هل تأخر حقا تشكيل الحكومة العراقية الجديدة ؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يبدي الكثير من العراقيين إنزعاجهم و تبرمهم من تأخير إعلان الحكومة العراقية الجديدة و يسوقون مبررات مقبولة لموقفهم هذا. فمن حالة الإنفلات الأمني و إختراق المخربين و اللصوص البعثيين و شبكات الجريمة المنظمة و جميع المعادين لقيام نظام ديموقراطي لأجهزة الدولة الأمنية و العسكرية و الأدارية، الى جانب معضلة عدم توفر الخدمات الأساسية و الأستقطاب المذهبي و القومي، تشكل بمجملها عناصر مهمة توجب الإسراع بتشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها التصدي لهذه المهام الكبرى. إعتقد الكثيرون بأنهم بمجرد ذهابهم الى الأنتخابات قد أدوا واجبهم على أحسن وجه و حان الوقت لكي تأتي حكومة جديدة لتنقذهم من الحالة المزرية التي يعيشون في ظلها.
الى جانب الكتاب العراقيين من ذوي النوايا الحسنة الذين يبدون إنزعاجهم من تأخر قيام حكومة جديدة، هناك عدد كبير من المعادين لقيام نظام ديموقراطي في العراق يحاولون إستغلال هذا المزاج الشعبي العام لكي يسوقوا لأفكارهم المعادية للديموقراطية. ويطل علينا هؤلاء يوميا من على شاشات الفضائيات العربية ليتهموا القائمتين الفائزتين في الأنتخابات بالأنشغال بالمصالح الفئوية و بما يسمونها بالمحاصصة القومية و الطائفية بل وبخيانة آمال و تضحيات الناخبين الذين إندفعوا الى صناديق الأقتراع رغم المخاطر الكبيرة التي كانت تهددهم. و لا يتردد هؤلاء بإتهام القيادات السياسية بالأنانية الحزبية و الطائفية و الجهوية و القومية و بعدم التفكير بمصالح الشعب العراقي و غيرها من الأتهامات الجاهزة.
بطبيعة الحال لا يمكن للمرء أن لا يتفهم لهف العراقيين الشديد الى الأمن و لقمة العيش و الحرية السياسية بعد عقود عجاف من حكم الهمج و إذلال الناس و مسخ كل ما هو جميل في العراق.
لكننا من جهة أخرى سوف لن نغفر للسياسيين إذا لم ينجحوا في مهمة بناء نظام سياسي متين على أسس صحيحة يستطيع مسايرة التطور العالمي و مواجهة الهزات الكبرى التي ستشهدها المنطقة كنتيجة منطقية لعملية التحول السياسي الجارية فيها لقبر أنظمتها الأستبدادية القروسطية. من هنا لا يمكن تأطير العملية السياسية الجارية في العراق الآن في تشكيل حكومة جديدة فقط، بل يكمن الأمر أساسا في العمل على بناء نظام سياسي و دولة عراقية جديدة على أسسس تختلف كليا عن تلك التي قامت عليها هذه الدولة منذ تأسيسها على أيدي أساطين الإستعمار البريطاني في عشرينات القرن الماضي.
صحيح أن الأنتخابات جرت في 30 كانون الثاني 2005، إلا أن النتائج أعلنت في 16 شباط و من ثم أعطيت فترة ثلاثة أيام للأعتراض و الطعن في النتائج. أي أن النتائج المصدقة لم تصبح حقيقة إلا في يوم 20 من شهر شباط، أي قبل شهر واحد من الآن بالتمام و الكمال. وكان لابد للقوائم الفائزة أن تحتفل بفوزها و من ثم تتفرغ لوضع برامجها السياسية التي يفترض أن تعمل على تنفيذها من خلال مشاركتها في الحكومة الجديدة.
حسب معلوماتي بدأت اللقاءات و المباحثات الحقيقية بين الأئتلافين الفائزين في الأنتخابات منذ أسبوعين فقط و هي ليست بمدة مناسبة لتشكيل حكومة منسجمة و قوية في أي بلد ديموقراطي. كما أن الفائزين في الأنتخابات و بسبب الأوضاع المعروفة في العراق أعلنوا عن عدم رغبتهم في الأستئثار بالسلطة لوحدهم و توزيع الحقائب الوزارية فيما بينهم، بل يرغبون في تشكيل حكومة ذات قاعدة شعبية عريضة تمثل الطيف العراقي كله.
لا شك أن المطلعين على التجارب الديموقراطية في العالم و الذين يعيشون في البلدان الأوروبية المختلفة يعرفون جيدا بأن تشكيل الحكومة الجديدة بعد الأنتخابات يستغرق في العادة أسابيعا بل و أشهرا أحيانا. حتما سنواجه بالقول كيف يمكن أن نقارن بين العراق الذي يعيش في ظل فوضى أمنية و إدارية و إختناقات في جميع مجالات الحياة و بين دول أوروبية متقدمة تمتلك مؤسسات دستورية و تجربة ديموقراطية طويلة.
في هذه الدول الديموقراطية التي تنعم بمؤسساتها الدستورية منذ عقود و أحيانا قرون يمكن أن يتأخر تشكيل الحكومة بسبب الخلاف على نسبة أقل من واحد بالمئة من ضريبة الدخل أو ضريبة التأمين الصحي أو التقاعد أو الموقف من اللاجئين و المهاجرين الأجانب أو حتى حول بدء مفاوضات عضوية تركيا في الأتحاد الأوروبي و غير ذلك من القضايا التي لا تعتبر من وجهة نظر العراقيين المكتويين بنار الأرهاب و الجوع و فقدان الخدمات الأساسية قضايا مهمة يمكن أن يتأخر بسببها تشكيل حكومة جديدة.
ما أريد قوله هو أن الذين يتصدون اليوم لتشكيل وزارة عراقية جديدة ليسوا بصدد الأتفاق فقط على برنامج سياسي لحكومة إعتيادية تأخذ على عاتقها تنفيذه خلال فترة زمنية محددة، بل أنهم بصدد تشكيل حكومة وحدة و طنية يقع على عاتقها التصدي لمهام كبرى بكل المقاييس مثل توفير الأجواء المناسبة لسن دستور دائم للبلاد يضع الركائز الأساسية لدولة جديدة على أنقاض دولة أثبتت فشلها الكامل على مدى ثمانية عقود من عمرها. كما و تدرك القوى السياسية التي ستقوم بتشكيل الحكومة الجديدة بأنها ربما تغامر بكل ما بنتها خلال عقود طويلة من النضال ضد نظام المقابر الجماعية و التطهير العرقي و الطائفي، إذا ما فشلت في التصدي للأرهاب الأسود أو قدمت تنازلات غير مقبولة في مجال إزالة آثار النظام البائد في العسكرة و الخراب الأجتماعي و التطهير العراقي و التهجير القسري و التعريب و مصير المغيبين و تدمير الأقتصاد الوطني و غير ذلك من الكوارث التي تسبب النظام البائد في إلحاقها بالبلاد. وفوق هذا و ذاك فإن على الحكومة الجديدة أن تعمل على إنهاء الأحتلال و خروج القوات الأجنبية من العراق خلال فترة معقولة. لذا فإن هذه القوى تدرك بأنها ستتحمل المسؤولية في ظل ظروف عصيبة جدا الأمر الذي يتطلب تشكيل حكومة منسجمة بعيدة عن المشاحنات الشخصية و شلة المغامرين السياسيين الذين كانوا خلال الأشهر الماضية نجوما تلفزيونية أكثر من كونهم مسؤولين دولة.
لقد تبين بأن كل ما قيل عن الخلافات حول توزيع المناصب و الحقائب الوزارية و رددتها وسائل الأعلام العربية و تصدى لتحليلها جيش المحللين السياسيين و ( المفكرين !) لا علاقةلها بالواقع. ويبدو أن السياسيين الذين يديرون المباحثات يتلذذون بإنشغال هذا الجيش بتحليل ما لاوجود له على أرض الواقع. كما ظهر أن كل ما قيل عن المطالب الكردية ( الجديدة !) لا يمت الى الحقيقة بصلة. لم يتقدم الكرد بأية مطالب جديدة، بل طالبوا بالألتزام ببنود قانون إدارة الدولة العراقية في الفترة الأنتقالية. ويبدو أن بعض الأطراف السياسية إعتقدت بأن فوزها في الأنتخابات يعطيها الحق بالتراجع عن تنفيذ ما سبق أن وقعت عليه ولكنها و لله الحمد أدركت قصر نظرها قبل أن تتسبب في إلحاق أضرار كبيرة بالعملية السياسية.
أعتقد بأن جميع القوى المتطلعة الى التقدم و التحرر و الديموقراطية في العراق ستجد نفسها في المستقبل القريب مجبرة على الإعتراف للحركة الكردية بأنها شكلت صمام الأمان لقيام نظام ديموقراطي دستوري فدرالي حر في العراق يحترم الإنسان و الحريات الشخصية و حقوق الطوائف و الجماعات المختلفة، كما أن هذه الحركة ستقطع الطريق على كل من يحاول إقامة دكتاتورية جديدة في البلاد تحت مسميات جديدة. لا أقول هذا الكلام من منطلق إعتبار القيادات الكردية قيادات ديموقراطية للعظم، بل أقول ذلك لأن النسبة الساحقة من الكرد و معهم الديموقراطيون العراقيون يؤمنون بأننا لا يمكن أن نتمتع بحقوقنا القومية و السياسية و حرياتنا الفردية إلا في ظل نظام ديموقراطي فدرالي حقيقي في العراق.
قبل عام من الآن فقط كان أكثر العراقيين يعتبرون أي حديث عن الفدرالية نوعا من الخيانة الوطنية و دعوة للأنفصال و تفتيت الوحدة الوطنية و غير ذلك من الشعارات الرنانة، بينما نرى الآن بأن المحافظات المختلفة تتسابق للأعلان عن تشكيل إقاليمها الفدرالية. سوف لن نعطي لأنفسنا الحق في أن نقرر ما هو النظام الأنسب لأدارة البصرة و العمارة و الناصرية أو الأنبار و صلاح الدين، و في الوقت نفسه نتوقع من أبناء تلك الأقاليم و غيرها من مناطق العراق أن لا يسمحوا لأنفسهم أن يقرروا ما يصلح أو لايصلح لنا.
وكان هناك لغط كثير على قانون إدارة الدولة بينما يقول البعض فيه الآن ما لم يقله مالك في الخمر. من هنا وجب على مؤسسات الدولة العراقية أن توفر المعارف و المعلومات الصحيحة للمواطنين العراقيين، الذين إنقطعوا عن العالم الخارجي لعقود طويلة، عن القضايا السياسية و القانونية و المفاهيم الجديدة و لا تدعهم رهائن بأيدي المغامرين السياسيين و رجال الدين الجهلة أو الإعلامين المحرضين.
من هنا يبدو لي أن هناك متسعا من الوقت أمام القوى الفائزة في الأنتخابات لكي تقوم بمهمتها على أكمل وجه و سوف لن نغفر لهم إذا ما فشلوا في تحقيق آمال الناس في بناء دولة مؤسسات تحترم مواطنيها و لا تفرق بينهم بسبب الأنتماء الديني أو القومي أو المذهبي أو المكانة الأجتماعية.
يمكن للمثقفين العراقيين أن يلعبوا دورا إيجابيا في الحوارات الجارية حول شكل النظام السياسي و نشر مفاهيم حقوق الأنسان و بناء المجتمع المدني و قطع الطريق على القوى الظلامية التي تتحين الفرص لفرض هيمنتها على الناس في العراق.