أصداء

الماركسية تتجد د

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

إذا كان الفكر هو النقيض المرتبط إرتباطاً ديالكتيكياً بالواقع، وأننا نقتطف أفكارنا من أرض الواقع فذلك يعني بكل بساطة أن كل تغيير أو تجديد في الأرض لا بدّ وأن ينعكس بتجديد مناظر في الفكر وفي التفكير.
عاشت الإنسانية طيلة القرنين الآخيرين وهي تعاني من تناقضات خطيرة وذات مردود سلبي في بنية نظام الإنتاج الرأسمالي تسببت في إشعال حربين عالميتين وعشرات الحروب الإقليمية راح ضحيتها عشرات بل مئات الملايين من الأرواح البريئة بالإضافة إلى نشر الدمار الواسع في العمران وتبديد ثروات لا تحصى كما خلفت الفقر المدقع في مجتمعات بشرية كثيرة وحالت دون تنميتها في الموارد وفي السكان. أضف إلى ذلك أزمات الكساد في الدول الرأسمالية ذاتها وما تسببه من بطالة وتجويع والقضاء من جهة أخرى على إطار العائلة التقليدي وصولا إلى تفتيتها.
كان أول من برز لمعالجة الآثار السلبية الواسعة والعميقة لنظام الإنتاج الرأسمالي هو الرأسمالي الإنجليزي والإشتراكي الطوباوي روبرت أوين (Robert Owen 1771-1858) الذي أنفق أموالاً طائلة على إقامة مصانع نسيج لمصلحة العاملين فيها في مقاطعة لاناكشاير في إنكلترا والتي إنتهت إلى فشل ذريع. وتنطح مفكرون كثيرون لمعالجة مآزق النظام الرأسمالي منهم سلسلة طويلة من الإشتراكيين الطوباويين ومنهم أخيراً (1936) جون كينز(John Keynes) الذي رأى وجوب تدخل الدولة لضمان التشغيل الواسع للقوى العاملة. كما شارك المشرعون في هذا السياق فسنوا قوانين منع الإحتكار وقوانين التأمينات الإجتماعية. كما ظهرت في ستينيات القرن الماضي توجهات لانتهاج ما يسمى بِ " الرأسمالية الشعبية " أي تعويم ملكية المؤسسة الرأسمالية من خلال تمليكها لعدد كبير من المساهمين. وأخيراً برهنت كل تلك المعالجات الإصلاحية على أنها غير ناجعة ووقع النظام الرأسمالي العالمي في أزمة عميقة عام 1971 لم ينفع معها كل العلاجات التقليدية المعروفة فتنادى زعماء الدول الرأسمالية الخمس الكبرى، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا واليابان،( G5 )، إلى مؤتمر عقد في قلعة رامبوييه في باريس عام 1974 فكان ذلك المؤتمر أخطر مؤتمر انعقد في التاريخ قاطبة. تحقق الرؤساء الخمسة من أن أزمتهم ليست كسائر الأزمات وأنها أزمة مصيرية تستحق أخطر العلاجات؛ فكان العلاج الوحيد الذي توافقوا عليه هو إفاضة ما تكدس في خزائنهم الضخمة من أموال طائلة (Petro-Dollar amp; European Dollar two pools) على الدول النامية، التي كانت قد شرعت في بناء إقتصاداتها الوطنية المستقلة المرتكزة على ذاتها، بشكل قروض ميسرة وسهلة لا تشترط إلا إنفاقها في إستيراد البضائع الإستهلاكية. ما تحقق من خطة هؤلاء المتآمرين الخمسة الكبار هو أن إقتصادات الدول النامية الوطنية إختنقت غرقاً في فيضان السلع الإستهلاكية الرخيصة والمال السهل وتهدمت نهائياً وأن هذه الدول التي غرقت في الديون إلى ما فوق قمة رأسها أخذت تعتمد باستمرارها على القروض الخارجية. أما ما لم يتحسب له الخمسة الكبار هو أن الإقتصاد الإستهلاكي (Consumerism) أخذ يطرد الإقتصاد الرأسمالي (Capitalism) من على المسرح العالمي ويحل محله، وثمة إختلاف في العمق بين الإقتصادين. لقد برهن علاجهم بعد سنوات قليلة على أنه إنما كان السم الزعاف الذي أودى نهائياً بالنظام الرأسمالي، ولم ترجع الدول النامية لأن تكون دولاً محيطية لمراكز الرأسمالية العالمية كما كانت قبل الإستقلال وكما خطط لها مؤتمر رامبوييه كما أنها لم تعد قادرة على استقبال فائض الإنتاج في المراكز الرأسمالية في كل الأحوال، بل لم يعد هناك من فائض إنتاج في نهاية الأمر.
عالم الإقتصاد الوحيد الذي توقف طويلاً أمام التناقضات الحادة في نظام الإنتاج الرأسمالي وأدرك مفاعيلها كان كارل ماركس (1818-1883). رأى ماركس أن التناقض الرئيسي في نظام الإنتاج الرأسمالي المتمثل في ملكية أدوات الإنتاج من جهة والعمل المأجور من جهة أخرى ـ رأسماليين/عمال ـ هو ما سيفكك النظام ويقضي عليه نهائياً. قام لينين بمحاولة جريئة في روسيا عام 1917 إسترشاداً بنظرية ماركس وقطع مشروعه مراحل هامة على طريق تفكيك النظام الرأسمالي العالمي؛ لكن قوى المشروع الذاتية لم تكن كافية لمواجهة الجبهة الواسعة والعميقة التي تشكلت لمقاومة المشروع وبذلت في سبيل ذلك طاقات وثروات هائلة تتجاوز حدودها كل الأرقام المعروفة ونجحت بالتالي في ذلك وانهار مشروع لينين عام 1991. عاش العالم طيلة القرن العشرين يدور في صراع شديد الوطأة بين المعسكر الإشتراكي من جهة والمعسكر الرأسمالي من جهة أخرى، أو حول التناقض عمال/رأسماليين.
اليوم انتهى هذا الصراع وما يسميه العامة بالحرب الباردة وهو ما يعني بالضرورة أن التناقض الرئيسي الذي شغل العالم لقرنين طويلين، تناقض رأسماليين/عمال لم يعد موجوداً أو على الأقل غائباً عن المسرح الدولي. والأمر الغريب في هذا السياق هو أن أحداً لا يتكلم اليوم عن التناقض الرئيسي في النظام الرأسمالي العولمي المفترض عدواً رئيسياً، فهل يعني ذلك صلاح النظام أم إنتهاؤه ؟!! ما زال المتسيسون والمتفكرون يوجهون أقسى عبارات النقد إلى الرأسمالية الإمبريالية لكن ليس من جهة الخلل الرئيسي فيها بل من جهة أخرى يسمونها " العولمة " دون أن يشيروا إلى أي تناقض في هذه العولمة وكأنما هي النظام الأبدي الذي يختم التاريخ. يتحدثون بعبارات إنشائية طنانة عن عولمة أميركية معادية للشعوب وتفوتهم حقيقة كبرى لا يمكنهم تحاشيها والقفز عنها وهي أنه إذا كان ثمة تناقض بين الشعوب من جهة والعولمة الإمبريالية الأميركية من جهة أخرى، كما يفترضون، فلا بدّ إذاً من أن يكون لديهم حل لهذا التناقض أو على الأقل تصور لمثل هذا الحل، تصور يحدد بوضوح الميكانزمات الذاتية التي تؤهل شعباً من الشعوب المغلوب على أمرها لأن يخرج من دائرة العولمة الأميركية المدّعاة ! فيما قبل العولمة وما قبل 1972 تحديداً كان يجري الحديث حول التحرر الوطني طريقاً للإنفكاك عن الإمبريالية. المحرك الوحيد لمشروع التحرر الوطني كان بناء إقتصاد وطني مستقل مرتكز على الذات وهو الهدف الأكبر للبورجوازية الوطنية والمقبول على طبقتي العمال والفلاحين لأسبابهما المختلفة. ليس من عاقل اليوم في ظل العولمة القائمة يدعو لبناء إقتصاد وطني مستقل بعد أن غدا مجرد ذكرى وحلم قديم لم يتحقق ولن يتحقق. فأي محرك جديد سيخترع هؤلاء المتسيّسون والمتفكرون لحركة وطنية قادرة على إخراج شعبها من تحت مظلة العولمة الأميركية ؟! خلال عشرين عاماً مضت تحدثوا عن صياغة مشروع قومي نهضوي جديد للأمة العربية وعقدوا العديد من المؤتمرات العامة لهذا الغرض لكنهم لم يفلحوا في شيء ولن يفلحوا. كل ما خرجوا به أخيراً هو الدعوة للعمل على إرساء الديموقراطية وحقوق الإنسان في الدول العربية. لكن دعوتهم هذه لم تستطع أن تستر إفلاسهم. لقد أسقط في أيديهم عندما نادت الولايات المتحدة، عدوهم الأكبر، بصوت أعلى من صوتهم وبأدوات أفعل من أدواتهم بتطبيق الديموقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط فما كان منهم أن ارتدوا على دعوتهم ولم يخجلوا في رفع عقيرتهم دفاعاً عن الطغيان والدكتاتورية العربيين في وجه الديموقراطية وحقوق الإنسان " الأميركية " !!! أليسوا هم قوميون قبل كل شيء وبعده ؟!! يتوجب على هؤلاء السادة المتسيّسين والمتفكرين، ومن أجل مصلحة شعوبهم العربية ومستقبلها، أن يعلنوا جهاراً نهاراً قصورهم الفاضح في التعرف على مصالح شعوبهم وعلى النظام الدولي القائم بالتالي.
للإستزادة في فضح الضحالة الفكرية لدى هؤلاء المتنطحين لبناء مشروع نهضوي قومي جديد ـ دون أن ينتدبهم أحد ـ نشير إلى مبدأ " وحدة التناقضات " في الفلسفة المادية الديالكتيكية والذي يشترط وجود تناقض بين الشعوب والعولمة الأميركية بوجود تناقض أولي قبلئذٍ في النظام الأميركي نفسه. لكن أحداً من هؤلاء المتنطحين لم ينبس ببنت شفة عن وجود مثل هذا التناقض. فإذا كان النظام الأميركي سليماً وخالياً من التناقضات فكيف لهم إذّاك أن يتحرروا من سطوة القوى الأميركية المتزايدة وهم الضعفاء وشعوبهم لا تجد ما تأكل إلاّ الطحين الأميركي الوارد معظمه كهبات ؟! لئن كانت الكماشة الأميركية التي تمسك بخناق الشعوب العربية كما يزعمون كماشة حقيقية فلن ينتظر الشعوب إلا الموت المحقق إلاّ إذا ارتخت القبضة الأميركية قبل ذلك بسبب علة في الجسم الأميركي. وعليه فقبل أن يتحقق المتسيّسون والمتفكرون أعضاء المؤتمر القومي الإسلامي من علّة في الجسم الأميركي فعبثاً يتسيّسون وعبثاً يتفكرون!!!
الحقيقة الماثلة اليوم في واقع الحياة الدولية هي العكس تماماً مما يتخيله أعضاء المؤتمر القومي الإسلامي في بيروت. فليس ثمة من كماشة أميركية تمسك بخناق الشعوب العربية. والأمم المتحدة أعلنت رسمياً قبل ثلاث وثلاثين عاماً نهاية الإمبريالية. وانتهت الرأسمالية بقرار من زعماء الدول الرأسمالية الخمسة الكبرى عام 1974 قضى بالإنعطاف إلى الإقتصاد الإستهلاكي. وما العولمة المشكو منها إلاّ أحد تجليات إنهيار النظام الرأسمالي وهروب فلوله من المراكز إلى الأطراف، من حصونه المنيعة سابقاً إلى السهوب المفتوحة. المتسيّسون المتفكرون في المؤتمر القومي الإسلامي ينكرون بالطبع مثل هذه الصورة الغريبة على أسماعهم وأبصارهم وأفهامهم لأن من شأنها أن تسحب كل أرصدتهم السياسية والفكرية، والمرصّدة أصلاً بالتزوير، وتلقي بها إلى القاع. لا يمكن تصديق تكذيبهم قبل أن يفسروا ظاهرة بادية للعيان وهي أن الدول الرأسمالية الإمبريالية التي كانت تعتصر دماء الشعوب الفقيرة لتثرى قد إنقلب حالها اليوم لتصبح أكبر المدينين؛ تستدين من ذات الشعوب الفقيرة لا لشيء إلاّ لتوفر المعاش لشعوبها فقط. الولايات المتحدة الأميركية، ربّ العولمة الرأسمالية المزعومة، مدينة اليوم لشعوب العالم قاطبة بِ 44 ألف ملياراً من الدولارات وهو ما يساوي أربعة أضعاف مجمل إنتاجها القومي. فرنسا وألمانيا تتأرجحان على شفا الإنهيار وقد حذّرهما البنك المركزي الأوروبي رسمياً من ذلك. وبريطانيا ليست أفضل حالاً. كيف يمكن أن تكون الولايات المتحدة أكبر مدين في العالم ومع ذلك يصفها المتسيّسون المتفكرون برب العولمة الرأسمالية الإمبريالية ؟!! ليس من حل أمامهم لهذا اللغز سوى الإقرار بملء الفيه أن خطابهم خطاب معلّب مستورد من عالم قديم لا صلة له بعالم اليوم، من عالم خمسينيات القرن الماضي.
لئن انتهجنا نهج ماركس، نهج المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، علينا أن نتساءل عن التناقض العام الرئيسي الفاعل اليوم في الحياة الدولية كسبيل وحيد لمقاربة علمية موضوعية للعلاقات الدولية والنظام العالمي القائم.
الحقيقة الوحيدة التي يتفق عليها المختلفون حول طبيعة العولمة هي أن نظام الإنتاج الرأسمالي قد انتقل إلى الأطراف بشكل شركات متعددة الجنسيات. أما الحقيقة الأخرى المختلف فيها وفي تداعياتها، وهي الأهم، فهي حدود هذا الإنتقال وطبيعته، فيما إذا كان هو رحيل أم تمدد. لئن كان تمدداً، أي أن الأطراف قد أخذت بذات وسائل الإنتاج كما المراكز فذلك يلغي حالة التطور اللامتكافئ وهي الحاضنة الوحيدة لتقسيم العمل الدولي، أغنياء/فقراء، الدول المتطورة/الدول النامية أو المتخلفة، الحاضنة التي تحميها وتدافع عنها بكل قواها الدول الغنية. ولو كان حقيقة تمدداً لخفت تضجّر العالم من الولايات المتحدة وهو اليوم ليس خافتاً، ولاعتدلت رافعة ميزان المقايضة بين الشمال والجنوب وهي اليوم في إنحراف متزايد. تبعاً لكل هذا يمكن التأكيد على أن نظام الإنتاج الرأسمالي كان قد رحل من مراكزه الكلاسيكية إلى الأطراف. لكن تلك المراكز لم تسمح له بالرحيل بالطبع إلا بعد أن ضمنت لها إقتصاداً بديلاً يعود عليها بامتيازات كبيرة.

فما هو هذا الإقتصاد البديل وما طبيعته ؟
إدّعى أصحابه مؤخراً، ومن باب التباهي والتميّز فقط، أنه " إقتصاد المعرفة "، ثم عبر هذا الإدعاء الزائف استطاعوا، وبقوتهم المعهودة، أن يفرضوا على منظمة التجارة العالمية WTO قانوناً غريباً وفجاً لم يسبق أن عرفت البشرية مثيلاً له هو قانون " الحماية الفكرية " النافذ اليوم في جميع الدول المنضوية لهذه المنظمة والذي يفرض قيمة تبادلية للمعرفة خلافاً لكل قواعد العلوم الإقتصادية. فالمعرفة كانت وستبقى المنتوج الجانبي للشغل (By Product) وطالما أن الشغل يستوفي كامل قيمته عبر دورة الإنتاج فلن يبقي عندئذٍ أية قيمة للمعرفة. إبتزّ الصينيون العالم القديم بمبالغ ضخمة لقاء معرفتهم بصناعة الفخار والتي حافظوا على سريتها بكتمان شديد لكن بعد أن عرف العالم سر الصنعة إنحطت أسعار الفخار إلى قيمتها الحقيقية. ولماذا يكون للمعارف الجديدة أثمان وهي التي لم تتحقق إلاّ عبر استخدام خزان المعارف الهائل التي اختزنتها البشرية ؟! فهل يدفع مبدعو المعارف الجديدة أثمان كل المعارف المستخدمة في إبداعهم إلى الأمم المتحدة مثلاً باعتبارها ممثلة البشرية جمعاء ؟؟! أنتجت المعرفة مشاعاً، بلا ثمن وستبقى مشاعاً برغم كل القوانين.
في حقيقة الأمر أننا لسنا أمام " إقتصاد المعرفة " كما يُدّعى زيفاً ومواربة. لكننا أمام " إقتصاد الخدمات " المختلف تماماً بكل مكوناته عن الإقتصاد الرأسمالي وبحث المفارقة بينهما يستغرق أكثر من كتاب لكن الفروق الأبرز في سياقنا هي :
1.يتم إنتاج الخدمات بإسلوب فردي (Individual Production) على العكس من الإنتاج الرأسمالي الذي يشارك فيه كل المجتمع (Socialised Production).
2.منتج الخدمة هو نفسه الذي يبادلها ويقبض ثمنها مباشرة. إنه ليس مأجوراً ولا مستأجراً كما في الإنتاج الرأسمالي. إنه ليس رأسمالياً ولا عاملاً. إنه من الطبقة الوسطى.
3.لا تستكمل الخدمات دورتها الإنتاجية إلا من خلال دخولها السوق مستترة في جوف السلعة. يدفع المشتري نقوده من أجل القيمة الإستعمالية للسلعة أما الخدمات المحمولة في جوفها فإنه لا يستعملها إطلاقاً رغم أنه دفع ثمنها من مثل النقل والتخزين والتأمين والصيرفة وما يلحق بها من تعليم وصحة وأمن..الخ

هذه الفروق تؤسس لتناقضين رئيسيين يتحكمان اليوم بالحياة الدولية والإجتماعية، وهما –
أ – يتحمل الإنتاج السلعي وحده كامل كلفة الإنتاج الخدمي.
ب-تتحاشى الخدمات نفاذ قانون القيمة حيث تتم مبادلتها مستترة في باطن السلعة.

الدول الرأسمالية وحالما بدأت دائرة الإنتاج الرأسمالي بالإنسداد في ستينيات القرن الماضي سارعت إلى الإنعطاف إلى إقتصاد الخدمات. ويصل اليوم إنتاج الخدمات في الولايات المتحدة إلى أكثر من 80% من مجمل إنتاجها القومي، وفي بريطانيا 75% وفي ألمانيا وفرنسا 70% وفي اليابان 65%. بدأ إنتاج الخدمات أصلاً لخدمة الإنتاج السلعي وحرص الرأسماليون دائماً على الحد من استهلاك الخدمات كيلا يتعرقل مجرى دورة السلع بارتفاع ثمنها. ولذلك ظلت مساحة الطبقة الوسطى في المجتمعات الرأسمالية هامشية بخلاف ما هي عليه اليوم. ومع هذا الإنقلاب تلاشت وظيفة الدولة الرأسمالية وقامت محلها دولة الطبقة الوسطى أو ما يعرف بدولة الرفاه (Welfare State) ؛ ولم يكن المؤتمر الذي عقده في لندن قبل بضع سنوات ليومين متتالين رؤساء الدول " الرأسمالية " الكبرى، كلنتون/الولايات المتحدة، بلير/بريطانيا، جوسبان/فرنسا و شرويدر/ألمانيا، للبحث فيما يسمى بِ " الطريق الثالث/ Third Road " سوى إعلاناً عن الهوية الطبقية الجديدة لهذه الدول، دولة الطبقة الوسطى، حيث الطريق الثالث هي طريق التطور اللارأسمالي واللاإشتراكي.
يعتقد إيديولوجيو الطبقة الوسطى أن " الطريق الثالث " ستوفر رغد العيش لكل الشعب في ظل " دولة الرفاه ". إلاّ أن الحقيقة التي ستتكشف لهؤلاء الإيديولوجيين وللمخدوعين بأفكارهم هي أن " نظام " الطبقة الوسطى أشد وطأة من النظام الرأسمالي بل إنه ليس نظاماً على الإطلاق طالما أنه طفيلي ولا يرتكز على الذات حيث من يتكلف بكامل قيمة الخدمات المتحررة من قيد قانون القيمة هم منتجو السلع، العمال والرأسماليون. لذلك بتنا نرى خلال الربع الأخير من القرن العشرين الرأسماليين يهربون بصناعاتهم من دول الرفاه إلى الدول الفقيرة، وهو ما يسمى بالعولمة وما يرافق ذلك من إنكماش للطبقة العاملة فيها.
من المتعارف عليه أن النظام الرأسمالي رغم كل مساوئه قد حقق تطوراً في حيات البشرية خلال قرنين فقط ما لم يتحقق خلال مائة قرن. لقد أثرى العالم ثراءً مدهشاً من خلال خاصيته، الإنتاج بالجملة(Mass Production)، مع ما رافق ذلك من تطوير مذهل لأدوات الإنتاج. وفي أمر آخر، وهو الأهم، فقد ألغى تقسيم العمل في الجزء الأكبر من مجمل العمل الإجتماعي من خلال خاصية العمل الجمعي(Associated Labor). في عام 1864 إعتقد ماركس أنه بتنظيم " الأممية الأولى " يستطيع أن يلغي ما تبقى من تقسيم العمل آنذاك وكان الجزء الأعظم لكنه سرعان ما تحقق بعد " كومونة باريس " من استحالة ذلك فقام بحل تلك الأممية عام 1874. وفي عام 1917 تحتم على بلاشفة روسيا أن يتسلموا السلطة وبالتداعي رأى لينين عام 1921 أن بإمكان البلاشفة إلغاء تقسيم العمل في الإتحاد السوفياتي على الأقل وفق برنامج محدد وكان أكثر من 80% من مجمل العمل الإجتماعي. تحقق نجاحات كبرى في ذلك البرنامج وتضاعف حجم الطبقة العاملة عشر مرات حتى عام 1938. إلاّ أن الحرب التي فُرضت على الإتحاد السوفياتي وما تبعها من عسكرة جنونية أفشلت برنامج لينين وانتهى إلى الإنهيار عام 1991.
من المثير للسخرية حقاً هو أن الشيوعيين الذين تربّوا في مدرسة خروتشوف ـ غورباتشوف يحجمون بعناد غريب عن البحث في أسباب انهيار الإشتراكية، ويتحججون كيلا يفتضح أمرهم بالقول أن السبب كان السلطة البيروقراطية فكأن البيروقراطية هي طبقة إجتماعية وأسلوب إنتاج !! يتحاشون بغباء مفضوح قانوناً أساسياً في الماركسية يقرر أن سائر التغيرات الإجتماعية إنما هي تجسيد للصراع الطبقي. يخشون الإقرار بوجود صراع طبقي في المجتمع السوفياتي مع أن جوهر الإشتراكية هو استعار الصراع الطبقي. يرفضون الإعتراف بأن الطبقة الوسطى قد هزمت الطبقة العاملة السوفياتية هزيمة حاسمة واستولت على السلطة منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي حين بدأ الإنهيار واكتمل عام 1991.
ما لا تخطئه العين اليوم هو أن الطبقة الوسطى في العالم كله تلعب بمصائر البشرية وتحقق نجاحات كبرى في لعبتها فقط من خلال مبادلة إنتاجها من الخدمات بصورة قسرية بأضعاف قيمته من السلع، إنتاج العمال والرأسماليين. على البشرية المستنيرة أن تسارع إلى وضع حد لهذه السوق الغريبة قبل وصولها إلى أفظع الكوارث عبر التاريخ.

فـؤاد النمري
لمزيد من البحث راجع www.geocities.com/fuadnimri01

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف