الأزمان المرعبة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قراءة تحليلية لظاهرة الخوف في تاريخ العراق القريب
" شعب فيه من الطراوة والمرونة ما يعجز المرء ان يصف وبين الصلابة والانتعاش قروح وجروح لا تندمل بسرعة ابدا.. بين وادي الرافدين شعب في غاية الاكتساح والاجتراح يثوى اليوم بين متناقضات لا اول لها ولا آخر.. أصوات تزمجر في الشوارع ترفع صورة جلاد باليد واصوات لا يسمعها احد تئن في الزنازين العفنة! شعب لا يرضيه كل ما يعرفه من فنون الاكل والوان المائدة الا طبق التمن واليابسة.. ".
الكاتب البوليفي المشهور ماريو فاغاس يوسا عندما جال في اصقاع بلد عريق اسمه العراق خلال السنوات الاخيرة من حكم الطاغية صدام حسين
مقدمة : ذكريات مؤلمة واحاسيس موجعة
دعوني اقدم قراءة تحليلية لتاريخ العراق القريب الذي كان طويلا جدا كاحقاب طوال صادف فيه العراقيون شتى صنوف العذابات والالام ايام حكم البعثيين على عهد الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين.. وغدا ذلك المجتمع العراقي صيدا ثمينا لسلطة شرسة مرعبة كبلته بالخوف وسامته العذاب وادخلته جحيم هذه الحياة بكل رداءتها. لقد بقي العراقيون على امتداد خمس وثلاثين سنة يعيشون كل التحديات والمشكلات ومجابهة شتى الانتهاكات واشعال الحروب وسيل انهار الدماء القانية. ولم اكن اعرف ان الروائية اللبنانية المقتدرة هاديا سعيد هي نفسها الكاتبة الصحافية هاديا حيدر التي كنت اقرأ لها قبل ثلاثين سنة، حتى قرأت شيئا عن روايتها المتميزة ( بستان احمر ) فأشتقت الى معرفة المزيد عنها، وبقيت منذ زمن طويل اتابع ما تقّدمه في القسم العربي من البي بي سي باذاعة لندن من تعليقات نقدية بارعة على القصة القصيرة.. وقد جذبتني تعبيراتها الرائعة وظننت انها عراقية، ولكن قراءتي لكتابها الاخير: " سنوات من الخوف العراقي " الصادر عن دار الساقي العام 2004.. جعلني اقترب جدا من مذكراتها المؤلمة في سنواتها الصعبة كأديبة بيروتية كانت ابنة جريدة " النهار " الغراء! عاشت ردحا من حياتها في العاصمة بغداد، وغدت تتناصف حياتها بين لبنانيتها الوديعة وبين عراقيتنا الصاخبة بحكم اقترانها بالشاعر العراقي جليل حيدر ( الاخ غير الشقيق للسياسي العراقي المعروف عزيز الحاج ) منذ اكثر من ثلاثين سنة وقد انجبت منه سومر وحيدر. ويعد كتابها الاخير سجلا حافلا عن اصعب مرحلة من تاريخ العراق المعاصر.. وعندما تحدثت بمرارة شديدة عن عراق السبعينيات على عهد الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، ارجعتني بذكرياتها المريرة الى تفاصيل ذلك العهد الذي يعد سلسلة من ازمان مرعبة، وهي مرحلة سيئة جدا على عكس من يريد صبغها بالالوان الزاهية.
وهنا، لا اريد ان اكتب مقالة عادية عن كتاب غير عادي.. برغم صغر حجم كتابها الاخير، لكنه سفر بحاجة الى تأويل وشرح وتحليل. فاذا كنت في مقالي هذا اكتب مجرد تعريف وتشخيص عنه وعن صاحبته اللبنانية القديرة التي ابارك لها جهدها من اجل كتابة تاريخ حيوي لالام العراقيين على العهد الدموي الاسود، فأنني قد وعدت القراء الكرام ان ثمة دراسة معمقة وتحليلية سافكك من خلالها نص هذا السفر المختزل المشحون باحداث ومعلومات وافكار ومشاعر وانطباعات واخبار واسماء.. اذ لابد من القول انه لا يمكن ابدا لأي عراقي او اي عربي ان يمر على " عنوان " كهذا من دون قراءة ما تحتويه مضامينه الخصبة.
تاريخ حقيقي لسيدة الاحزان المتناصفة
لعل اهم ما يلفت النظر في سنوات خوف هاديا، ان كتابها هو تاريخ حقيقي لمرحلة اساسية ورهيبة مرعبة من حكم البعثيين العراقيين. وان صفحاته تختزن معلومات شاهد عيان عربي حقيقي كتبها من خلال معايشته لها يوما بيوم! وانه لا يقتصر على سرد معلومات واحداث سياسية يابسة، بل انه سفر تنطق صاحبته ببراعة في وصف العراقيين ومجتمعهم وحياتهم ومشاعرهم وسماتهم وصفاتهم واهتمام فوق العادة بالمرأة العراقية وبالمثقفين العراقيين وبالاتجاهات السائدة على ايام عقد السبعينيات. ويصل الامر بالكاتبة ان تقّدم اشبه باعترافات كمن كان في سجن رهيب لازمه الرعب سنوات طوال وهو يكتب بمشاعر حقيقية ليست مزيفة او مستعارة ابدا. انني عندما احكم على الكتاب وصاحبته كناقد ومؤرخ عراقي متواضع من نفس الجيل وعاش المأساة الاليمة نفسها في داخل العراق وخارجه، فأنني ادرك ما الذي اقوله عمن كتبت معاناتها الحقيقية. وعليه، فان كتاب هاديا هو نداء حقيقي لكل العرب في ان يقفوا ولو لمرة واحدة الى جانب معاناة العراقيين التي لم يعان من رعبها اي شعب في هذا الوجود على مدى اربع وثلاثين سنة!
لقد كنت قد وعدت سيدة الاحزان المتناصفة في قدرها بين لبنانيتها وعراقيتنا بأنني ساكتب تحليلات تاريخية لذكرياتها السبعينية من القرن العشرين.. وان اول ما استهدفه في الحقيقة : توضيح حقائق مغيّبة او مخفية او غير معروفة عن جيل عراقي كامل يتكّون من ملايين الناس المتنوعين مروا في ازمان صعبة ومعقّدة جدا.. وثمة ملايين من شباب عراقي اليوم كانوا في السبعينيات والثمانينيات صبيانا يافعين كونهم ولدوا في عقد الستينيات وما بعدها والذين لم يعرفوا او يدركوا حتى ما كان يسود في العراق على عهد الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين.. اذ أجد دوما في ما يقولونه او يكتبونه نقصا فاضحا في كنه ذلك العهد الاسود بطوله وعرضه وامتلاءاته بالفساد والاضطهادات والتوحش والاجرام والعذابات الانسانية.. بل وأجد بعض هؤلاء الشباب ينزع في اللاوعي بحنينه وعواطفه الى ما كان يسود من شعارات سياسية بلهاء. لقد ولدوا وعاشوا طوال الاربعين سنة الماضية وهم لا يعرفون في قاموسهم السياسي الا اسم صدام حسين ومهرجانات البعث الاعلامية. وعليه، يمكن القول بان هذا الجانب من التاريخ المضمخ بالمآسي المرعبة والمخفي تحت اوراق التوت لابد ان ينتزعه الناس انتزاعا قويا من خلال كتاباتهم الحيادية وتسجيلاتهم التاريخية ومذكراتهم السياسية التي تفضح حقائق يجهلها الناس ليس في العراق وحده، بل في ارجاء بيئات الثقافة العربية المعاصرة التي اعتادت بعد ان طال العهد بنظام الحكم السابق بترديد ما كان يعلنه ويتبجح به اعلاميا وسياسيا منذ العام 1968 وحتى آخر لحظة زمنية تاريخية مريرة سقط فيها النظام على لسان وزير الاعلام محمد سعيد الصحاف الذي غدا اضحوكة في كل مكان من هذا العالم!
العراق : حطام حادث مرّوع
اشارك الاخ امير الطاهري الذي كتب مقدمة كتاب هاديا، ان ذكريات هاديا المؤلمة هي مزيج من عالم كافكا واحاسيس بولغاغوف.. واناس تعساء يخرجون من مشهد حادث سيّارة مرّوع باشلائهم ودمائهم وانينهم واوجاعهم.. في ذكريات هاديا احاسيس موحشة وضرب من اللامعقول وصفحات من الحنين وانطلاق من العفوية.. ووصف لخمائر متعفّنة سوداء اللون، ومشاهد سيّارة محطمة على اشد ما يكون الحطام، كانت تقودها عصابة من الاوغاد والمجانين ومصاصي الدماء المتوحشين ومن ورائهم حشود وقطيع من المصفقين والمهللين والمنافقين والجهلاء والمشعوذين والتافهين.. تتذكر هذه السيدة البيروتية سنوات بقائها في العراق على عهد الرئيس احمد حسن البكر الذي يصفه خصومه بالحقود والبلاهة في آن واحد ومعه نائبه الشرس صدام حسين..
وكأنني لمست ان هناك جرائم كبرى ارتكبت بحق العراق والعراقيين من اجل ترويعهم وسحب البساط من تحت اقدامهم، وقد تمّت من دون ان يفقه ذلك الرئيس الاب القائد البكر الابله من كان يقوم بها او انه يعرف ويتغاضى مصطبغا عهده باللون الاحمر! ولعل أكبر جريمة رسمت بحق العراق تلك الكذبة المزورة التي كانت تختفي ثم تعود لتعيد انتاج نفسها ليل نهار في العراق وخارجه والتي تقول بأن العراق كان ابان عقد السبعينيات على طريق الازدهار والرخاء وخطى التقدم.. في حين ان الحقيقة التاريخية التي ادركها العقلاء ان العراق كان قد بدأ منذ العام 1968 تاريخا مفجعا لا يمكن للاخرين ان يتصورونه مهما بلغت بهم حجوم التصورات والتخيلات.. حتى وان كانوا طلبة علم اتوا وسكنوا بغداد او الموصل والبصرة لأغراض الدراسة.. اذ فات على تلك الجماعات الشابة وهي في غمرة المسيرات والتصفيقات والشعارات ان تدرك الحقائق المريرة ما دام ذلك العهد قد أمّن لها مستلزمات ما يمكن ان يجعله في اعين الناس من ارقى البلدان!!.
ان الافجع من كل هذا تلك الحقبة البالية من عقد السبعينيات الذي ولدت منذ العام 1968 وحتى العام 1988 بانتهاء مأساة الحرب القذرة مع ايران وحصدت معها ملايين الارواح من البشر وكلهم يمثلون زهرة شباب العراق.. من اولئك الذين لم يدركوا ابدا عقم الحياة العراقية على ايام البعثيين الاولى والتي لن تختلف عن شهورهم السوداء التي حكموا فيها العراق العام 1963 الا في نفس الوسائل وذات الادوات وحال الشعارات. وهنا لابد لي من القول، بأن هذه المتابعة التحليلية التي اقدّمها الان ستضيف جملة من المعلومات والاستشهادات التاريخية على ما قدّمته هاديا في كتابها.
هاديا سعيد.. من تكون؟
كانت عند مطلع السبعينيات شابة في العشرين من العمر، تصل الى العاصمة بغداد قادمة من مدينتها بيروت رفقة عريسها الشاعر العراقي الشاب جليل حيدر. كانت بريئة ومندهشة وخائفة ليس من العراق والعراقيين، بل من عالم مجهول يقبض البعثيون على انفاسه الطيبة، وهم الذين كانوا يتصارخون بشعارات زائفة في الشوارع الشهيرة او في القاعات الواسعة او في ملعب الكشافة الكائن في منطقة الوزيرية العريقة ببغداد.. شعارات زائفة يتكلمون بها ولا يؤمنوا بمحتواها ولم يحققوها ابد الدهر ليست لأنها اكبر من حجمهم وضآلتهم حسب، بل لأنها طوباوية خيالية لا تمت للحقيقة ولا للواقع بأية صلة.. كان البعثيون يتشدقون بالعلمانية والمساواة والعدالة والنضال ضد الاستعمار.. وينظّرون في التقدمية والاشتراكية والوحدة العربية والحرية وبعث الامة العربية من خلال بعث ( = احياء ) رسالتها الخالدة! استعارات من هنا حيث الاشتراكية الوطنية النازية الهتلرية او هناك حيث الفاشستية الموسيلينية المشبعة بالصلف! نعم، قدمت من عالم خليط بالافكار الفاشية والشيوعية والمثالية لا اثر للحريات الى عالم متحجر ومنغلق بالممنوعات.. يذكرنا بمناخات ستالينية لا يشم فيها الناس الا روائح الموت والاعدامات والمؤامرات وكتابة التقارير السرية وخبث العصابات!! كانت فتاة لها تجربتها البيروتية ولم تكن تعرف العراق ولا عوالمه المعقّدة.. كانت قد انهت دراستها ولها تجربة ليست مكتملة مع الصحافة لتجد نفسها وسط دنيا العراق الجميلة بطبيعتها وروعتها وعذوبتها، ولكنها بدأت تتعامل مع عالم مشحون بالتناقضات لا يعرف الا الشغب والمخبرين السريين وكتاب التقارير الحزبية والامنية.. ووسط وظيفي مشبع بتقديس السلطة كله اكاذيب وتلفيقات ومداهنات ووصوليات خلقتها عمليات التبعيث التي لم تعرف الا شراسة المنافع والمنتفعين.
عاشت تجربة عراقية مريرة في خضم عالم موبوء بالسياسة البعثية التي لم يكن في قاموسها عهد ذاك الا زراعة الخوف في قلوب الناس، وكان البعثيون قد غدوا من أقوى المحترفين في معرفة سايكلوجيات العراقيين سواء من سكان المدن ام من سكان الارياف وخصوصا عندما تنفجر اعصابهم وتتقطع انفاسهم لم يجد البعثيون القادة الا الراحة والاستجمام والمكابرة في سيادة الرعب! هاديا سعيد التي كانت قد اطلقت على نفسها اسم هاديا حيدر تيمنا باسم زوجها العراقي جليل حيدر الاخ غير الشقيق للسياسي الشيوعي المعروف عزيز الحاج، وهو من الاكراد الفويلية الشيعة العراقيين الذين برز منهم عدد من المثقفين والساسة اللامعين.. كان قد جعلها واسطة عقد من حبات كبيرة وصغيرة وكان عليها ان تعرفها واحدة بعد اخرى، فانغمست الفتاة البيروتية في الحياة العراقية الرائعة وعشقتها عشقا عميقا، وافتتنت بالعراقيين وبطيبتهم وباساليب حياتهم الغنية بكل الالوان والطقوس والتقاليد.
سنوات الخوف.. الوان الرعب وراء الهروب الجماعي من العراق
نعم، قّضت هاديا تاريخها العراقي للسنوات 1972 – 1978، اي انها عاشت ست سنوات جد حافلة بالبؤس والخوف داخل العراق ولتسحب معها كتلة من المعاناة ترافقها عبر كل هذي السنين ولم تهدأ ابدا حتى الان! ويتبين من كل الذي سجلته في مذكراتها، كم كانت هذه اللبنانية المتمردة ولما تزل عاشقة للعراق والعراقيين برغم كل المحن والمرارات وبرغم كل التعاسة وسنوات الخوف السود.. لقد بقيت وفيّة مخلصة للعراق والعراقيين بحيث لم أصدق وأنا اقرأ كتابها انها من طينة عربية مألوفة، فهي استثناء حقا بحملها صفات انسان بمعنى الكلمة!
كان هروب العراقيين الى خارج وطنهم قد بدأ منذ العام 1968، ولكن بعد عشر سنوات وعندما اشتدت قبضة النظام على الانفاس ازداد ذاك الهروب! وعندما وصلت حملة التبعيث للعراقيين الى أوج سطوتها.. لم اكن في العراق، فقد كنت انا الاخر قد غادرته منذ العام 1976 وانا في عز الشباب لأكمال دراستي العليا في بريطانيا. كانت الجبهة الوطنية التقدمية في العراق خدعة بعثية لضرب الشيوعيين قبل الاكراد، اذ كان الشيوعيون في كل انحاء العراق من ألد اعداء البعث والبعثيين لأسباب سياسية وفكرية وعقائدية ايديولوجية تاريخية على الرغم من ان البعث ليس له فكر حقيقي يمكن ان يستند اليه حزب سياسي قوي فهو مجموعة من الافكار المستنسخة عن الستالينية ممزوجة بسرقات عن بعث ايطاليا وشوفينية موسوليني وهتلرية الاشتراكية الوطنية التي دعاها ميشيل عفلق بالعلاقة الجدلية بين القومية والاشتراكية وربط بائس بين اللينينية والشوفينية.. ولما كان الشيوعيون العراقيون قد خانوا الامانة في عقد جبهتهم ( الوطنية التقدمية ) مع البعثيين في العام 1970، وتناسوا ما الذي فعله البعثيون بهم في العام 1963! فلقد تآلفوا الان ضد قوى وطنية وسياسية عراقية اخرى اي ضد ما كانوا يسمونه بـ الفئات البرجوازية العراقية ( العفنة ) التي قتلوا فيها روحها واعدموا نزعتها الليبرالية الحرة وحاربوا الطبقة الوسطى تحت حجج وذرائع لا تعد ولا تحصى وتحت شعارات بليدة كانت تتوافق مع رحى مناخات الحرب الباردة وقت ذاك. نعم، نسي الشيوعيون العراقيون دم الزعيم عبد الكريم قاسم ودماء ضحاياهم التي لا تعد ولا تحصى! وجاءوا يشتركون مع البعثيين بقيادة احمد حسن البكر وصدام حسين.. فكان ان غدر بهم البعثيون بعد ان لعبوا عليهم وكشفوا عن خلاياهم السرية وعرفوا خططهم واسرارهم وتوجهاتهم!
تفاقم ظاهرة الهروب الجمعي من العراق
نعم، تفاقم امر الهروب من العراق بفعل سياسات القمع والخوف والتبعيث والمخابرات والتهجير القسري والتطهير العرقي وتجريد الناس من عراقيتهم بعد تجريدهم من آدميتهم واتهام الاخرين بالتبعية الايرانية. كان العراق في عقد السبعينيات مرجلا يغلي بالترهيب اكثر من الترغيب وتحوّلت الاحلام الجميلة الى كوابيس سوداء بزج المعتقلين في السجون وغياهبها عندما ضمت دهاليز وزنازين قصر النهاية حزمة من كبار السياسيين العراقيين. كان التعذيب قد أودى بحياة حزمة اخرى نساها العراقيون من جماعات عبد السلام عارف رئيس الجمورية العراقية 1963- 1965. وكانت مشروعات القتل والاخفاء قد وصلت أقوى مداها وراح ضحيتها العشرات بل المئات من القوميين العارفيين والساسة السابقين والضباط العسكريين وجرت اتهامات بمؤامرات ومحاولات انقلابية وجرت محاكمات سريعة واعدم العشرات من العراقيين. كانت تدور همسات تتناقلها الالسن خفية وبصمت رهيب حفلات الاعدام والتعذيب برجالات الامس القريب : عذّب طاهر يحي عذابا لا يرحم.. وعّذب مثله رشيد مصلح وكسرت عظامه حتى مات تحت الدق والذي كان يكن له احمد حسن البكر حقدا شديدا، وسلخ جلد شامل السامرائي وهو حي حتى بقي اشلاء تنبض! وذاب الجزء الاسفل من جسد عبد العزيز العقيلي بوضعه كل يوم وهو عار على مدفئة علاء الدين مشتعلة! وبقي الدكتور عبد الرحمن البزاز يعّذب وهو ينظف مراحيض السجناء حتى فقد كل كيانه! وذاب عبد القادر العبيدي شيئا فشيئا في حوض اسيد! وذهب العشرات من المثقفين والضباط ورجال القانون المحترمين.. فضلا عن العشرات من رؤساء العشائر والشيوخ والشخصيات السياسية اللامعة من بقايا ليس العهد العارفي وحده، بل من العهدين السابقين القاسمي والملكي.
الصيد السياسي والاعلامي وشراء الذمم
بدأ اصطياد الاعلاميين والمؤسسات والمثقفين والادباء العرب منذ وصول البعثيين الى السلطة، ولقد اوجدوا اساليب غاية في المكر والخبث والدهاء لشراء الذمم والضمائر لتجيير الاقلام والصحف الى صالحهم.. ويبدو ان كل ذلك قد كان بترتيب من صدام حسين نفسه وهو يعمل تحت مظلة وهمية اسمها الاب القائد احمد حسن البكر الذي وجد نفسه فجأة ( مهيبا ) وكان منحه هذه الرتبة العسكرية العليا ترضية لعقدة نفسية قديمة جراء تواضع امكاناته العسكرية مقارنة بمواهب قادة عراقيين آخرين.. فغدا مهيبا وهو لم يحلم ان يغدو قائدا في يوم من الايام، فلقد قّضى كل حياته معلما عاديا في الكلية العسكرية العراقية كأي ضابط كسول لا اهمية له ولم يتخّرج في اي دورة للاركان ولم يدخل في اي ميدان عسكري ولا في اي دورة عليا خارج العراق ولا اي مشاركة ميدانية في اي معركة ضارية.. وقد سكت سكوتا واضحا لأنه وقع بين فكّي كماشة لا يستطيع الخروج منها. صحيح ان بعض ضباط الجيش كانوا معه، ولكن كان هناك من يراقب عليه حتى انفاسه ويحصي عليه سكناته وخصوصا في بدايات ( الثورة ) عندما اوجد صدام حسين مكتبه الى جانب مكتب الرئيس وجعل العسس والمخبرين تراقب المهيب البكر في كل خطواته وافعاله وانشطته وزواره.
لقد اصبحت هاديا في جوقة العزف الصحفية العام 1972 – كما تقول ( ص 22 ) – على عهد الجبهة الوطنية التقدمية في العراق ثم رئيسة لقسم التحقيقات في مجلة ( الف باء ) الاسبوعية في حين عمل زوجها الشاعر جليل حيدر في القسم الثقافي بالمجلة، وكان يرأس تحرير المجلة وقت ذاك عبد الجبار القطب اولا، ثم عّين بدله حسن العلوي ثانيا.. ويدير القسم الثقافي الروائي فاضل العزاوي. ان تجربة هاديا ليست الاولى في العراق، فلقد سبقها مثقفون عرب عاشوا وعملوا في العراق وكلهم حفظوا لنا في كتاباتهم ود عجيب للعراق والعراقيين، فمنهم من كانت له معاناته ومكابداته مع انظمته السياسية، ومنهم في شارك بل واضطلع في صناعة جملة من المشكلات والمعضلات السياسية والفكرية وحتى الاكاديمية والاجتماعية! ( وللقارىء الكريم مراجعة ما كنت قد نشرته قبل سنوات في كتاب : انتلجينسيا العراق وبحوث ومقالات عدة عن ادوار المثقفين والساسة العرب في العراق ). لم تستفد هاديا من مكانتها العربية الصحفية، لأنها – كما ارى – غدت نصف عراقية بزواجها من عراقي على عهد البعثيين العراقيين.. فهي تشهد انها ضيفة معقولة لم تكن تحّصل الا على راتبها.. على " عكس الكثيرين من المثقفين والكتاب والفنانين العرب الذين جاؤوا ضيوفا متملقين او كسّابين.. " ( ص 23 ) من مصر وسوريا والاردن ولبنان وغيرها من الاماكن : غالي شكري مستشارا خلف الستار، ومحمود السعدني ومكافآت تحت العباية وجمال الغيطاني صديق الكبار امثال عدنان خير الله والفنانين محسنة توفيق دعوة مفتوحة في واحد من فنادق بغداد فأطالت في بقائها حتى ابلغت بالطرد بوسيلة مهذّبة وايضا عبد العزيز مخيون اقلهم كسبا ودلال شمالي مطربة القيادة والحزب وعبد الغني قمر الذي استخدمته المخابرات العراقية وصافيناز كاظم الكاتبة المصرية المزواجة واحمد فؤاد نجم الذي يطوف على كل الموائد باسم الشاعر الشعبي.. والشاعر محمد التهامي عاشق بغداد وغيرهم ممن لا يحصى عددهم مع توالي الايام والسنين.
ربما اختلف مع هاديا التي دعت الى المصارحة بين المثقفين العراقيين وخصومهم العرب.. عندما تقول : " ولا افهم لماذا يصاب الجميع بعدوى سياسة المقاطعة التي لم تجد نفعا حتى في التاريخ السياسي البحث، ولماذا لا يبدأ حوار مصارحة وتصارح.. من دون بيانات مضادة " ( ص 25 ). المشكلة يا هاديا ان المثقفين عادة ما يتوافقون اذا اختلف السياسيون في ما بينهم، ولكن المثقفين العراقيين اليوم هم الذين يقفون خصما لدودا لمن اضطهدهم وقهرهم واستمرأ غربتهم وسفح دمائهم واكل السحت الحرام عندما تحالف مع جلاديهم.. في حين يتوافق السياسيون مع الضفاف الاخرى. أما المربد ومهرجانه المدائحي الذي غدا مادة للاستلاب المادي البشع من قبل اسماء كبيرة في الثقافة العربية والشعر العربي وتحّول من التغّني بالعراق الحضاري الى مديح ( الظل العالي للقائد الرمز ).. ونتابع الذكريات المرة لتشهد هاديا بقولها : " وأصبحنا نسمع عن هدايا والمغلفات التي توضع في غرف الفنادق وللدعوات الخاصة لزيارة القصر الجمهوري.. " ( ص 26 ). ولقد توقّفت هاديا فجأة عند فيروز والرحابنة الذين جاؤوا ليغّنوا بغداد والشعراء والصور.. ملتفتة الى موقفهم الصلب وعدم استجابتهم لطلب السلطة في العراق، ومطيلة في رفضهم الغناء تحت صورة الاب القائد احمد حسن البكر.. حتى استجيب لطلبهم وحّولت الصورة الى جانب آخر من القاعة.. ( ص 50- 53 ).
الوحش الكاسر يطوي صاحبه
بين احمد حسن البكر وبين صدام حسين فوارق لا تعد ولا تحصى، ولابد من معرفة ما جمعهما معا كما تشير المعلومات المتوفرة حتى اليوم.. وكل ذلك من اجل معرفة اسرار حكم العراق في المرحلة الاولى على عهد البكر للفترة 1968 – 1979 التي اشترك فيها صدام حسين كنائب للبكر يتمتع بصلاحيات كبرى وكأنه الحاكم الفعلي للعراق.. فالبكر اكبر من صدام حسين بقرابة 23 سنة، اي ان الفارق بين الاثنين كبير جدا والاول بدأ حياته معلما ثم انخرط في الكلية العسكرية رفقة رهط من التكارتة بوساطة من السيد مولود مخلص الذي عمل على ادخال معظم الشبان التكارتة في الكلية العسكرية عند نهاية الثلاثينيات.. وتخرج البكر كأي ضابط عسكري، لكنه لم يبرز ولم يشترك في اية عمليات ميدانية وانه لم يكن قائدا لامعا في الميادين العسكرية التعبوية مقارنة بغيره، بل بقي سنوات طوال معلما في الكلية العسكرية ولم يحمل رتبة اركان حرب ولم يشارك بأية دورات خارج العراق الا ان الثاني لم يكن يحمل اية شهادة علمية او جامعية ( وساحدثكم بعد قليل عن كيفية نيل صدام حسين شهادته في الحقوق وكان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة عندما درس الحقوق في كلية الحقوق ببغداد ).
ينتمي كل من الاثنين الى قبيلة واحدة.. وعلى امتداد حكم البكر الا ان البكر لم يكن له الا الكرسي الذي يختبىء من ورائه صدام حسين اذ كان كلاهما يكمل الاخر، ولم يعرف الخلاف طريقه اليهما ابدا حتى العام 1979 عندما وقع الاتفاق مع سوريا برغبة من البكر، واذا كان صدام يعد العدة للانقاض على كرسي الحكم باستخدامه اسلوب الظاهر غير دليل الباطن ازاء البكر، فان الاخير كان يخشى سطوة صدام ونفوذه الذي غدا يستشري في كل المرافق.. وبقدر ما كان البكر بسيطا في مسكنه وتصرفاته مع عائلته، الا انه كان ساذجا في شؤون البلاد المعّقدة.. صحيح انه كان يتدخل في كل شاردة وواردة الا ان تفكيره لم يكن منتظما ويصل اهتمامه في بعض الاحيان الى امور تافهة جدا! تراه عصبي متوتر النفس ثم تجده احيانا اخرى في حالة هدوء.. كان يثور لاتفه الاسباب كأي قروي جاهل لا يدرك حقائق الاشياء فقط من اجل اثبات وجوده! كان يتخذ قرارات مفجعة في ساعات غضبه ثم يهدأ فيلغيها.. وكلنا يتذكر تصريحه بأن لا لقاء مع النظام السوري الى الابد، وبعد اسبوعين وقع الاتفاق مع الرئيس السوري حافظ الاسد باسم الميثاق القومي في العام 1979! كان يسمع الاغاني الريفية ويعشق التلفزيون كما هو حال صدام حسين.. كان البكر مغرما بسماع ملا ضيف الجبوري وهو يعزف على ربابته ويقرأ العتابة من اشعاره الريفية التي يشمئز منها المثقفون والمتحضرون وابناء المدن الراقية.. ويقال انه كان حقودا تتملكه الاضغان في صدره كالجمال ويغدر بخصومه كما فعل بابن مدينته تكريت رشيد مصلح الذي اصر على ان يعّذب حتى الموت!
انها صفات يمتلكها صدام حسين، بل ويزيد عليها جملة هائلة من التراكيب المعقّدة التي تعد حصيلتها ايضا تلك المزاوجة غير المشروعة بين مجتمع ريفي مغلق مثل اطراف تكريت وبين مجتمع حضري يسعى للتقدم مثل بغداد.. ولكن اود ان اشير هنا الى ان سيرة احمد حسن البكر واضحة تماما بحكم تسلسل حياته الوظيفية المرتبطة بالمؤسسة العسكرية العراقية واضبارته الشخصية فيها.. لكن سيرة صدام حسين يحيطها الغموض كلها على الاطلاق بدءا بأبيه وأمه ثم ولادته ( التي اسعى للكشف التاريخي عنها، اذ انها لم تكن ابدا في قرية العوجة التابعة لتكريت، بل كانت في قرية الشويش قرب الحويجه التابعة لكركوك. وسيكشف التاريخ ان صدام حسين لم يكن في جذوره عربيا بل هو نتاج ما ازبده تاريخ الاقليات الاسيوية المتنوعة في شمال العراق ) ثم تكوينه بين القرى وفي الشوارع وفي مناطق لا يمكنها ان تخّرج منها بشرا سويا وصولا الى ورود اسمه في محاكمات المهداوي ليس لاشتراكه في اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، بل في قتل احد الاعيان باشارة من خاله.. وصولا الى هربه ومشكلاته في مصر ورجوعه الى العراق واعتقاله ثم دوره في انقلاب 1968 وهو لا يمتلك الا سيرة سيئة وعندما غدا نائبا للبكر حصل على شهادة في الحقوق.. فكيف حصل عليها؟
كيف منح صدام حسين شهادة في القانون؟
كان الصديق الدكتور سعدون القشطيني احد ابرز اساتذة القانون العراقيين والذي زاملته لخمس سنوات في جامعة آل البييت بالاردن قد حكى لي يوما من ايام 1996 بصوت خفيض وهمس لا يسمعه بشر سواي بأنه قد درّس صدام حسين القانون في كلية الحقوق ببغداد عندما كانت السلطة بيديه!
فقلت له معقبا بصوت عال : معنى ذلك انك اعظم استاذ فاشل في التاريخ!
قال : انصت فلقد اديّت واجبي وكفى.
قلت : وهل كان صدام طالبا نجيبا امامك في الصف؟
قال : كان في الحقيقة يحترم اساتذته كثيرا!
قلت : وهل كان يأتي بكتبه وحقيبته واقلامه واوراق مذكراته؟
قال : لا ابدا، فان العلم كله في رأسه!
قلت : وهل كان يجالس زملائه الطلاب والطالبات؟
قال : يبدو انك تستغفلني؟
قلت : معاذ الله يا ابا علي.
قال : يا سيار لقد كان يدعى بالسيد النائب، اي الرجل الثاني اذ لم يكن الاول الذي يحكم العراق فهل معقول ان يفعل ذلك؟!
قلت : وماذا يعني؟
قال : كفى تماحكني يا ابا نصر وانت مدرك للحقائق!
قلت : الم تكن استاذه في القانون؟
قال : كان يأتي الى كلية الحقوق ( قبل ان تسمّى بكلية القانون ) ومعه جحفل من الحراس والامن والقوات الخاصة المدججة بالسلاح والمستشارين والتابعين والراكضين والمصفقين!
قلت : وكيف هل يدخلون كلهم الصف بمعيته؟
هنا رمقني الاخ ابو علي بنظرة نافذة ولم يعد يحتمل نزقي وقال : وهل من المعقول ان يدخل اكثر من مائة شخص الصف؟
قلت : يا ابو علي هل كان طالب علم ام حامل صولجان؟
قال : الم تعرف من هو صدام حسين؟
قلت : طيب وهل هناك من لا يعرفه، كيف كنتم تدرسونه؟
قال ابو علي : كان يأتي الى الكلية ومعه جحفل مجوقل ومدجج ومنتشر في كل زاوية شاهرين مسدساتهم والياتهم ونحن نمشي وراء الجميع!
قلت : وكيف درستموه القانون وبكل مواده الصعبة والمتنوعة ونحن نعرفكم واحدا واحدا؟
قال : الحقيقة انه كان يعرفنا شخصيا ولكن لا نراه الا في يوم الامتحان؟
قلت له : يا ابو علي كل هذه الهوسه وهو يأتي على الامتحان فقط؟
اجاب بانكسار : نعم!
قلت : يا ابو علي انت اعظم استاذ ناجح في القانون؟ وعقبّت قائلا : وهل كان ينجح في الامتحان؟
قال : كان يلقي بالاوراق بيضاء ناصعة ولكننا نعرف انه مستوعب لكل القانون!
قلت : اذن هكذا حصل على شهادته في القانون اخبرني بربك : من كان هناك ايضا من اساتذته؟
قال : كان هناك منذر الشاوي!
قلت : يا سبحان الله هناك فرق كبير بينك يا أخ سعدون وبين منذر.. لقد كان منذر استاذا فاشلا وقد كنت استاذا ناجحا!
قال : كيف اتيت بهذه المعادلة التي لم افهمها!
اجبت : الايام ستفهمنا جميعا ان بقينا احياء نرزق!
يستحيل ان يكون للسفينة اكثر من رّبان!
طالما كنت اردد وانا في طور الشباب وقت ذاك ان ليس من المعقول ان نجد في العراق رأسين اثنين كما علمنا تاريخه، اذ يستحيل ان يكون للسفينة اكثر من رّبان واحد كما علمتني جدّتي لأبي رحمها الله وكانت من سيدات مجتمع العراق القديم، ولقد كلفتني هذه العبارة وانا طالب في الكلية الكثير من التعاسة في العام 1972.. والحقيقة، اذا كانت هناك بلدانا يقودها اثنان فان العراق يستحيل ان يقوده الا رجل واحد، فاذا كان حظ العراق عاليا الهمه الله حاكما عادلا وحكيما ورحيما، واذا كان حظ العراق تعيسا قّيض له زعيما بليدا جاهلا متوحشا غليظ الطبع.. لقد غدا العراق باجمعه ليس طي قيادتين سياسيتين كما كان يعلن لكل من البكر وصدام، بل بدا واضحا للعيان ان صدّاما أخذ يأكل صاحبه كالوحش الكاسر ويجّرده يوما بعد آخر من كل الادوار الخطيرة بعقد الاتفاقيات وتوقيع المعاهدات وقوة التصريحات ورفع الشعارات واعلان الصور جنبا الى جنب وغدا لصدام جيشه المعلن والخفي من المريدين والاتباع والمصفقين والجواسيس والعسس ورجال الامن والمخابراتيين.. بدأ يمثّل على المجتمع انه حامل همومهم وحلاّل مشاكلهم ومارد احلامهم.. بدأت صوره باوضاع مختلفة تقف الى جانب الاب العجوز ثقيل الدم واستمر الحال يقوى ويقوى حتى اكل الوحش صاحبه في اعياد تموز / يوليو 1979 ليجّرده ويخفيه ويبدأ تاريخا مجنونا من الدكتاتورية الثانية ذات النوع الاخر واللون الدموي الاخر والقداسات الاخرى لمعبود جشع للسلطة ومتعطش للدم خلق منذ الساعات الاولى لتوليه المسؤولية الاولى اعصارا ساخنا ومناخا عاصفا يرشه بالدم القاني وعلى مسرح مليىء بالاشرار والدمى..
كل شيىء يطوّقه هذا الاله الجديد.. كل الممنوعات يتربي عليها العراقيون.. الاسوار تبتعد نحو السماء.. كل المحرمات تخيف الناس.. لم تعد هناك ثمة انفراجات يمكن ان يتلمسها بشر! بدأت تختفي يوما بعد آخر تقاليد المدن العراقية العريقة لتبدأ حياة مجتمع يمتلىء بالضباع التي ترعبك اصواتها اناء الليل وتخيفك مناظرها اطراف النهار! لقد خرج على شاشات التلفزيون بكل عنجهيته ونظراته الموحشة وكأنه لم يّصدق نفسه انه وصل الموقع الاول ليمزّق معاهدة الجزائر علنا على الشاشات بعد مذبحة الرفاق الشريرة والتي كان مخرجا وممثلا ومنتجا بارعا فيها وهو يخرج منديله ليجفف مآقيه الناشفة كذبا وبهتانا كونه عطوفا يملأه الحنين على رفاق المسيرة والدرب الطويل.. الدم يسفحه الرفاق في ما بينهم ليعلق الجرم لكل واحد من رقبته.. الشعراء والابالسة يسبحون بحمد القائد الضرورة.. لم تنبض اية احتجاجات لآجراء العنف الهستيري.. كل شيىء يزّيف ليرضى عنه بكل جبروته العاتي. ومن قبل زمن قصير : ابن البكر يقتل في حادث مدّبر! فنانون ومثقفون شيوعيون يتخفون ببراعة ثم يحضرون للهجرة وسنوات النفي الطويلة.. الحرب ضد الطقوس الدينية والعادات الاجتماعية العراقية الاصيلة تأخذ ابعد ابعادها بالقوة الغاشمة.. قرارات سياسية تلغي اخرى ويكّرس الظلم على عينك يا تاجر.. خوف وقهر وعذابات تحل بالناس جراء الكبت وكتابة التقارير الحزبية والمراقبة حتى على الانفاس.. لا خلاف سياسي ولا حتى ارهاص من اجل التعبير..
رحلة العذابات الثانية
الجيش العراقي يغدو مستأصلا لزهرة شباب العراق في اعتى خدمة الزامية عسكرية عرفها التاريخ البشري اذ كانوا يساقون كالانعام الى المذابح.. وليمضي شباب العراق في عز اعمارهم احقر سنوات حياتهم وابشعها! لم يبق اي عراقي ناجح في علاقاته وشخصيته في منصبه او موقعه ما لم يصبه ذل عن قصد وسبق اصرار من قبل فرق الحزبيين البعثيين الذين بدأوا يتزيون باللباس الزيتوني الكريه وهم على رأس الجيش الشعبي، ذلك الجيش الذي لم يعد حكرا على البعثيين بل ساقوا اليه كل الموظفين والطلبة والعمال والفلاحين وحتى اساتذة الجامعات! وان تململ او تضايق أحد عزل من منصبه او عمله او طرد او لوحق باي اسلوب مؤذ وخبيث! لم يعد للنظام شيىء لا يدركه او لا يعرفه من خلال تغلغل مخابراته الفاشية في كل جزئيات العراق والعراقيين من خلال توظيف المختارين والوسطاء والفراشين وكل اصحاب الضمائر الميتة وفي كل حي وكل محلة وكل دائرة وكل قرية وكل مكان من ارض العراق.
شعراء السلطة وكتابها من صحفيين وادباء سواء كانوا مبدعين او تافهين يمسكون بأهم الدوائر الاعلامية والثقافية وغدوا مسؤولين على مجلات ومنشورات وأدبيات واقسام ثقافية ودوائر اعلامية وهناك دوائر خاصة تابعة للقيادة القومية في الحزب وقيادة المخابرات في السلطة والقيادة العامة للقوات المسلحة وغيرها من القيادات الاستراتيجية.. كلها تسبح بحمد القائد الضرورة الملهم الفذ الذي اخترعت له عبارات ما انزل الله بها من سلطان! ودور نشر عربية ومجلات عربية وجرائد عربية ومراكز قومية للدراسات وللبحوث.. كلها تفتتح انشطتها بعد ان تؤسس في العاصمة اللبنانية بيروت اولا والتي جعلها النظام العراقي البعثي مركزا او محورا حقيقيا للانشطة الاعلامية والمخابراتية الكبرى له في المنطقة ومنها تتوزع محاور عدة باتجاهات شتى : باريس والقاهرة والكويت ولندن.. وفي السنوات العشر الاخيرة اتخذّت عمّان بالاردن مركزا للعمليات..
علينا ان نتساءل : كيف تصرّف اولئك الشعراء والكتّاب والادباء البعثيون مع الاخرين وبأي منطق ( ص 54- 55 ). ولقد ركب المغنّون والفنانون والرقّاصات والراقصون مع فرقهم الموسيقية الموجة العراقية البعثية وجيّروا ايضا لصالح اقامة الحفلات والمهرجانات والليالي الملاح في القصور والنوادي الليلية ليصبحوا لعبة بأيدي السلطة يحركونهم يرقصّونهم ويغّنون لهم.. ومنذ ان جاء البعثيون للسلطة في العراق، جاؤوا باشهر الراقصات المصريات : سهير زكي وهاله الصافي وغيرهما يرقصن شبه عاريات في مناسباتهم المقّدسة التي تعرض على شاشات التلفزيون.. لم يبق مغن ومغنية في العراق لم يغّني للرئيس القائد باستثناء الفنانين الرائعين : يوسف عمر وعفيفه اسكندر وفؤاد سالم وانوار عبد الوهاب.. وكلنا يعرف ما الذي حل بهؤلاء وبغيرهم من قوافل المخلصين لم تسكت بل جاء رفضها من خلال الهروب والهجرة وتحمل كل القسوة من اجل الخلاص.. والقيادة ( الحكيمة ) لم تفّكر يوما في الذي حل بالعراق ولم تسأل نفسها سؤالا واحدا : لماذا يهرب الناس من ارضهم الى المجهول؟ لماذا يهرب العراقيون من سطوة النظام؟
تمثيلية ابو طبر في بغداد : انتاج تراجيدية الهلع الجماعي
ابو طبر هو صاحب الطبر ( بضم الطاء وفتح الباء حسب اللهجة البغدادية ). والطبر معناه لفظا : البلطة او الساطور الذي يستعمله القصاب في تقطيع اللحوم والعظام في بقية اللهجات العربية، وابو طبر سفاّح عراقي غامض جدا عاث فجأة في بغداد فسادا ثم اختفى ولم يعرف عنه أي شيىء في ما بعد. لقد اثار ابو طبر هلعا ورعبا في عموم العراق بحيث كانت الناس تبقى صاحية طوال الليل او انها تتبادل الحراسة وتتناوب النوم خوفا ان يداهمها ابو طبر وجماعته من السفاحين ليقطعّوا اوصال من يهاجمونهم. لقد كان الهدف منه ليس ترويع العراقيين حسب، بل تزيد هاديا انه في عملية كهذه، نجحت السلطة في معرفة كل عراقي اسمه وأين يسكن وعمره ومكان ولادته ودراسته وعمله ومعارفه وسيرة حياته.. بما قامت به لهذا السبب من تسجيلات.. ( ص 58 – 59 ). لقد اشتهر ابو طبر كونه مجرم من اعتى المجرمين السفاكين للدماء ويترأس عصابة تهاجم ضحاياها في ليلة معينة او نهار معين وتذبحهم ذبحا بالسواطير.. وتتنوع انواع الذبح لكل عائلة بطريقة خاصة ومحكمة خاصة بعد القتل والتمثيل بالجثث وتتركهم بدمائهم وتقّطع اوصالهم بعد الاعتداءات عليهم في نفس دورهم من دون اي سرقات.
لقد ذهبت عدة عوائل ضحايا هذا الاجرام المنّظم وكانت السلطة تزيد من حالة الرعب ببياناتها الاعلامية المهيجة للمجتمع عن ابو طبر. وتذكر هاديا بأن الشيوعيين هم أول من نبّه الى ان اللعبة هذه قد كشفت للسلطة كل خبايا العراقيين. وبعد أشهر عدة من الرعب القاتل والجرائم العديدة التي جعلت كل عائلة تخشى على نفسها ليلا ونهارا.. ادّعت السلطات انها ألقت القبض على ابو طبر وعصابته.. وظهر ابو طبر على شاشة التلفزيون شتاء 1978 معترفا بجرائمه بكل بساطة واريحية والتي أكد بأن لا علاقة لها بالسياسة.. لم ازل اذكره اصلع الرأس يلبس بدلة رمادية ويتكّلم بكل ارتياح وكأنه قد اتفّق في اجوبته مع الاسئلة التي كان يحاوره فيها محمد سعيد الصحاف مدير عام الاذاعة والتلفزيون وقت ذاك. ومنذ تلك اللحظة، اسدل الستار على أبشع مسرحية دموية عصيبة نجح مخرجها في ان يلّف المجتمع كله من حوله خوفا وهلعا.. ليبدأ بتنفيذ مسرحية من نوع آخر.. وقالت السلطة انها ستحاكم ابو طبر وجماعته بعد احالته الى المحكمة لينّفذ فيه حكم الاعدام! ولكن لا يعرف العراقيون حتى الان ما قصة ابو طبر الحقيقية؟ وهل اعدم ام لا؟ وهل كان الرئيس احمد حسن البكر يعرف بتفصيلات هذه المسرحية.. ام انه مات ولم يعرف حقائق بلد كان يحكمه جلاد من نوع لم يعرف التاريخ له مثيلا!
ولا يفوتني ان اذكر في هذا المجال ان ابا طبر اختار عوائل معروفة من بغداد لذبحها عن بكرة ابيها، كان منهم زعيم الشرطة المتقاعد بشير احمد السلمان ( ابن خالة المرحوم والدي ) وعائلته التي حصدها بالكامل : زوجته الفاضلة السيدة بشرى وولده الوحيد احمد واخو زوجته الذي كان يزورهم ذلك اليوم اضافة الى خادمتهم العجوز.. وكانوا ينامون على السطح صيفا، فكيف انزلهم ابو طبر من السطح وكيف قتلهم واحدا واحدا بساطوره وكيف مثّل بجثثهم.. ثم كدّسها في حوض الاستحمام وتركهم مستخدما سيارتهم البونتياك امريكية الصنع والتي تركها في شارع الكفاح والتي وجدت بعد يومين اثر كشف الجريمة. ولم ازل اذكر ذلك الانسان الرائع ابو احمد عندما كان يزورنا دوما بكل اناقته وعمق ثقافته واتساع مداركه.. لقد خدم العراق سنوات طوال في عموم العراق لتكون نهايته بشعة للغاية، ولم يأسف النظام الحاكم على مثل هؤلاء الضحايا لأنه هو الذي كان يتحرّك لاختيارهم وقتلهم باسم ابو طبر.. وتبدو كلها تمثيلية كاملة نجح النظام في تأليفها واخراجها وانتاجها وتنفيذ حبكته لها، لكنه لم يستطع ان يجيد ادواره فيها، فلقد عرف الناس اللعبة بعد ان تقّدمت الاحداث وانكشفت اوراق النظام وفضائحه الدموية القاسية. واليوم من يأخذ بحق هؤلاء التعساء من العراقيين البررة التي ذهبوا غدرا ضحايا نظام جائر؟ من يسمع بهم وهم الاف مؤلفة من ضحايا نظام كان هناك ولم يزل العديد من مناصريه ومؤيديه ومرتزقته يصفونه باجمل الصفات!
التهجير القسري والاستئصال العرقي
لم يدفع شعب من شعوب الدنيا ثمن وجوده وبقائه وعيشه الا ابناء العراق الذين لاقوا في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين عسفا وخوفا لا يمكن تخيّله ابدا. ولم يقتصر الامر على ملّة بعينها او طائفة بذاتها او قومية بما لها وما عليها.. بل شمل ذلك كل الاعراق والاديان والجماعات والاقليات والطوائف والقوميات بما فيهم اقليات المسيحيين العراقيين من الكلدان والسريان والاثوريين الارثودكس والكاثوليك والارمن.. وهناك الاكراد والتركمان ناهيكم عن الشيعة والسنة وبعض الاسر العراقية العريقة في المجتمع العراقي. لقد افرغت قرى الموصل وبلداتها المسيحية واليزيدية العتيقة جدا من سكانها وخصوصا شبابها وشاباتها الذين هاجروا الى امريكا الشمالية طلبا لحقوق افتقدوها في مواطنهم العراقية.
تقول هاديا : " مشهد آخر حيث ارتال المرحّلين من الاكراد الذين كنا نلتقيهم في ارضهم ويفتحون لنا قلوبهم وبيوتهم، واذا بهم الان في شاحنات تحملهم... ماضية بهم الى الجنوب، فيما نكون متوجهين لزيارة الشمال بدأ يشهد أمر تهجير وترحيل لابنائه ليشهد في مرحلة قادمة افظع مجزرة ارتكبت في حقهم وهي مجزرة حلبجه الشهيرة عام 1988 " ( ص 60 ).
لعل أقسى الحملات في التهجير الداخلي قد بدأت مع عهد صدام حسين باحراقه للمئات من القرى والارياف الجبلية الكردية على امتداد الحدود مع كل من تركيا وايران.. وتهجير الاف العوائل الكردية الى صحاري الجنوب واسكانهم هناك.. فضلا عن تهجير اكراد من اماكن عديدة من كردستان وزرعها بالعرب. وقد امتدت سياسته القاسية في التطهيرات العرقية هذه لأكثر من عشرين سنة، اذ لم تنته حتى سقوط نظامه المشين. وان مشكلات تلك السياسات الشوفينية التي اتبعها لم تكن مؤذية للناس على امتداد عهده، بل انها خلّفت من ورائها نتائج وترسبات محزنة واليمة وخصوصا في مجتمعات محلية وجهوية متنوعة بين مختلف الاعراق السكانية.
يمكنني القول اضافة الى ما كتبته هاديا، ان صدام حسين اتبع سياسة تجميع الاكراد واليزيدية في مجمعات سكنية في مناطق سهلية معينة قريبة من معسكرات وقلاع عسكرية بعد ان حرق الاف الاراضي الزراعية والقرى وبساتينها الثرية لكي يقطع دابر هؤلاء المساكين ويسيطر عليهم بشكل كامل. ولقد هالني ما رأيت في واحد من تلك التجمعات التي اسموها بـ " المجمّعات " وكان قريبا من قصبة قضاء سنجار، خلط فيه الاكراد بالعرب واليزيدية وفلول التركمان.. بيوت حقيرة ومسيّجة ومسيطر عليها كالسجون تماما من قبل اجهزته الامنية.
ولعل اشرس تهجير جماعي صادفه العراقيون من الشيعة، اولئك الذين اتهموا بالتبعية الايرانية، وسواء كانوا من العراقيين ام الايرانيين فهم يستوطنون العراق بالتقادم من السنين.. ولقد وصلت درجة التوتر الى اعلى مداها في نهايات عقد السبعينيات. يتصّف النظام بدمويته ازاء اي تعاطف مع ثورة ايران العام 1979 وخصوصا بعد انتصارها على ايدي الاسلاميين وبروز ظاهرة تاريخية جديدة على الساحة في المنطقة بعد سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي باسم آية الله الخميني! وكان صدام حسين اول المهتاجين الذين اندفعوا بغباء وجنون في اسلوب التعامل مع المستجدات التاريخية الجديدة! بدأ بالعراقيين لينال منهم خوفا منه ان ينالوا منه! عذابات التهجير القسري تنال كل من وصفوا بالتبعية.. ويهّجر آلاف مؤلفة من الناس باللوريات ويتفرق الاهل وتتشتت العوائل والاسر ويسيطر النظام على اموالهم واملاكهم وكل موجوداتهم.. ويتيه المهجّرون وراء الحدود الصحراوية والمناطق الموحشة بقسوة وعنف بحجة تبعيتهم لايران واصولهم الفارسية وعدم حيازتهم على الجنسية العراقية!
تنقل هاديا نصّا مهما كتبه حازم صاغية في كتابه : " بعث العراق : سلطة صدام قياما وحطاما " ( الساقي، 2003 ) قوله : ".. السلطة البعثية التي اخافتها الثورة الخمينية والاستجابة الشعبية لها، سارعت الى ترحيل ما بين 150 و 200 الف شيعي، وكان في عداد هذا ( الطابور الايراني الخامس ) الاف التجار الذين رصدت بغداد اصولهم البعيدة لتصنّفهم ايرانيين فصادرت اعمالهم واملاكهم وجنسياتهم قبل ان تلقي بهم على الحدود، وفي حالات كثيرة حيل بين الاهل وابنائهم الذين تتراوح اعمارهم بين الـ 15 و 25 ممن احتجزوا ولم ير احدهم الاخر بعد ذاك، وباعداد كبيرة راحت تتضخم هجرة شيعية الى ايران وسوريا والاردن وبلدان الخليج وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها.. " ( ص 181).
العراقيون : لاجئون.. مهاجرون.. منفيون ومغتربون
تقول هاديا : " عندما غادرت بغداد في بداية عام 1979 كانت عشرات من عوائل الشيعة والاكراد الفيلية التي عرفتها قد تناثرت بين القبض على الجيل الشاب وبين ترحيل الكبار واقفال محلات الالاف من تجار الشورجه والاستيلاء على بيوتهم، وقد كانت من اجمل وافخم البيوت وتتوزع في انحاء مختلفة من مناطق بغداد السكنية الراقية " ( ص 185).
نعم، اصبح كل ما هو خيالي وميلو درامي في الافلام والقصص والروايات حقيقيا في العراق الذي بدأ يزدحم بحقائق على ارضه لا تصدق ابدا، فالتشتت الجماعي للعراقيين اصبح سمة غالبة على الكل.. فالام في مكان والاب في مكان واولادهما كل في مكان من هذا العالم!! ولقد مزّقت الحرب العراقية – الايرانية شتات العراق الاجتماعي بالاسرى والمفقودين! وجاء غزو الكويت وعاصفة الصحراء لتشتت المنتفضين والاكراد والاسرى ثم جاء نزوح المثقفين والاكاديميين والمختصين الى خارج العراق وغدا العراقيون بين مهاجرين الى مقيمين الى منفيين ونازحين ولاجئين وهاربين ومغتربين.. وخصوصا في السنوات الصعبة التي انحصرت بين عاصفة الصحراء وثعلب الصحراء فلقد افرغ العراق من خزين بشري جماعي نخبوي عراقي سكاني مبدع يعتبر نخبة القوى البشرية العراقية