ليغرّد النثر عارياً ويسكت ملاك النظم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"كلُّ قصيدةٍ هي جنس أدبي مستقل بذاته"
فريدريش شليغل
1
ما إن أطلق فنيلون روايته "تليماك" التي اعتبرها بوالو "قصيدة نثر"، حتى طفق النثر يسري في جسد اللغة الفرنسية وشرايينها الشعرية بحثاً عن توأمه: "النثر الأعلى". وها هو هودار دي لا موت يصرخ: "النظم مضايقة، فلنكتب بالنثر... فلنقدم للناس قصيداً غير موزون." لكنّ رغبة الهروب من البيت، من سقف القافية وجدران الوزن، أخذت تزداد حباً بفضاء النثر المفتوح حيث البلاغة حرة تتوزع الكلمات فيها جُملاً أشبه بقرى مستقلة ومتضامة في الوقت ذاته. وها هم الناثرون الفرنسيون يصبحون "هم شعراء فرنسا الحقيقيون، وما عليهم سوى أن يتجرأوا وسيكون للغة الفرنسية نبرة جديدة"، على حد عبارة سيباستيان مرسييه في كتابه "توليدات لغوية" (1801). حتى غوستاف فلوبير كان يحلم "بإعطاء النثر إيقاع الشعر شرطَ أن يبقى نثراً، جد نثر". حقّاً أن ناثرين كبار (روسو، نيرفال، شاتوبريان ) ثوروا النثر الفرنسي شعرياً عبر كتب خالدة يتمازج فيها التأمل بالأساطير، الخرافة بالموعظة الحرة، السير الذاتية بلغة الآخر الدخيل المترجمة بشكل يفضح محدودية النظم في اللغة المستهدفة وضيقها في نقل شعر هذا الآخر. لكن الترجمة، كالعادة في كل بلد وفي كل لغة، سيقع على عاتقها دور كسر الأبواب الموصدة في لغة التراث ونحوه المنغلق. وبالفعل أن النثر أطلقَ في سماوات جديدة من التركيب والتعبير والصورة، بفضل الترجمات التي عرفتها اللغة الفرنسية في القرن السادس، السابع والثامن عشر. لكن الرومانتيكية؛ ثورة الخيال هذه، كانت تحمل في رحم رؤيتها الجديدة إلى الأشياء، جنين نصوص نثرية تلبي رغبة قراء يتوافدون بفضل التمدين التحديثي لباريس، ملّوا من نصوص طويلة كانت تتلاءم وظروف النص البائدة. لقد لعبت الرومانتيكية دوراً كبيراً في "تليين الشعر وتقريبه من النثر"، أو بعبارة فكتور هيغو "ألقيتُ بالنظم النبيل إلى كلاب النثر السوداء". مع أن صعود النثر هذا توافق وصعود العقل وفلسفة التنوير، والذي سيجعل من سيّد الوزن، شاعر "أزهار الشر" بودلير يتحوّل إلى شعر النثر، تجب الملاحظة هنا إلى أن "النثر في منتصف القرن التاسع عشر"، يقول جوناثان مور، "بات النوع الذي تفضله البرجوازية بوضوح. وبتحوّله إلى قصيدة النثر، كان بودلير يشاطر البرجوازية انتصارها ويوسّع حقل هيمنتها ليشمل ميدان الغنائية المقدس سابقاً.
النثر الآن يحتل أرض الشعر، وفتوحاته هذه يمكن أن تُرى كرشق جمالي لانتصار البرجوازية على الارستقراطية. وهكذا تكون قصيدة النثر، في أيام بودلير، قد أسدت خدمة ايديولوجية كدليل على الانتصار النثري للطبقة المالكة لامتياز النثر، مثلما هي دليل الصورة الذاتية الشعرية للبرجوازية مقابل خيلاء الارستقراطية وادعاءاتها. ومن جانب آخر، يكشف المنظور الطوباوي أن قيام قصيدة النثر بإدراج الخطاب النثري المهمّش يمكن أن يُرى كتوجه صوب إعادة إدراج الذات الغنائية "السيّدة" في السياق الاجتماعي – السياسي وعلى نحو احتفائي، وكاستعداد لرؤية تلك الذات منخرطة في ميادين الصراع الجمالية والتاريخية-الاجتماعية على النقيض من الشعر الغنائي الأكثر تقليدية." (1)
إن الناثرين الذين يمكن فعلا اعتبارهم ممهدين لقصيدة النثر هم إيفاريست بارني في "أناشيد مادغشقرية"، حيث بناءات شعرية جديدة لم تُعرف من قبل؛ فيليسيتيه دي لا ميني في كتابه "كلمات مؤمن"، والفونس راب في كتابه الشهير إلى اليوم "ألبوم متشائم" الذي ينطوي فعلا على قصائد ستعتبر فيما بعد بقصائد نثر قبل الظهور. غير أن شاعراً سيكتب نصوصاً؛ محاكاة سخرية من كل الرومانتيكية، وفي تقطيع جديد للنثر، أتفق معظم النقاد على إعطاء كتابه الموسوم "غاسبار الليل" وثيقة ميلاد قصيدة النثر: ألويزيوس برتران. والفضل قبل كل شيء يعود إلى اعتراف بودلير بأن فكرة كتابة قصيدة النثر جاءته من قراءة لكتاب برتران "غاسبار الليل". وقد وضح هذا في رسالة إلى مدير تحرير مجلة "الصحافة" أرسين هوسييه(رسالة بودلير وقصائد نثرية)
2
تراءت قصيدة النثر في "غاسبار الليل" كبعد تخيّلي وأساطيري بل جنّيا وسط مشاهد ليلية غوطية، فأظهرها بودلير بمثابة التعبير الأسمى عن كآبة باريس، والنموذج الأحدث لالتقاط الشعري في ما هو عابر وزائل في المدن الكبرى، وتناولها مالارميه كنادرة مهمتها التعبير عن عالم آخر ليس عالم الملائكة والأرواح، وإنما عالم الصمت المشيد داخل اللغة، حيث المجد شمس الألفاظ، وأستشفها رامبو وسيلةً مثلى للتعبير عن فوضى الأنا الداخلية ومشاريعها في خلخلة الحواس حيث حاسة السمع تؤدّي وظيفة حاسة النظر، وحاسة النظر حاسة الشم، وحاسة السمع حاسة اللمس... وفي غرفة داخل فندق، كان لوتريامون، مصدوعَ الرأس يكتب رسالة إلى أبيه ليزوده بالمال الكافي، ليجعل من قصيدة النثر سيلاً شعرياً في الكشف عن شيء آخر لا علاقة له بكل ما كُتب في التاريخ عن الشر... في الحقيقة، كانت هناك قصائد نثر تتدفق، طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من دون أي رقيب، أعمالاً لا يحددها أي تعريف. لو لم يكن بودلير هو الذي أطلق التسمية، وإنما شاعر آخر، لربما واجهت قصيدة النثر معارضة ولأصبحت مجرد موضة تجديدية.
إن أول مقالة عن قصيدة النثر كانت (بعد أكثر من ربع قرن على ظهورها) مقطعاً في رواية ويزمانز "بالمقلوب" (1884) يفكر بطلها بإعداد أنطولوجيا لقصيدة النثر التي تحتوي، في نظره، "ضمن حجمها الصغير، جوهر الرواية حاذفة منها التطويلات التحليلية والحشو الوصفي". في الحقيقة، إن قصيدة النثر كادت تكون شبه منسية منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أن ظهرا، في عز الحرب العالمية الأولى شاعرا الحركة التكعيبية ماكس جاكوب وبيير ريفيردي اللذان منحاها تنظيراً واضحاً عبر نماذج ستطلقها إشكاليةً لكل القول الشعري حتى اليوم. إلا أن ماكس جاكوب يعتبر، بلا شك، هو أول من أعطى تعريفاً لقصيدة النثر محدداً استقلاليتها كجنس أدبي له قوانين واضحة وصارمة، وذلك في "مقدّمة 1916".
فالمقاييس والشروط التي حددها ماكس جاكوب وعليها أن تتوفّر في قصيدة النثر هي: أن تكون قصيدة النثر كتلة ذات قابليّة لتوليد انفعال خاص يختلف كلّياً عن الانفعال الحسّي أو العاطفي. وذلك باختيارها الأسلوب، أي الموادّ المركّبة للعمل المتكامل. وعليها إذن أن تكون قصيرة ومكثّفة خالية من الاستطرادات والتطويل والسرد المفصّل وتقديم البراهينَ والمواعظ. وهذا لا يعني أن كل نص قصير قصيدة نثر. فالإيجاز سياق متوتر تشتجر فيه الجمل المركبة خلال تلاحق جزافي وكأنها سهامٌ تقصد معنى معيناً يَنْسلُ معانٍ حال أن يغيب كمعنى ذي وظيفة محدودة. على قصيدة النثر أن تكون قائمة بذاتها، مستقلة في شكلها ومبناها، لا تستمدّ وجودها إلاّ من ذاتها هي، مُبعَدة ومنفصلة تماماً عن المؤلّف الذي كتبها. أي أنْ تتواجد تواجداً حرّاً داخل هامشٍ ما. ذلك أنّ اختيار الأسلوب وتحديد الموقع يفرضان ما يمكن تسميته "التأثير" و"الانغلاق". فقصيدة النثر ذات شكل متكامل، محصور بخطوط صارمة، وبنسيج مُحكم. إنها عمل مغلق على ذاته، مثله مثل الفاكهة أو البيضة.
3
لا يعترف النقاد والمتخصصون بأن كل كتلة نثر هي قصيدة نثر. وهم محقون في ذلك. وإلا، عندنا مثلاً، سيُسطّل رؤوسنا هؤلاء الذين لا يرون التراث إلا كعلامة اكتفاء ذاتي ضد الآخر، بآلاف المقامات، مواقف الوعظ الصوفي واشارات الدندنة الإلهية، كقصائد نثر: "أوقفني وقال لي: من أنت ومن أنا، فرأيت الشمس والقمر والنجوم وجميع الأنوار. وقال لي ما بقي نور في مجرى بحري إلاّ وقد رأيته، وجاءني كل شيء حتّى لم يبق شيء فقبّل بين عيني وسلّم عليّ ووقف في الظل. وقال لي تعرفني ولا أعرفك، فرأيته كله يتعلق بثوبي ولا يتعلّق بي، الخ..." كلا. قصيدة النثر لا علاقة لها بهذا الرعاف الساكن. إنها سرد متحرك حيث الإفصاح عن الفكرة متوتر الإيقاع، ذات مبنى محكم وإطار محدود، فهي لا تتحمل الاستفاضة في استعمال الأدوات الجمالية، أو المبالغة بالصور والتزويق. يجب أن تتحاشى كل تظاهر متعمد، مقوماتها تختلف عن النثر الشعري بمختلف أشكاله وتشعباته، الذي يعتمد على كل ما يعتمد عليه الشعر الموزون من إيقاعات ومحاسن لفظية واستعارات بلاغية. إنها النثر كنثر حيث الصورة لا تدل إلاّ على نفسها هي؛ نثر يشبّ من أعماقه شعرٌ خال من كل ما يجعل الشعر الموزون شعراً. وهي بهذا المعنى جنس أدبي لكنه يسعى إلى نسف مفهوم الجنس الأدبي كلّه. فهي "تبدو، من جهة أولى، وكأنها ترفض الامتياز وحالة الاستثناء التي تستمد بقية الأنواع منها. وهي، من جهة ثانية، تبدي مقاومة إزاء قَدَر التحوّل إلى مجرّد نوع بين الأنواع، لكنها مع ذلك تطالب بالاعتراف بها كنوع مشروع ومتميز بذاته. إن مفارقة وصية الموت الطوباوية الخاصة بقصيدة النثر، تكمن في الطموح الذي جسدته منذ بداياتها الأولى لإيجاد حلّ نهائي لنزاعات الجنس Gender والطبقة والنوع، تلك التي استولدتها وتواصل الاعتماد عليها في تحقيق وجودها ذاته، إذا شاءت أن تكون أكثر من مجرد شكل فارغ" (2)
4
يرفض معظم النقاد لكل ما ضمه، مثلاً، كتاب بودلير "سوداوية باريس" كقصائد نثر. إذ في نظرهم، وهم على حق، ثمة قصائد في هذا الكتاب أشبه بالقصص الفلسفية ونصوص تكاد تكون مستلة من يومياته تطغى عليها الانطباعات الشخصية والحكم الأخلاقية، وهذا ليس من شأن قصيدة النثر المحددة بموضوع مجاني غير شخصي. كما أن كتاب رامبو "الاشراقات" لا ينطوي في نظرهم (وإن هو ديوان نثري) إلا على بضع قصائد نثر حقاً، أما البقية فهي تنفلت من القفلة الضرورية، تسهب في كتابة آلية مثقلة كثيراً بالصور، أشبه بشظايا ذاتية، في إيقاع مفخّم يتقطع فقرات مما يكسر الإطار الضروري الذي يجعلها قصيدة نثر. الشاعر فكتور سيغالين، مثلاً، الذي أصدر مجموعة قصائد نثر تحت عنوان "أنصاب" الذي ترجمنا منها خمس قصائد. فقصيدة "مديح الغياب وسلطته " و"عاصفة متينة" يعتبرهما النقاد قصيدتي نثر، بينما "مكتوب بالدّم"، "الحرفيون الأردياء" و"ترتيلة للتنين المضطجع" فلا. لماذا؟ اقرأ هذه الأنطولوجيا من حيثما تشاء.
انطلقت في اختيار القصائد اعتبارا من وجهة نظر هؤلاء النقاد والمتخصصين (لوك ديكون، ميشيل ساندراس وإيف فاديه). لكنني سمحت لنفسي بأن أترجم أيضاً قصائد أخرى حتى يتعرف القارئ العربي إلى القصيدة النثرية التي يريد أن يفرضها الشاعر هو، كرامبو في كتابه "اشراقات"، سيغالين في كتابه "أنصاب"، أو بروتون في نصوصه الآلية "أسماك ذَوَبانيّة".
5
والآن كيف يمكننا التعرف على قصيدة نثر، كيف يحق لنا أن نطلق التسمية على هذه القصيدة وليس على تلك؟ فنحن نستطيع بسهولة، يتساءل اراغون، أن نقول عن قصيدة موزونة بأنها قصيدة رديئة، لكن لا نستطيع أن نقول عن قصيدة نثر إنها قصيدة نثر رديئة، بل نقول إنها ليست قصيدة نثر. أسئلة صعبة لا أعرف كيف أوضّحها مع العلم إني أستطيع أن أتعرف بكل سهولة إذا كانت هذه الكتلة التي أقرأها هي قصيدة نثر أم لا.
مما لا شك فيه هو أن قصيدة النثر يمكنها أن تتواجد كنادرة، كمثال، كتخطيط وصفي لحادثة-حلم ما، لكن لا علاقة لها بكل هذا، فهي تعمل بإصرار على تشويش التطور المنطقي للنادرة التي تتوسلها تحايلا على القارئ، ولكل تخطيط وصفي تلعب عليه من أجل استقلاليتها، وكأنها قصاصة نثر سقطت من عمل روائي طويل. صحيح كذلك إن قصيدة النثر تعتمد على عناصر سردية قريبة من عناصر الحكاية: "كان ذلك في... وبعد أن... فطوّفتُ في ذلك الليل الأخير حتى مطلع الفجر... ثم راح ... بقعة صفراء أشبه بقمر توقف عن الحركة"، ومع هذا فليست لها أبداً الغائية التي يهدف إليها السرد في الحكاية. كما أن قصيدة النثر ليست نتيجة مزج بين جنسين أدبيين مختلفين، الشعر والنثر فتتوسل المحاسن البديعية وكأن النثر يعاني عقدة نقص أمام النظم يجب تمويهها. كلا، إنها النثر المستمد شاعريته من توتره وكثافة تراكيبه ومن حضوره هو كنثر متمرد، في وجه ما يُسمّى الجنس الأدبي، على سياقاته الغابرة وعلى كل ما يجعل الشعر جنساً أدبياً منفصلاً عنه. وبما إن الوحدة العضوية، المُغَيّبة شكلاً مجازياً، في قصيدة النثر ليست الأبيات وإنما تكمن في الجمل المنحصرة في ذاتها كالأفعال اللازمة غير المتعدّية؛ فإنه من الضروري أن تتلاحق هذه الجمل حيث الإيقاع الطافر، الهابط، المستقيم، المتكسر، وبطريقة متدرجة ومكثفة مما تثير القارئ وتشغل باله، جاعلة منه كتلة من التوقعات بأن حادثاً ما سيقع، لكنه، - وها هنا يكمن الوتر الحساس في قصيدة النثر- يُباغَت بنهاية مفاجئة لا تنطوي على موعظة أو هدف أو حقيقة ما؛ مجرد قفلة مجانية صادمة تجعله وجهاً لوجه مع قصيدة نثر بامتياز. التحديدات هذه ليست كما في النظم عَروضاً لا مفر منها في خلق قصيدة موزونة ناجحة، بل هي "قوانين استُخْلِصَتْ من تجارب الذين أبدعوا قصائد نثر، ورُئِيَ، بعد كلّ شيء، أنّها عناصر ملازمة لكل قصيدة نثر نجحت، وليست عناصر مُخترعَة لقصيدة النثر كي تنجح"، على حد عبارة أنسي الحاج في مقدمة كتابه "لن".
هوامش
1 - انظر مقالة جوناثان مور: "قصيدة النثر: النوع والوظيفة التاريخية"، ترجمة صبحي حديدي، في "فراديس" العدد 6/7 (1993)
2 – نفس المصدر.
لكتابة هذا التقديم البسيط احتدنا الى قراءة المصادر التالية:
Maurice Chapelan: Anthologie du poème en prose، Paris، Julliard، 1946
Luc Decaunes: Le Poème en prose، Anthologie، Paris، Seghers 1984
Michel Sandras: Lire le poème en prose، Paris، Dunod، 1995
Yves Vadé : Le poème en prose، Paris، Belin 1996
Suzane Bernard: Le poème en prose، Paris، Librairie Nizet، 1959
Mary Anne Caws: and Hermine Riffatterre: The Prose Poem in France، Culombia University Press 1983
Jonathan Monroe: A Poverty of Objects، Cornell University Press،1987
Margueritte S. Murphy: A tradition of Subversion، U.M.P.، 1992
Barbara Johnson: Défiguration du langage poétique: la seconde révolution baudelairienne، Paris، Flammarion، 1979