نعم، انه عراق المساواة و الديمقراطية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
انتخاب الاستاذ جلال الطالبانى كاول رئيس للعراق يقلد اعلى منصب فى الدولة العراقية خلال انتخابات حرة و نزيهة سيشكل بداية لمرحلة جديدة فى العراق و الشرق الاوسط بصورة عامة. انها مرحلة المساواة فى الحقوق على اساس المواطنة بين كافة المواطنين بغض النظر عن انتمائهم القومى و العرقى و الدينى و المذهبى اي مرحلة التعايش السلمي فى الشرق الاوسط و دفن طبول الحرب و العنصرية و الكراهية و من القريب جدا بأن هذه التجربة ألتاريخية فى العراق ستعيد نفسها اذ سنرى يوما ما رئيسا عربيا على قمة دولة اسرائيل و رئيسا سنيا او كرديا لجمهورية ايران الاسلامية او قبطيا رئيسا لمصر او ربما سنسمع يوما ما رئيسا للجمهورية التركية يقول بلغته الام مهما كانت ارمنية او عربية او شركزية او كردية:"بكوني رئيسا لجمهورية تركيا" و حينئذ يتحول مصطلح تركيا من مصطلح قومي الى مصطلحا جغرافي يرمز الى التعايش السلمى للشعوب فى هذا البلد او ربما سنرى يوما ما رئيسا يزيديا او مسيحيا لسوريا.
انتخاب مام (العم) جلال كما تعود العراقيون على تسميته احتراما له و تقديرا لنضاله الطويل ضد كافة اشكال الدكتاتورية و الاضطهاد و هو اكثر من كونه انتخاب شخص معين لاعلى منصب فى الدولة، بل انتخابه هو بمثابه اختيار نموذج جديد للتعايش بين الشعوب فى الشرق الاوسط و هو نموذج التعايش على اساس المساواة فى الحقوق و الكرامة الانسانية و هو اساس للتعايش السلمى فى المنطقة و خاصة فى الدول متعددة ألقوميات و الاديان و و المذاهب و اكثرية دول الشرق الاوسط هى دول من هذا النوع. لهذا فانه فعلا عراق المساواة.
و انه ايضا عراق الديمقراطية لان العراق هو فعلا الدولة الوحيدة فى الشرق الاوسط تجرى فيها انتخابات حرة و نزيهة و عامة بصورة كاملة وتستطيع كافة الكيانات السياسية الاشتراك فيها من اليمين الى اليسار وحتى الاحزاب التى تم تشكيلها على اسس قومية او دينية و النظام الانتخابى العراقى لا مثيل له فى الشرق الاوسط فى ليبراليته اذ ان الانظمة الانتخابية حتى للدول التى تدعى بانها اعرق ديمقراطية فى المنطقة او الديمقراطية الوحيدة، تمنع تشكيل الاحزاب على اسس دينية او قومية ما عدا قوميات و مذاهب معينة تسيطر على امور الدولة او تقليد المناصب العليا فيها يكون حكرا على اعضاء قومية او دين او مذهب معين.
انتخاب الرئيس الطالبانى لهذا المنصب لم يشكل مفاجئة على المستوى الدولى و العراقى اذ ان بالرغم من ما نعم الله على العراق من شخصيات نزيهة و كفوءة رجالا و نساء، كان الاستاذ جلال الطالبانى من بين ابرز هذه الشخصيات لكونه مناضلا و محاميا مدافعا عن حقوق الانسان و مثقفا انسانيا و دبلوماسيا عريقا و قائدا ميدانيا شجاعا، بدأ حياته السياسية فى اربعينات القرن الماضى كطالب فى مدرسة كويسنجق الابتدائية كما ذكره الاستاذ المحامى فايق جميل، زميل الاستاذ جلال الطالبانى آنذاك فى المدرسة، فى مذكراته المنشورة اخيرا حيث كان يشجع التلاميذ على الاشتراك فى المظاهرات التى كانت تطالب بالحقوق الاساسية للعراقيين.
و هو اصبح شخصية سياسية معروفة على المستوى العراقى و الدولى فى خمسينات القرن الماضى حيث كان يمثل اتحاد الشبيبة و الطلبة الكردية فى المؤتمرات والمهرجانات الدولية و بعد دخوله الحياة الحزبية برزت مواهبه الدبلوماسية حيث التقى كممثل للحركة الكردية بالعديد من رؤساء الدول و الحكومات من بينهم الزعيم العربى الراحل جمال عبد الناصر. و بجانب كونه دبلوماسيا و و مثقفا وكاتبا ناجحا فان انخراطه المبكر فى الحياة السياسية الميدانية جعله رجلا واقعيا و عمليا يختار الاسلوب المناسب فى الوقت المناسب اذ اكتشف منذ بداية ستينات القرن الماضى بان الطبيعة الشرسة للدكتاتورية لا يمكن التعامل معها الا عن طريق الكفاح المسلح و اصبح قائدا ميدانيا فى صفوف الحركة المسلحة الكردية يقود المعارك بنفسه.
و مع هذا فانه لم يتجاهل واقع مجتمه اى ان اي نضال قومى يجب يرافقه نضال من اجل الاصلاح الاجتماعي للنهوض بالمجتمع فى المجالات الاقتصادية و التربوية والصحية خاصة لدعم الفقراء و المعدومين من الفلاحين و هذا التوجه كان ايضا سبب تشكيله لحركة جديدة مع مجموعة من رفاقه منتصف ستينات القرن الماضى و كان من اهم ركائز الحركة الجديدة التى هى مستمرة لحد الآن تحت راية الاتحاد الوطنى الكردستانى، المساواة و العدالة الاجتماعية و تحمل الحركة اسم الكردستانى و ليس الكردى لجعله حركة كافة الشعوب التى تشارك الاكراد فى العيش فى كردستان.
و من الجدير بالذكر بان الرئيس العراقى المنتخب السيد جلال طالبانى قد توصل الى ما توصل اليه اليوم بجهده الشخصى و ذكائه و شجاعته و من خلال نضاله المستمر ضد الاستبداد و الدكتاتورية لاكثر من خمسة عقود من الزمن قضى معضمها فى جبال كردستان بين صفوف المقاتلين و لم يورث منصبا من احد و ليس له عشيرة و لا هو صاحب طريقة دينية حتى اقربائه القليلين عدديا لا دور مميزا لهم فى الحزب و الادارة.
و لهذا فانه رجل عظيم و للعظماء بجابب خواصهم القيادية صفات شخصية تميزهم من غيرهم كالبساطة و التسامح و الانسانية و مساندة الضعفاء.
فهو معروف ببساطته و كرهه لكل مظاهر البذخ و التملق. اننى اتذكر ذات مرة كنا جالسين مع مجموعة من طلاب جامعة السليمانية فى بهو فندق السلام فى السليمانية و دخل الاستاذ جلال الطالبانى الفندق مع عدد قليل من المرافقين لزيارة احد ضيوفه فقررنا نحن عدم النهوض للترحيب به لاختبار رد فعله لانه كان دائما يدعى فى مقابلاته العامة بانه لا يحب المظاهر و الشكليات و فعلا عند مروره بجانبنا القى تحية حارة علينا و لم يظهر على مرافقيه اى ظواهر عدم الرضا و ثم جلس بجانب ضيفه فهو على ما اتذكر كان المرحوم فوآد عارف. و بعد فترة وجيزة سمعناه ينادى شخصيا موظف الاستقبال فى الفندق و يرجوه الاتصال بمستشفى الطوارئ لطلب طبيب لانه على ما يبدو فان ضيفه الذى كان كبيرا فى العمر شكى له آلاما فى أذنيه.
فهو معروف ايضا بتسامحه و خاصة اتجاه معارضيه. فهناك اعضاء فى المكتب السياسى لحزبه يعارضونه علنا و يتنافسون معه و قام بعضهم قبل عدة اشهر بالتوقيع على رسالة موجهه اليه و نشرها فى الصحف المحلية يطالبونه فيها باجراء اصلاحات جذرية داخل الحزب و ووضع حد لظاهرة الفساد المتفشية فعلا داخل الحزب والادارة. و كان رد فعله كرئيس للحزب الشروع باجراء هذه الاصلاحات و لم ينجح فيها لانه واجه مقاومة عنيفة من قبل جيش ضخم من الفاسدين داخل الحزب والادارة و لكنه حاول بجد و لذلك له اجران. و لكن من ألمأمل بان ينجح كرئيس للعراق بوضع حد للفساد المتفشى فى الدوائر و الاجهزة الحكومية العراقية لانه الآن كرئيس منتخب من قبل اكثرية العراقيين لا يمثل حزبا او قومية معينة بل كل العراقيين.
و المعروف عنه ايضا تعلقه بالقرائة بالرغم من ضيق وقته و يملك مكتبة شخصية ضخمة و اتذكر ذات مرة كانت هناك باحثة فى جامعة السليمانية تبحث عن كتاب معين عن القانون الدولى الانسانى و بالاخص عن جرائم الحرب و لم تجده فى مكتبة الجامعة فنصحها احد موظفى هذه المكتبة بالاتصال بمكتب مام جلال و فعلا كان الكتاب موجودا فى مكتبته الخاصة و هو اهداه بدوره الى مكتبة الجامعة.
و من صفاته الاخرى رفضه للمتملقين و احترامه لكل من ينتقده مباشرة و بشجاعة. و كان هناك احد الممثلين الفكاهيين فى مدينة السليمانية اختص بتقليد و انتقاد الاستاذ جلال الطالبانى بصورة لاذعة و فى الملأ ولكن الاستاذ الطالبانى كان يشير اليه دائما فى اجتماعاته الحزبية و يذكره كمثال يجب ان يهتدى به المسؤولين الحزبيين و الحكوميين من اجل اعتماد روح التسامح و تقبل النقد.
صحيح بان للسيد الطالبانى طريقته الخاصة فى ممارسة السياسة ككل السياسيين فى العالم و ليس من الضرورى ان يتفق معه الجميع فيها اذ هو لا يمكن اعتباره ممثلا للمدرسة المثالية فى السياسة بل المدرسة الواقعية و هذا هو السر وراء تنوع تحالفاته المتناقضة بعض الاحيان. و كما ياخذ عليه عدم نجاحه بصورة كاملة لوضع حد لظاهرة الفساد المتفشى داخل حزبه و الادارة التى يسيطر عليها هذا لحزب و كما يعاتب على حمايته لمجموعة من عملاء النظام السابق فى الصفوف القيادية لحزبه والذين اكتشفت ملفاتهم التجسسية فى ارشيفات الاجهزة المخابراتية القمعية بعد طرد النظام الفاشى من الحكم و ما لا يتناسب مع مبادئ العدالة التى يؤمن بها هو خاصة كمحامى.
فالرئيس العراقى الجديد يمكن اعتباره من الشخصيات السياسية التى يجتاز ثقلها السياسى حدود بلدانهم كجواهر لال نهرو و جمال عبد الناصر و غورباتشيف و فاسلاف هافيل و برونو كرايسكى.
ان انتخاب الاستاذ جلال الطالبانى لاعلى منصب فى العراق هو فعلا بمثابة وضع حجر الاساس لعراق جديد و هذا الانتخاب هو الذى سبب هذا التغير الهائل فى موقف الاكراد اتجاه الدولة العراقية حيث ان بعد عشرات السنين من الاظطهاد و عمليات الابادة الجماعية و استعمال اسلحة الدمار الشامل ضد الاكراد و حرق آلاف القرى و المدن الكردية اصبح الكردى العراقى يقول من اعماق قلبه: نعم، انه فعلا عراق المساواة و الديمقراطية.
د.كمال سيد قادر
a7825836@unet.univie.ac.at