيام العرب بؤسا وانكسارا توقف قلب الرجل الأكثر تألقـتا في التاريخ العربي المعاصر، ياســرعـرفات قائد ثورة الشعب الفلسطيني ورمز نهضته الوطنية.
توقف القلب الكبير المتألم عن النبض بعدما خفق طويلا بحب شعبه وخدمة قضيته ونزوعه الجارف بلا حدود الى الحرية الكلمة الأجدر بالاستشهاد في سبيلها. غادرالدنيا الرجل الذي لم تنل من عزيمته الاحتلالات ولا المنافي، وما زادته الحصارات الا يقينا بصواب الطريق الذي أخذ.. والمؤامرات التي تناوبت عليه وشعبه أمدته بالصبر الجليــل على الشدائد والمثابرة على القســم العنيد العنيد.. لم ترهبه محاولات أغتياله الاّ حبّا بالشهادة على طريق تحرير شعبه وأرضه كل أرضه.. تناوبت على النيل منه الحكومات الاسرائيلية المتناوبة كما تكالب عليه الحكام العرب، بعضهم بصمت جلـّهم.. لم يهن ولم يرتجف ولم تنل من عزيمته المصائب ولا قوافـل الشهداء تتلو القوافل: كمال ناصر ويوسف النجار،كمال عدوان وكمال خير بك،وديع حداد وبشير عبيد، ماجد أبو شرار وأبو الوليد،أبو جهاد وأبو الهول،أبو أياد وتيسيرالشهابي،عز الدين القلق كما خليل الزبن، دفاعا عن حصانة الثورة واستقلالية القرار الفلسطيني وثباتا على القسم الأول فلسطين من البحر الى النهرومن النهر الى البحر ولتبقى البندقية الفلسطينية موحدة مرفوعة باتجاه العدو، وتبقى الديمقراطية الفلسطينية شعلة العرب الوحيدة في غابة البنادق دونها الشهداء في مجازراسرائيل والمتواطئين معها من الحكام العرب، من معركة الكرامة الى أيلول الأسود وتل الزعتر واجتياح لبنان 1982وحصار بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا وحصارات طرابلس والبداوي ونهر البارد في 1984 كما في حرب التجويع والتدمير في برج البراجنة 1985 وشهداء الانتفاضتين الأولى والثانية.
بعد غياب عبد الناصر غدا عرفات وثورته الرمز الوحيد لوحدة العرب وعنوان الصمود في هزائمهم بقيادة أمراء الدول وحكام زمن الهزائم. يقول هاني الحسن: في معركة الكرامة قال أحد العسكريين اذا هجم العدو علينا أن ننسحب فرد عرفات، علينا أن نجعل لحمنا يمتزج بجنازير الدبابات الاسرائيلية لنفهم الحكام العرب أن لا هروب بعد اليوم.
لم يخذل العرب،حكاما وشعوبا، قائدا بالقدر الذي خذلوا به ياسرعرفات وشعبه.. ولم يتجن العرب على أحد بالقدر الذي تجنوا به على عرفات وشعبه.. لذا كان يطيب له القول: وسوى الروم خلف ظهرك روم.
خذله الحكام العرب لأن الرجل النموذج كان الصفعة المستمرة لتخاذلهم وتماديهم في الخنوع والخضوع للمصالح الأمريكية الاسرائيلية ومتطلبات أمنهم الاستبدادي.. كما أن نهضة شعبه بالإنتفاض على المحتل، رغم الخلل الهائل في توازن القوى بين الحجارة والقذيفة الذكية، غدت المرآة التي تعكس هزيمة العري اليومي لشعوب العرب المتلهية المتلذذة بقمع حكامها.
في ذرة الحرب الأهلية اللبنانية كان عرفات ضمانة استقرار واستمرار المؤسسات الشرعية اللبنانية الدولة والبنك المركزي والليرة. اتهمه حلفاؤه اللبنانيون في الحركة الوطنية بأنه حال دون انتصارهم على القوى الانعزالية في حربالجبل واتهمه خصومه اللبنانيون بأن كان يريد توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، واتهمه الحكام السوريون بأنه كان يريد مع كمال جنبلاط ذبح المسيحيين، لكن المؤكد أن ثلاثا يدينون له بالعرفان والبقاء السفارات الأجنبية والبنوك في بيروت، بقاء اليسار اللبناني مستقلا وفي الساحة السياسية، ثالثهم البنك المركزي اللبناني وليرتها. من المعروف أن الليرة اللبنانية يوم خروج عرفات وقواته من بيروت أيلول 1982 كانت تصرف ب 3.5ليرة مقابل واحد دولار، لكنها انهارت الى 1800 ليرة مقابل دولار واحد.
قامت عقيدة عرفات، ردا على هزيمة العرب المخزية في حزيران،1967 بأنها بداية النصر. لأن الحكام خرجوا من المعركة وحان وقت أن تحضر الشعوب. ذهب الى الأمم المتحدة رافعا البندقية وغصن الزيتون ايمانا منه بأن المعركة ليست البندقية وحدها وانما بالبحث عن السلام لاشراك العالم أجمع في قضية شعبه عارفا قدرات خصمه حق قدرها لذا يمكننا القول أن الدولة الوحيدة التي لها سفارات بالرقم القياسي العالمي هي دولة عرفات التي حملها في حقيبة وطاف بها يطرق كل الأبواب حتى مجاهل الغابات ولربما تعادل عدد سفاراته ومكاتب تمثيله مجموع ما لدى الدول العربية مجتمعة.
غدا عرفات وشعبه لثلاث سنوات رهائن للعنجهية الاسرائيلية وتواطؤ الصمت العربي وجبن العالم الحر. أسرى الحقد التوراتي على البشر وأسرى الطغيان الأمريكي في صيغته البن لادنية.. أما ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة فكان القول الفعل: اذهب أنت وشعبك في الحصار الى نهايات القسم / العهد/ الثبات الثبات... صمد الرجل وصمد شعبه حتى أصبحا أمثولة التاريخ وأمثولة الشعوب.
أرادوه طريدا أو قتيلا أو ذليلا مثلهم لكنه اختار مع أطفال الحجارة وجنرالات الآربيجي الشهادة حتى يوم النصر. على الحواجز.. وضعت النساء، و على الحواجز نزف الجرحى حتى الرمق الأخير.. ومر الدبلوماسيون وقادة الدول خلل الفتحات في السواتر الترابية وجاع الأهلون المشردون المدمرة بيوتهم والأسرى المعتقلون وصرخت أشجار الزيتون المقتلع بالحقد والعنجهية في حين كان الحكام العرب يتلهون في مدائح الشعر الحماسي ومدائن الملح و اللهو والذل، وعلى أبواب البارات وأمام البنوك التي هرّبوا اليها أموال شعوبهم وثرواتها القومية.. ولم ينتفض شعب واحد برمي حكامه بحجر، صغر أم كبر! بل ظلوا يقفـزون بين الكراسي والموائد عن فتات يسقط أو كيس يرمى في الهواء لفخذ غانية أوتملق غان.
راهنوا على الجبل أن ينزاح بفعل رياح التغيير وسقوط جدار برلين وانهيار المعسكر السوفياتي واغلاق الساحات العربية، وأن الرجل وشعبه لابد ذاهبون الى طعم الدولة بأي ثمن كان، الأرض والكرامة القومية وحق العودة وأمن اسرائيل في أرضهم!! لكن خاب فعلهم.
راهنوا بالقياس على انسحابه من عمان 1970 وبيروت 1982 وطرابلس 1984 بأنه سيسقط في واي بلانتيشن وكامب ديفيد وطابا لأنهم رأوا في أوسلو انسحابا للرجل من الثورة!! لكنهم عجزوا عن فهم أنه أرادها ذهابا بالثورة الى فلسطين لتكون الدولة بعاصمتها القدس.
شهيدا مضى عرفات ولم يفهم العرب، شتى العرب حكاما متخاذلين وشعوبا تائهة ونخبا فاسدة حتى النخاع،لم يفهموا أن عرفات لايقامر بحقوق وأمن شعبه، ولا يتلهى بمصائر أهله وأمته، ولا يغامرفي المجهول.. ومن كان مثله لا يخون القسم.. لم يفهموا أن الرجل الرمز والرمز القائد لن يوقع على تقسيم فلسطين ولا يتنازل عن شبر من الأرض ولا يرسم بيديه حدودا دون اللاجئين وحقهم في العودة الى قراهم وبيوتهم وبساتينهم وشواطئهم، لو أعطي مال قارون وخزائن كسرى وكل رضا العالمين المتمدن والمتوحش بعربه وأبواشه وشاروناته.. ربما شارون وحده كان يعرف أن عرفات ليس بالرجل الذي سيتنازل لاسرائيل عن موقع الجبل وبأنه لن يكون الذي يرسم حدودا فاصلة بين النهر والبحر مع اعترافنا بأن عرفات كان الرجل الذي يراهن على الاحتكام الى التاريخ بما يخص مستقبل العلاقة بين الشعبين الفلسطينيين العربي واليهودي.
لم يهرب ولا مرةواحدة. أقدم على كل الامتحانات بالايمان الذي يمشهد للسياسة من نوافذ القدس لم يهرب من الحصار ولم يهرب من الهجرة ولم يهرب من القانون الدولي ولم يهرب من حق ثورته في أن تكون الممثل الوحيد والشرعي لشعبه ولم يهرب من معركة الدفاع عن القرارالوطني المستقل ولم يتوان عن الارتقاء بثورته الى مصاف الأمم الكبرى والحضارات الراقية، يوم سئل في الهند ما الذي يعجبك في بلدنا اجاب الديمقراطية التي سنبني مثلها، ومؤسسات ثورته المهاجرة ترقى الى مصاف المدنيات الراقية أنها ديمقراطية الثورة الفلسطينية في غابة البنادق. وما الانتقال السهل الذي تم للسلطة بغيابه دلت كم كان راقيا في بناء مؤسساته. معها حق اسرائيل وشارون وعتاة الصهيونية ان يخافوا لا بل ان يرتعبوا منه ومن دولته وثورته.
لم يكن ياسرعرفات الانسان عملاقا ولا ساحرا ولا كان سيد المعجزات ولم يدع يوما اختلافه عن قومه بقدس الأقداس.. لكنه آمن و أوحى لقومه كما لأعدائه بالقوى الكامنة في شعبه، بأنه الأبجدية الأولى لفك طلاسم لغة تحاكي أشجار الزيتون وتراب القدس وسر الليمون.. لغة من تراب ودم.. لغة أعادت صياغة الأنشودة الأسطورة التي أعادت نفخ الطائرمن رماده وأخرجت الحقيقة من قمقم العرب المدهون بزيت القناديل المرمية جوار أكياس طحين أونروا ومزق بطاقات اللاجئين.. واذا كان موسى خرج بقومه الى التيه فإن عرفات خرج بأهله الى الوجود الذي يليق بأبطال الاغريق الذاهبين الى طروادة بيروت و أوسلو لا فاتحين بل لأنهما كانتا محطتين على طريق العودة.. ما من شعب ذخرت أبجديته بالعودة بقدر الشعب الفلسطيني وما من قائد اقترب من شعبه بالقدر الذي اقترب به عرفات حتى كاد أن يتماهى به وبمهاجره ومنافيه.. غدا عرفات المرجعية اللغز لفلسطين الشعب و الأرض والحقيقة التاريخية لأهله.. القابلين به والمعارضين له.. والكل يتدلل عليه حبا حتى الموت، كيف نفك طلاسم هذا اللغز في غابة تنافر العرب المشردين في أوطانهم، بينما اللاجىء الفلسطيني يصيغ لهم خيام توحدهم من حول شتاته لدرجة غدا المقيمون العرب لاجئين عنده مثلما غدا المقيم اللبناني لاجئا في حماية اللاجىء الفلسطيني والمعارضون العرب ضيوف الرحمن على الموائد الفدائية في صخب الأيديولوجيات المتنافرة الا في نقد عرفات القائد والحامي والخاطىء والتهمة الجاهزة واليميني الرجعي المستبد الفاسد الطاغية المقهور والصليب المشجب وجذع النخلة التي تسقط رطبا شهيا.
لو تحكي جدران بيروت وشوارعها كم انتقد الرجل وكم من مرة خوّن بكسرالواو وكم من نصر أضاع! وكم من هزيمة تسبب بها! لكن بيروت وأهلها وقادتها ومفكريها وبنوكها وباراتها وشوارعها االأمامية و الخلفية، الكل بالكل كان يستيقظ وينام على ايقاع تنفس رئتي الرجل.
غدت أمثولة تلك الاشاعة بأن قادة الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ما كانوا ينامون أيام الحصار سنة1982 قبل أن يتأكدوا من أن أبا عمار لم ولن يغادر المدينة في غفلة عنهم، ويستيقظون على السؤال عنه كان حضوره بينهم بالجسد او بالبلاغ يبث الطمأنينة فيهم نساء ورجالا قادة ومحازبين مقاتلين وهائمين مثقفين وأشباههم وما كان أكثر الأشباه، هذا الاحساس باليتم لا يبثه الا القليل القليل من الرجال..ٍ
وسنرى ما اذا كانت اسرائيل ستفتقده في الليلة الظلماء. حسبما حدس السياسي المجرب رولان دوما وزير خارجية فرنسا الأسبق بالقول: ما أخشاه هو أن تندم اسرائيل على أنها لم توقع السلام مع عرفات!
بشلر العيسى