أصداء

القضاء العراقي الجديد

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

لقد قام النظام البعثي خلال الخمسة والثلاثين سنة بغسل عقول الشعب العراقي بطريق العنف والاعلام، وخاصة خلال السنين الاثنى عشر الاخيرة حيث قام النظام باشباع الناس بالدعايات الظاهرية ضد الولايات المتحدة والدول الغربية الاخرى، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تستورد 80% من نفطه الخام.

والحوادث التي حلت بالعراق خلال السنتين الماضيتين من سلب وحريق وانعدام النظام بتشجيع من بقايا نظام البعث المنقرض قد زاد من غضب الفرد العراقي ضد الاميركان والانكليز. ومثل تلك الحوادث سوف تزيد من مصاعب تطبيق التحسينات في مؤسسات البنية التحتية بصورة عامة والجهاز العدلي بصورة خاصة.

وكثيرا منا يتذكرون الأيام الخاليات عندما كان للعراق نظام عدلي فرض احترام الدول العربية المجاورة و شعوب الدول الغربية. أما الشباب العراقي الذي لا يسمح له عمره بتذكر تلك الأيام فلا بد لهم
قد سمعوا بما كانت عليه المحاكم
قبل مجيء صدام الذي اهلك الشعب العراقي وحول تاريخه إلى سيرته الشخصية.

لقد عانى الجهاز العدلي تحت حكم صدام حسين من الفساد والتدمير من ما يعجز وصفه، اذ انه قام باكساء الجهاز العدلي برداء سياسي وزيادة الرشاوي والواسطات الحزبية بحيث اصبح اصلاحه من المتطلبات الملحة امام اية حكومة جديدة.

ففي ظل حكمه بقيت محاكم الدولة التقليدية تابعة لوزارة العدل، حيث تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم اعتمدت الى حد كبيرعلى علاقتهم بالحزب المسيطر على الوزارة. وكان اختيار القضاة من بين خريجي كليات الحقوق اللذين يوافق عليهم حزب البعث. كما كان من المفروض ان
يمر هؤلاء بمراحل تدرج في المحاكم من كتبة الى اداريين في المحاكم قبل استدعائهم للتعيين كحكام، أما التخطيات التي
زاولتها تلك الزمرة الحاكمة في هذا المجال لا يمكن معرفته و تحديده بدقة.

كما اختلق النظام البعثي محاكم جديدة غير تابعة لوزارة العدل وتشمل هذه:

محاكم امن الدولة والمحاكم الاستجوابية للنظر في القضايا الاجرامية (عدا الجرائم التي تستحق حكم الاعدام) ومحاكم الاحداث والمحاكم العسكرية ومحاكم الجرائم الصغرى ومحاكم البلديات. ولم يتوفر اي نوع من الرصد والموازنة عدا الشكلية منها للنزاعات المدنية والجزائية والمحاكم الشخصية حيث هنالك محاكم البدائة والاستئناف والنقض.

ان اقامة مبدأ سيادة القانون في العراق يعتمد على:

( أ ) تطبيق العدالة في حق المسؤليين السابقين عن الظلم الذي حدث في الماضي وازاحة هؤلاء المسؤليين من ذوي العلاقة بالظلم الذي حدث من تجاوزات الجهاز الحكومي السابق، حيث كان محامي الدفاع مجرد ختم يؤيد ما تريده السلطة آنذاك، ولم يكن هنالك ما يسمى بمرافعة في
أمر الاحتجاز للمتهم إذ كانت الشرطة تلقي المتهم في زنزانته وتتركه هناك!!!

ولغرض تطبيق العدالة فان الاقتراح العملي هو تشكيل محاكم خاصة مؤلفة من قضاة عراقببن لمحاكمة الجرائم المشمولة بالقانون الدولي مثل جرائم الاعتداءات التي قام بها النظام السابق ضد الدول المجاورة واستعمال الغازات السامة والجرثومية بالرغم من توقيع العراق على اتفاقية جنيف لعام 1949 والاتفاقيات الدولية بشأن حقوق الإنسان. ولقد اشتركت مجموعة المساعدات الدولية لشؤون القضاء السويدية وبدعم من الحكومة الجيكية و البريطانية والمحاكم الاميركية بتدريب خمسون قاضي عراقي في براغ كما تكفلوا بتدريب 150 آخرين خلال السنتين القادمتين.

إن تدريب مثل هؤلاء القضاة لمدة 3 شهور أو أكثر ليس بالمدة الكافية لتفهم المعاني القانونية مهما بلغ أولئك القضاة من معرفة باللغات الأجنبية ناهيك عن تفهم الروح القضائية المتمدنة، ولقد أيد ذلك السيد كوفي عنان في رسالته المؤرخة في 22 أكتوبر 2004 و ذلك بالرغم من المديح الذي أثناه مدربي اؤلئك القضاة على مدى تقدمهم في الدورة الثانية التي انعقدت في براغ في ديسمبر من العام الماضي.

( ب )بناء جهاز عدلي يؤمن سيادة القانون والنظام ويحمي حقوق جميع العراقيين، ويتطلب هذا البناء الغاء المحاكم الخاصة التي جاء بها النظام السابق.

وهنالك حاجة ماسة لاستحداث محاكم للفصل في الجرائم المقترفة من قبل اشخاص اقل شأنا كالجرائم المحلية مثل قتل وتعذيب السجناء، والاستيلاء على الممتلكات والفساد.

ولاسباب عديدة فان الادارة الاميركية تقترح بايقاف احكام الاعدام في المحاكم المذكورة ولو إنها تعتمد مثل تلك الأحكام في بعض من ولاياتها.

المرحلة الأولى في إصلاح الجهاز العدلي تبدأ في تشخيص اولئك القضاة والمحامين اللائي ترتئ الحكومة إقصائهم ومنعهم من تسلم مناصبهم القديمة لارتكابهم او مشاركتهم في ارتكاب الجرائم خلال حكم صدام حسين. كما ان هذه المرحلة تشمل ايضا اعادة تدريب بقية القضاة والمحامين اللذين لا يشملهم قرار الاستبعاد من الوظائف والمهن بالرغم من ان اعادة تدريب الرعيل السابق اثبت فشله كما شاهدناه في تجربة روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييت. ومن ناحية اخرى فان استقطاب خريجين جدد من كليات الحقوق وقليلي الخبرة والدراية سيخلق وضعا فوضويا كما نشاهده في بعض من دول الخليج.

واكثر من ذلك ايضا فان مستوى التعليم الحقوقي الذي مر به طلاب كليات الحقوق خلال الثلاثون سنة الماضية هو دون المستوى المهني الذي تتمتع به بعض الدول الاخرى، حيث لا يمكننا توقع مستوى رفيعا للمهنية القانونية
في يلد لم يعني به حكم القانون الا " جرة قلم" كما كان يحلو لصدام حسين التبجح به.

كما يمكن استغلال الطاقات المتوفرة لدى الكثير من المحامين والقضاة الذين اقصوا او ابعدوا من وظائفهم في العهد السابق.

الصعوبة الاخرى التي سيواجهها النظام العدلي هو عدد المسؤليين عن الجرائم المقترفة، فخلال 35 سنة من حكم حزب البعث وجهاز صدام الأمني ازداد عدد مثل هؤلاء بحيث إنهم يقدرون بعشرات الآلاف من الاشخاص، وعليه فان القرار بالادعاء يجب ان يتم بصورة لا تدعو الى الاعتقاد بان غرض تلك المحاكمات هو مجرد الانتقام او التجريم الجماعي لاعضاء حزب البعث الحاكم سابقا بل على العكس يجب ان يكون الغرض من تلك المحاكمات هو في سبيل معرفة الحقيقة والتسامح والوحدة الوطنية.

إن المرحلة التي يمر بها العراق الآن هي مرحلة إلغاء القوانين والتشريعات التي جاء بها ما يدعى بمجلس قيادة الثورة والشروع في التحضير لدستور جديد. فمرحلة الغاء تشريعات حزب البعث هي من ضروريات اقامة جهاز عدلي متين لأن تلك التشريعات شملت الكثير من نواحى الحياة للشعب العراقي ولاحتوائها على كثير من المتناقضات.

أن سرعة العمل في تشريع دستور جديد هو من المتطالبات الملحة، اذ اننا نقرأ في الصحف عن بداية ل "محاكم الجوامع" والتي بدأت تصدر قراراتها وتملئ الفراغ القضائي الذي ظهر بعد زوال النظام السابق والذي يتنافى مع ابسط الحقوق الإنسانية وحقوق المرأة.

و يجب ان لا يفوتني ذكر موضوع الاستقلال الذاتي للقضاء وتصرف القضاة والسلوك المهني للمحامين والمستشارين واحترام الناس للقضاة هي جزء من الامور التي لايمكن بنائها في مدة وجيزة، كما انه ليس بالشئ الهين اعادة بناء جهاز قضائي مستورد من الخارج وعليه فان الشك يزاولني في رغبة الولايات المتحدة الاميركية التورط في عملية الاصلاح المذكورة.

إن العراقيل التي تواجه الحكومة العراقية في موضوع عملية الإصلاح التي ذكرتها انفا هي كما اراها:

§ مشاكل اختيار القضاة والمحامين وموظفي المحاكم الاخرين

§ رغبة السلطة الجديدة لتشريع قوانين جديدة بسرعة من ما قد يتعارض مع وجود قضاة مستقلين قد ينظر اليهم كمرعقلين لسن مثل تلك القوانين

§ نظرة العراقيين على كون الجهاز القضائي كمستودع للعادات والثقافة المقدسة التي لا يجب المساس بها او تغيرها جذريا

فعلى سبيل المثال نرى بعضا من الدول العربية ترى صعوبة في تزاوج دور الاسلام مع قوانين مساواة المرأة مع الرجل او قوانين الاحوال الشخصية الحديثة، وقد تواجه نفس الصعوبة في العراق.

يقول بروفسور دك هاورد استاذ القانون في جامعة فيرجينيا "يجب امكانية تطبيق احكام الدستور حتى ضد الاغلبية المنتخبة، مهما بلغ ذلك الدستور من حسن صياغة"

او بعبارة اخرى وجوب خلق محكمة دستورية تحتوي على قضاة ذوي استقلال كافي لمقاومة الضغوط الخارجية التي يتعرضون لها في وضع العراق الملخبط الحالي، فهل من الممكن ايجاد مثل هؤلاء القضاة اللذين قد يتعرضون لاعتداءات جسدية وهل ان الظروف الحالية تسمح لهم بالاستقلال كقضاة؟

قد يكون من الممكن تخطي صعوبة درء الضغوط الخارجية عن طريق خلق مجلس عدلي عالي على رأس الجهاز القضائي وفي مستوى المجلس الرئاسي خلال الفترة الحالية ولكن غير معين من قبل المجلس الرئاسي المؤقت.

لذا ا طرح اقتراحي على الحكومة العراقية الحاضرة في الدعوة إلى مؤتمر قانوني مؤلف من قضاة ومحامين عراقيين لغرض وضع المؤهلات اللازمة لاعضاء مثل ذلك المجلس، كما اقترح أن يقوم هؤلاء القضاة بانتخاب اعضاء ذلك المجلس وان يكون له ميزانية خاصة به لكي لا يبقى اسيرا للسلطة التنفيذية.

وتشمل الخطة المقترحة هي أن يقوم الجهاز القضائي بالتداعي في حوادث الجرائم على ثلاثة نظم وخاصة تلك الجرائم الناتجة عن تفريط وسوء استعمال النظام العراقي التابع لصدام حسين.

فالمحكمة الخاصة المؤلفة من قضاة عراقيون تعني بالادعاء في قضايا الجرائم الدولية التي تشمل " الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب والابادة الجماعية والتعذيب" وهذه المحكمة تقوم بمحاكمة صدام واعمدة النظام السابق.

اما القضايا والجرائم الخطيرة والاعتداءات الاخرى والتي يعاقب عليها بالسجن لمدة تتراوح بين الخمسة والخمسة والثلاثين سنة فانها تنظر امام محاكم الجزاء المحلية.

و الجزء الثالث من الجرائم فانها تسمع امام لجان مؤلفة من قضاة لمعرفة الحقيقة والتي تنظر الجرائم التي يعاقب عليها بالسجن لمدة لا تزيد عن خمسة سنوات والتي يمكن فيها التفاوض مع اولئك المتهمين الذين يتعاونون ويعترفون بجرائمهم ويكون لها صلاحية اعفاء المسؤليين الصغار في النظام السابق ان اعترفوا بمسؤلياتهم في الجرائم المنسبة لهم.

والجدير بالذكر ان هذا الاسلوب قد اتبع وبنجاح في جنوب افريقيا وبعضا من دول اميركا الاتينية في الصراعات المقسمة لمجتمعاتها.

د. مصطفى حبيب

المستشار بالمحكمة العليا- لندن

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف