العراق الجديد بين حكومة في العلن و حكومة في الخفاء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بعد 28 حزيران 2004 تسلمت مقاليد السلطة في العراق حكومة مؤقتة تم تشكيلها بعد مخاض سياسي عسير شاركت فيه أطرافاً و جهات سياسية عديدة داخلية و خارجية متمثلة بالأحزاب و الحركات السياسية العراقية و سلطة التحالف المدنية التي تم حلها في ذلك التأريخ بالاضافة الى الأمم المتحدة ممثلة بمبعوثها الى العراق السيد الأخضر الابراهيمي.. و قد تم تشكيل هذه الحكومة من مجموعة من الشخصيات بعضها سياسي و بعضها تكنوقراط و بعضها الاثنان معاً قسم منها مستقل و القسم الآخر يمثل قوى و أحزاب سياسية عراقية عرفت بتأريخها الوطني و النضالي الطويل في مقارعة الديكتاتورية في العراق و حظيت هذه الحكومة منذ الساعات الأولى لتشكيلها بدعم عربي و دولي كبير تمثل بتأييد الأمم المتحدة واعتراف الكثير من دول الجوار و المنطقة بها ناهيك عن الأعتراف و الدعم اللامحدود لدول كبرى في المجتمع الدولي كأمريكا و بريطانيا و ايطاليا و استراليا و غيرها كثير بهذه الحكومة الفتية.. و منذ ذلك اليوم و ربما قبله سارعت هذه الحكومة الى المباشرة بتنظيم أوضاع البلاد الداخلية و الخارجية حيث بدأت بتنظيم و تقوية وحدات الجيش و أجهزة الأمن و الشرطة العراقية التي تم تشكيلها بعُجالة و فوضوية بعد قرار حل أجهزة النظام السابق الأمنية و العسكرية الذي أتخذته سلطة الاحتلال في العراق و تمت عملية غربلة للكثير من العناصر التي تم ضمها الى الأجهزة الجديدة دون امتلاكها لكفاءة أو مؤهلات ثم قامت هذه الحكومة باصدار قانون السلامة الوطنية و أعادت العمل بقانون الاعدام و ذلك للحد من حالة الفوضى و أنعدام الأمن التي تجتاح الشارع العراقي منذ الأيام الأولى لسقوط النظام السابق و حتى هذه اللحظة كما سعت هذه الحكومة و عبر جولة قام بها السيد رئيس الوزراء أياد علاوي الى دول المنطقة و من ضمنها دول الجوار الى كسب التأييد و الدعم الرسمي المباشر من هذه الدول للعراق الجديد و التنسيق معها من أجل أعادته الى وضعه الطبيعي بين دول المنطقة و العالم ككل.
ثم بعد ذلك بفترة وجيزة أخذت مظاهر سيادة هذه الحكومة تظهر شيئاً فشيئاً في الشارع العراقي عبر قوات الشرطة و الحرس الوطني التي بدأت بالأنتشار بشكل واسع في شوارع المدن العراقية و خصوصاً العاصمة بغداد و بدأت بملاحقة المخربين و الارهابيين في كل مكان و ألحقت بهم خسائر فادحة و ألقت القبض على العشرات منهم كما صادرت حتى الآن عشرات الآلاف من قطع السلاح و الذخيرة التي كان يستعملها هؤلاء في عملياتهم ضد قوات الشرطة العراقية و قوات الاحتلال كما أحبطت هذه القوات و بفضل يقظة منتسبيها الكثير من العمليات الارهابية التي كان ينوي الارهابيون تنفيذها على أرض العراق والتي كان سيذهب في حال حدوثها لا سمح الله العشرات أن لم يكن المئات من أبناء العراق الأبرياء ضحية لايديولوجية القتل والدمار التي وفدت الى أرض العراق من مضارب أبناء العم و لكن رغم ذلك و رغم كل هذه التحديات حافظت هذه الحكومة على هامش واسع من الديمقراطية و الحريات لأبناء شعبها كانوا قد حرموا منه لعقود طوال.. في نفس الوقت تقوم وزارات هذه الحكومة ومن خلال وزرائها المشهود لأغلبهم بالخبرة بالعمل على أعادة الخدمات الشبه معدومة في أغلب المدن العراقية منذ فترة ليست بالقليلة سبقت 9 نيسان 2003 وتم بالفعل و بزمن قياسي أعادة بعض هذه الخدمات في بعض المناطق و العمل جاري ليل نهار على أعادتها بل و تطويرها بشكل كامل في كافة ربوع العراق.. أضافة الى كل ذلك سارعت هذه الحكومة و منذ لحظات التشكيل الأولى و اعتماداً على ماجاء في قانون أدارة الدولة للفترة الأنتقالية بالتحضير للمؤتمر الوطني الموسع الذي كان من المزمع عقده في نهاية الشهر المنصرم و من المتوقع أن يضم كافة الفصائل و القوى و التيارات السياسية العراقية سواء تلك التي شاركت في هذه الحكومة أو التي لم تشارك فيها ليتمخض عن مجلس وطني أنتقالي ( برلمان ) يراقب عمل الحكومة الأنتقالية و يمهد للأنتخابات العامة التي من المنتظر أجرائها مطلع العام القادم ألا أن أسباب عديدة سياسية و أمنية و فنية أدت الى تأجيل هذه المؤتمر لفترة أسبوعين و بطلب مباشر من الأمم المتحدة و أمينها العام شخصياً.
و لكن في الشوارع الخلفية لبعض المدن و أحياناً في شوراعها الرئيسية و ساحاتها العامة هنالك صور و مظاهر واضحة لحكومة أخرى من نوع آخر يختلف عن النوع السابق.. حكومة تتألف من تنظيمات و مجموعات من الملثمين ليس لهم برنامج سياسي واضح يتسترون وراء خطاب ظاهره اسلامي و وطني مقاوم للاحتلال و باطنه أصولي و عنصري متطرف ذو أغراض و أهداف خطيرة و مشبوهة تسعى أمّا الى أفغنة العراق و انشاء دولة طالبان جديدة على أرضه أو الى اعادته الى سنوات القمع و الديكتاتورية التي عانى منها العراقيون لعقود طويلة.. و لهذه الحكومة ميليشياتها الخاصة من الملثّمين و أجهزة أستخبارات و متابعة و تجسس ذات كفاءة عالية تحسدها عليها أجهزة دول كبرى أضافة الى امتلاك هذه الحكومة الخفية لأجهزة أعلام جبارة و فضائيات ضخمة تُسخّر كل طاقاتها و يعمل رجالها و مراسلوها في العراق و في خارج العراق ليل نهار من أجل دعم هذه الحكومة و تجميل صورتها و تبرير جرائمها اليومية بحق الدين و القانون و الأنسان في العراق هذا بالأضافة الى مواقع أنترنت عالية الجودة توصل الليل بالنهار من أجل دعم هذه الحكومة و ايصال صوتها و نشاطاتها و أخبار رجالها الى جميع أنحاء العالم.. كما تحظى هذه الحكومة الخفية بدعم مجموعة من المنظّرين من داخل العراق و خارجه كان أغلبهم قبل 9 نيسان 2003 من مريدي الطاغية و منظّريه و اليوم يُنظّرون لهذه الحكومة و لرجالها ناعتين أياهم بألقاب و أوصاف لا تطلق سوى على الأنبياء و الصحابة و الأولياء الصالحين و قلة من عظماء التأريخ رغم أن الفرق بينهم و بين رجال هذه الحكومة فرق الثرى عن الثريا بل لقد وصل الحال ببعض هؤلاء المنظرين الى أطلاق صفات أسماء بعض المدن الأسلامية المقدسة كالمكرمة و المنورة و عبق الجنة و غيرها من الصفات على بعض المدن و الأقضية العراقية التي تخضع اليوم لسلطة هذه الحكومة الخفية.
و تعمل هذه الحكومة و منذ اسقاط النظام في 9 نيسان 2003 على بسط سطوتها و توسيع شعبيتها وسط شرائح معينة من الشعب العراقي أنهكتها ظروف البطالة و الحصار الاقتصادي الذي سبق سقوط النظام مستغلة حالة الجهل السياسي و الوعي الجمعي لهذه الشرائح التي تعودت طوال عقود على الانقياد لرموز و زعامات وهمية كانت تطعمها شعارات و تكسيها لافتات و يبدو أن هذه الشرائح قد أستعذبت هذه الحياة و هذا الحالة من الانقياد الأعمى لمن يسعى لرميها الى التهلكة لذا نراها اليوم مندفعة وراء رجال هذه الحكومة الخفية لا تلوي على شيء.. و تتمثل هذه الحكومة بمجموعة من الشخصيات الغريبة بعضها ليس له تأريخ أصلاً و البعض الآخر يستغل تأريخ أبائه و أجداده الذي صيغت حوله القصص و الأساطير الخيالية و حضي بأهتمام و تركيز مبالغ فيه في تأريخ العراق و تسعى هذه الشخصيات اليوم الى عقد ما تسميه المؤتمر الوطني التأسيي على غرار المؤتمر الوطني العراقي الذي ستعقده الحكومة المؤقتة منتصف هذا الشهر ومن المتوقع أن تستضيف هذا المؤتمر المثير للجدل دولة عربية مسكينة أمرُها ليس بيَدها سبق وأن أستضافت وعلى أعلى المستويات علي حسن المجيد و ناجي صبري الحديثي مما يؤكد على وجود دعم خفي من قبل أجهزة مخابرات دول بل و حتى مراكز صنع قرار في هذه الدول لمثل هذه الحكومة الخفية و لمخطط خفي مثلها الهدف منه تدمير العراق بل و ربما ألغائه من الخريطة.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة في النجف و بغداد و بعقوبة و العمارة و الرمادي و الفلوجة و الناصرية و البصرة و جود مشكلة سياسية و أمنية في البلاد كانت راكدة و طفت الى السطح قبل أيام رمت بظلالها على الوضع الأمني في البلاد و أدّت الى تفجّره من جديد و هو تفجّر كان متوقعاً منذ زمن نتيجة للتردد و التأخير الذي رافق سياسة و أسلوب الحكومة المؤقتة منذ تشكيلها و حتى هذه اللحظة في التعامل مع الكثير من الأمور و الملفات العالقة في البلاد والتي هي في غالبيتها من تركة سنوات النظام البائد و أشهُر سلطة التحالف المنحلة والتي كانت بحاجة الى حسم منذ اللحظات الأولى لبروزها في المجتمع بدلاً من تركها تتدحرج و تكبر ككرة الثلج لتهوي على رؤوس الجميع.. لذا فقد أصبح لزاماً على الحكومة العراقية أن تعالج الوضع في البلاد و تفي بألتزاماتها التي قطعتها أمام الشعب العراقي يوم تسلّمها للسلطة في 28 حزيران 2004 وألا فأن الأمور سوف تخرج عن سيطرتها لا بل و حتى عن سيطرة المجتمع الدولي كله و سيكون الضحية أولاً و أخيراً المواطن العراقي الذي لم يعد بأمكانه الصمود اكثر من ذلك على ما يجري في بلاده من أمور تفلّ الحديد و تفتت الصخر و تذيب الجليد.
و كنتيجة حتمية لكل ما ذكرناه آنفاً فأن المواطن العراقي البسيط يعيش اليوم في حيرة من أمره في بلاد تديرها حكومتان شبه متعادلتان في السلطة على البلاد.. صحيح أن لاحداهما سلطة رسمية على البلاد و الدولة ككل الا أن هذه السلطة تصبح فقط على الورق في مناطق تخضع اليوم لسلطة فعلية لحكومة ليس لها ملامح واضحة لكنها موجودة على أرض الواقع.. و بدلاً من أن تعمل الحكومة الرسمية مستغلة ما تحظى به من دعم رسمي اقليمي و عربي و دولي على تقوية نفوذها و ترسيخ و جودها في مناطق تمردت على سلطتها منذ اليوم الأول لتشكيلها نراها و لسبب مجهول مستمرة في تلقي الضربات الموجعة من حكومة الأشباح الوهمية التي ستتكون لها يوماً ملامح أنسية و حقيقية أذا لم يوضع لها حداً و بأسرع وقت ممكن بأستخدام أساليب سياسية و ليس أمنية كما يحدث اليوم.
هنالك اليوم صراع وجود و بقاء منه خفي و منه معلن كان قد بدأ منذ الساعات الأولى لسقوط النظام بين رجال هاتان الحكومتان و ملامح الحكومة أو الحكومات الحقيقية التي ستحكم العراق في الأشهر القليلة القادمة ستحدده نتيجة هذا الصراع بين حكومة العلن و القانون و حكومة الخفاء و الفوضى والذي نتمنى أن لا يكون دموياً كسابقاته من الصراعات التي جائت عن طريقها حكومات الماضي.