لماذا نبحث عن مجتمع مدني ؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
شهد العراق خلال العقود الطويلة الماضية، فترات من الحكم العسكري أو شبه العسكري، نتيجة سيطرة العسكر على مقاليد الحكم فيه، وهؤلاء يصلون لكرسي الحكم إما بانقلاب عسكري، أو بتبوء مراكز سياسية حساسة يقفزون من خلالها إلى سدة الحكم سلميا أو غير ذلك. فحين نعود بالتاريخ العراقي للوراء منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، نجد أنه ما من حكومة خلت من العسكر ( ينطبق ذلك على أغلب الحكومات العربية)، وظل الأمر كذلك، حتى بات المجتمع العراقي يعيش حالة عسكرية في جل تصرفاته، وراح المواطن يرتدي لبوس العسكريتاريا في كل أنماط معيشته، بدءا من ( تحية العلم ) يوم الخميس في المدارس، والوقوف استعدادا بضبط ونظام، وحتى تصرف المسؤولين مهما كانت مسؤولياتهم بشكل أوامر لايجوز الإبتعاد عنها. وجائت الطامة الكبرى خلال فترة حكم صدام حسين الذي أضفى على المجتمع العراقي صفة عسكرية باتت تؤرق المواطن العراقي، الذي راح ينام ويصبح مع البدلة الخاكي في الشارع والمؤسسة والمدرسة وكل مكان، هذا اللون الذي انقلب إلى اللون ( الزيتوني) الذي كان يرتديه أفراد الحرس الخاص والحمايات الخاصة، حتى اصبح العسكر، والجيش، وكل ما يتعلق بهما من ( الأمور المكروهة ) بعد أن كان المواطن العراقي يفخر بجيشه. وتأتي هذه العسكرة الإجتماعية من خلال الثقافة البدوية الصحراوية التي كان يعيشها أزلام النظام البائد وأفراد عشيرة العائلة الحاكمة، والتي تغلب على أحاديثها وتصرفاتها.. البندقية والثأر ( والمكاون) أي العراك والقتال. والتي أراد أن يعكسها على المجتمع ككل ويلبسها لأهل العراق ليتسنى له فرض سيطرته الكاملة من خلال بث الفتن والقتال ( والمكاون) بين أبناء الشعب، وتفرقتهم شيعا وقبائل وتغليب البعض على البعض الاخر ليسهل له أمر فرض السيطرة والبقاء.
والآن، وقد تحرر شعبنا العراقي من العسكريتاريا المتسلطة، ونفض عن كاهله ثقل زمن مرعب، بات التفكير بتأسيس ( مجتمع مدني) هو الغالب على كتابات وتفكير وممارسات النخبة المثقفة التي عاشت خلال الفترة الماضية خارج العراق وتطبعت بطبائع مدنية، نهلتها من المجتمعات التي عاشت داخلها، مجتمعات ليس فيها من مظاهر العسكريتاريا إلا ما ندر وفي الممارسات الرسمية فقط، حتى انك لا تكاد ترى اللون الخاكي في أي شارع من شوارع مدن أوربا والغرب بشكل عام، بل أن البعض بات يتوق لرؤية مظهرا عسكريا مهما كان شكله.
ان المجتمع المدني يرتكز أول ما يرتكز على أرضية ايجابية ذات شفافية عالية، تستند إلى مزيج من تلاحم الثقافة والعلم والفكر والحضارة والعقيدة، أرضية بمستوى عالي من علاقات البشر فيما بينهم، أرضية مبنية على احترام الرأي الآخر بل وقبوله، والإعتراف بتفوقه إن هو تفوق على الرأي الشخصي، أرضية بعيدة عن تطرف ( العسكريتاريا) وقراراتها السريعة بانهاء أية مسالة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ( بهجوم عسكري أو ثورة أو انقلاب)، أرضية تعمل على استقرار المجتمع وجعله يطوف على سطح من الأمان الإجتماعي، والضمان الإقتصادي، والنضج السياسي، أرضية تستنكر العنف ولا تمارسه بل لا تفكر باستعماله في أي ظرف من الظروف. اننا نبحث عن ( مجتمع مدني) حقيقي، لأننا كشعب يمتد عمقه الحضاري إلى آلاف السنين، ويمتلك من الإرث العلمي والفكري والإنساني ما تحسده عليه شعوب أخرى، له الحق في أن يعيش حياة مدنية لا تعصف بها أهواء العسكر، حياة تغلفها اهتمامات راقية بالمدرسة والأسرة والجامعة حياة فيها إثراء للممارسة التربوية لكل مفاصل المجتمع، خاصة في طريقة العيش والعلاقة مع الآخرين، وفي سلوك تفكير سليم يبدأ أول ما يبدأ بروحية الإنسان الذي هو أعلى شيء في الكون.