حين يدخلن غرفة فرجينيا وولف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لم يعد كتاب "غرفة خاصة بالمرء وحده" A Room Of Ones Own الصادر سنة 1929 مجرد سيرة أدبية كلاسيكية لامرأة محاصرة بالحيف الذكوري، ولا أول تاريخ أدبي للكاتبات، فقد حدث ما توقعته فرجينيا وولف نفسها وصار مزارا لكل النسويات منذ نهاية الستينيات، أي حين بدأت المرأة تفكر بنفسها كناقدة، في حركة تحرر نسوي كبرى باختلاف تشظياتها الفرنسية والأنجلو - أمريكية، لدرجة أن واحدة من أهم النسويات هي إلين شووالتر قررت الدخول إلى غرفة وولف ومناقدتها من ناحية اليسار، وبتشريح بنيوي بارد للافتراضات الطبقية بكتاب "أدب يخصهن" A Literature Of Their Own مقترحة أن الطريقة الوحيدة لقراءته بصورة ملائمة بالنسبة لباحثة نسوية هي أن تبقى منفصلة عن استراتيجيات سرده.
ذلك التعسف النسوي من قبل واحدة من رائدات " النسوقراط " هو ما أثار استفزاز الباحثة الفرنسية توريل موي لتعلن احتجاجها الصريح على ما أرادت شووالتر مصادرته، فهذا الإجراء القرائي بتصورها، أي الإنفصال عن استراتيجية السرد يساوي عدم قراءة الكتاب، وهو الأمر الذي أكدته توريل موي حين ردت على شووالتر في كتابها ( قضايا الجنس/النص ) وأشارت إلى أن طريقة معالجة شووالتر مليئة بالثغرات ومبالغة في التأويل الإستخدامي للحدث والنص، وأن الكثير مما كتبته كان دراسة لحياة وولف الشخصية وبشكل خاص انهيارها العصبي وقد اعتمدت على سيرة حياتها التي كتبتها كونتين بيل.
وعلى عكس الناقدة والباحثة الاسترالية ديل سبندر التي اعتبرت فرجينيا وولف اضاءة نسوية هامة، ارتأت شووالتر أن كتاب " غرفة خاصة بالمرء وحده " ليس نصا جديرا بتحرير المرء، فمفاهيمه حول " ثنائية الجنس " مثلا، لا تمنح الحرية والوضوح كما قد يبدو، بل يشي بجانب مظلم هو النفي والإخصاء، فقد تحاشت وولف في كتابها مسألة الأنوثة بتكريسها للجوانب المعتمة من الحياة النفسية للمرأة، وتحويلها عالم الأنوثة برمته إلى ما يشبه القبر، فيما يشير إلى كفاءة فرجينيا وولف في تحريك وعي المرأة بنفسها من ناحية، وتنبهها الى أهمية التأسيس لكتابة مخالفة للقيم الذكورية من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي أرادت البريطانية ميشيل باريت توسعته من خلال الطرق على حالة التشظي داخل النسوية نفسها عند مقاربتها لغرفة فرجينيا وولف، خصوصا في انعطافتها نحو اشتراطات النظرية الثقافية بكل تداعياتها التنظيرية، إنطلاقا من ذات الغرفة.
ويبدو أن النسويات أقرب الى منطقة " كتابة النساء " كما جادلت منطلقاتها فرجينيا وولف، فقد اعتمدت النسوية هذا التأسيس الكلاسيكي المحتم بلحظته للإنطلاق إلى البنيوية والتفكيكية والنفسية ونظرية الخطاب لنقض تبعية الكتابة النسوية، وفي ذات الوقت لتجريد هذا المفهوم من وهم أو خصوصية " الجندر " لدرجة أن هذا التقدم النسوي لم يتوقف عند حد النقض للمفهوم الذكوري أو الاكتفاء بدحضه كفعل مقاومة نسوي للهيمنة البطرياركية، بل تجاوز كل ذلك الى جدالات تتخطى مستوى الاختلاف والمساواة وثنائية الكينونة، كما تنادي بها لوس اريغاري، الى نعرات النسوقراط، لدرجة أن الدكتورة بثينة شعبان تعتبرها شهيدة الوعي النسوي الغربي.
إذا، نسوية فرجينيا وولف كانت هي الأصل، أو كما تعتبرها ايلين مويرز أكثر النسويات كفاءة، وأكثرهن حساسية ازاء فكرة الأنوثة، فرغم أن كتاب سيمون دوبفوار " الجنس الثاني " كان أكثر تماسكا ومنهجية، وأقدر على تفتيت الأساطير المتوهمة حول المرأة، الا أنه لا يلبي الحاجة الأدبية للمرأة بقدر ما يتجاوب مع التصورات الفلسفية، الوجودية تحديدا، ليبقى " غرفة خاصة بالمرء وحده " هو المرجعية النسوية، رغم الحذر الذي أبدته فرجينيا وولف تجاه فكرة الحاقها بالنسوية، فهي لا تمتلك بتصور ميشيل باريت هذا الوعي النسوي المتكامل كنهج، بقدر ما تستبطن في كتاباتها شيئا من النزعة النسوية، ففرجينيا وولف لا ترى كتابها - مجازيا - الا " مجرد أحاديث الى الفتيات ". أما بالنسبة لشووالتر فكان اعظم اثم ارتكبته وولف ضد النسوية هو أنه " حتى في لحظة التعبير عن الصراع النسوي كانت وولف تريد ان تتجاوز ذلك لأن رغبتها في التجربة كانت في الواقع رغبة في نسيان التجربة ".
ولكن الأمر بالنسبة للنسويات لم يتوقف عند حد مماثلة الذكوري بالأنثوي من الوجهة الأدبية، بل تعدى ذلك الى تأويلات لا تخلو من الدلالة، فحين دخلت الكندية نعومي بلاك غرفة فرجينيا تلمست شيئا من " النسوية السياسية " وهو أمر يتوفر بالفعل في حيثيات الكتاب الحقوقية، وبشكل أوضح في تأكيدها على حاجة النساء الى حرية التجربة، كاستكمال لحق التعليم، فخطابها كان يستهدف إثارة وعي النساء بأنفسهن لكنه أيضا يتحدى فحولية اللغة بما هي أداة وجود، واللحظة بما هي امكان للحضور، والذاكرة بما هي تاريخ، أو كما تصف تلك المزدوجة الخطابية ادريان ريتش بقولها " ان فرجينيا وولف تخاطب جمهورا من النساء لكنها تعرف تماما كما هو حالها دائما ان الرجال يسترقون السمع ". لكن شووالتر التي ترى أن الكتابة النسوية هي حالة من التعبير الفعال عن التجربة الشخصية في اطار إجتماعي، لا تقر لفرجينيا وولف هذا الاستنساب السياسي وترى مقالاتها مجرد صيغة من صيغ التعبير الكتابي بواقعية إنتقادية للبرجوازية، وبالتالي فهي تخلع عنها ليس المقاصد التحريرية وحسب، بل الوعي بالمسألة النسوية كمفهوم وكمهمة حقوقية.
هكذا جاءت كل متغيرات النقد النسوي لتعيد الاعتبار مرة تلو أخرى إلى غرفة فرجينيا، ولتغري النسويات بضرورة فهم " نسوية فرجينيا وولف ". وبالتأكيد لا تتفق كل النسويات على نسويتها، فهنالك اختلاف بينهن مرده المقروئية العصرية لقدامة نص الغرفة، وتباين وجهات النظر وفق الهوى السياسي والحقوقي والمنهجي والذاتي أيضا، وكذلك وجود الإختلاف أو التناقض أحيانا داخل ذلك النص الجاذب، ولكن يبقى الولاء لهذا النص كمرجعية نسوية، فغرفتها ليست مجرد حزمة من المفاهيم والتصورات بشأن حال ومآل المرأة الكاتبة، بل هي أيضا حالة من التجريد النسوي لكائن وثيق الصلة بالمنزع الانساني، ولا يمكن التماس معه دون إبداء شيء من التعاطف والموالاة، وربما الوقوع تحت سحر تأثيره.
الكتاب إذا لم يعد مجرد مفردة مستزرعة بعمق في الخطاب النسوي، بل هو التعبير الأمثل للكثيرات عن وجودهن لدرجة أنه بات قاموسا للنسويات في ظل فورة النسوية التي أدت الى استعادة وولف واعادة انتاجها تحت مفهوم " معارك التبني " كما سمت ذلك بريندا سيلفر، فحين دخلت الغرفة البريطانية مارغريت درابل، أحست بأن الكتاب يتحدث بشكل حميمي عن حالتها، ربما لأنها كاتبة وتعي معنى التنظير للكتابة النسائية ضمن معوقاتها وطموحات منتجها، رغم تولد تلك الرائعة الأدبية في لحظة بعيدة زمنية، ولذلك صورتها النسوية الجديدة كمقاتلة حرب عصابات بملابس فكتورية، بالنظر الى كفاءة الكتاب في تفكيك كل الوجوه المحتملة لاضطهاد النساء، بتحليل عميق لأشكال المقاومة المتوجبة أدبيا ونفسيا وسياسيا.
وفيما اتفقت النسويات على أهمية النهل من تلك الغرفة اختلفن مثلا على مسألة الجنسية المثلية التي ألمحت اليها فرجينيا وولف نفسها بشكل غامض كما توحي الغرفة، وهذا الغموض تحديدا هو ما أثار الإلتباس عند لويز دي سالفو مثلا التي برأتها من هذه التهمة ملقية باللوم على الحيف الذكوري الذي يخلّق ضحاياه ويتفنن في اقصائها ودفعها الى زاوية دفاعية. وعلى العكس منها اتهمتها ادريان ريتش والين شووالتر أيضا بعدم وضوح مفاهيمها حول هذا المنحى الجسدي والجنساني كممالأة لسطوة الذكوري، وقد بدى ذلك واضحا بتصورهما من خلال ملاحظة أدوات وفعل السرد عندها، حيث تعمدت الفرار من مجابهة " الآخر/الرجل " خصوصا ادريان ريتش التي رأت في استبراء وولف الضمني من مسألة الشذوذ تنصلا من حق انساني، وحالة من التنافق الاجتماعي على حساب حق المرأة في التعبير عن حضورها السوي.
وربما كان هذا الاتهام صحيحا لأسباب ليست كلها أنثوية، فحين اقتربت باتريشيا ستونز من غرفة فرجينييا وولف كانت أميل الى استحالة أن تقول وولف الحقيقة مجردة حول أجساد النساء ومشاعرهن، وعليه فهي لم تستطع تقديم نماذج جديدة عن حياة النساء وتجربتهن الإجتماعية، فبسبب تأكيدها على الذاتية أهملت وولف الواقع المادي المشترك لحياة النساء، وبتلك النظريات الجمالية سلبت وولف عالمها الروائي حيويته، وأن عجزها عن بقاء اهتمامها مركزا على التجسيد المادي للنساء هو في رأي ستونز، السبب الأساسي الذي يكمن خلف تحليقها نحو ثنائية الجنس، فهي تتخلى بشكل فعلي عن فكرة الكتابة كامرأة، وتستبعد امكانية أي نزاع مع المعتقدات الاجتماعية.
ومن هذه الوجهة التحليلية يتعزز رأي الين شووالتر من أن وولف ذاتية وسلبية جدا، وراغبة في الإفلات من هويتها النسائية بتبنيها فكرة ثنائية الجنس، فيما يشبه التعادل الجنساني أو التواؤم مع الذكوري، بحجة ميثولوجيا تحرير الروح من الجسد، وهو ما يقصيها بشكل باتر عن بواكير الحداثة ومتوالياتها، فقد رأت توريل موي أن فهمها المتقدم على نحو مذهل للأهداف النسوية منعها من اتخاذ موقف سياسي تقدمي في الصراعات النسوية في زمنها، لكن جولييت دوزنبير تؤكد على صلتها بارهاصات الحداثة الأولى، فيما تصر جين رادفورد على إدخالها نادي الحداثة بكل ما تعنيه المفردة من معنى واصطلاح ومنجز، وهو الأمر الذي يدلل على الكثير من التعاطف النسوي مع وولف أكثر مما يشير الى رغبة في التدليل على ذلك المنحى الريادي.
إذا ، فالاستئناس بالغرفة لم يمنع مناقدتها من زوايا مختلفة ونبش محتوياتها النفسية والموضوعية والجمالية، فميشيل باريت التي تكن اعجابا إستثنائيا لفرجيينيا وولف سجلت ارتباكها أما بعض التناقض الصريحة من خلال استغراق فرجينيا وولف في نزعة مادية لتحليل وعي ووممارسات المرأة الابداعية، وذلك عندما يتعلق الأمر بها ككاتبة وناقدة تمارس التنظير حول المهمة الكتابية، وعند الاقتراب من رواياتها فتلاحظ باريت إنصرافا عن الأهمية الإجتماعية للمسألة الفنية، بحيث تبدو نظريتها الجمالية متعارضة بشكل سافر مع دلالات موقفها المادي كما يبدو فاقعا في غرفتها.
ويبدو أن الين شووالتر مكثت طويلا في الغرفة لتتحدث بكثير من الجرأة والمساءلة لطيف فرجينيا وولف، وذلك لتجريد الغرفة من سحرها المبالغ فيه، فما هو أكثر جاذبية في الكتاب، حسب شوالتر ، من ناحية النص والبنية هو سحره المتقد وقدرته على التلاعب ومظهره المولع بالحديث والبارع فيه، أما أساليب الغرفة، برأيها، فتشبه أساليب روايات وولف التي كتبتها في الفترة ذاتها : التكرار، المبالغة، المحاكاة الساخرة، الغرابة، ووجهات النظر المتعددة، وعليه فإن الكتاب بما فيه من أوهام التلقائية يظل كتابا شخصيا ودفاعيا، لا يأخذ الذات إلى استحقاقاتها ولا المجموع النسوي الى حقيقة معركته مع الآخر، بقدر ما يستعير ويوارب، فالجنس مثلا كمفهوم، يشكل حالة من التوازن والعاطفة المتكاملة لعنصري الذكورة والأنوثة، لكنه بالنسبة لوولف، مجرد ميكانزم دفاعي اعتمدته لتجنب المواجهة مع أنوثتها المؤلمة ومكنتها من كبت وتعطيل غضبها وطموحها.
هكذا اتهمتها الين شووالتر بالخوف من التجابه مع مستحقات الذات والدعوة إلى كبت التعبير عن حقيقتها، فقد تجنبت وصف تجربتها الخاصة، وبالتالي لم تنتج عملا نسويا ملتزما حقا بمعنى النسوية وجوهرانيتها، بل إخفاقا، حيث تراها شووالتر بهذا الرهاب تحلق بعيدا عما تسميه " النسوية المقلقة " فهي عندما تتحدث بشكل تحليلي عن الخوف والغضب عند المرأة الكاتبة، لا تتقدم بجرأة لتحقق لذاتها الأمان النفسي، الأمر الذي أثار التشكك في نفس شووالتر حول هويتها، فهي تبدو متحفظة على الدوام ازاء آراء الرجال حولها، وكأنها مسكونة برهاب ناحية الآخر الذكوري ومتحسسة دائما من رأيه المضاد بحقيقتها الأنثوية.
ومرد ذلك الرهاب الأنثوي برأي شووالتر، ليس العجز عن التصريح بسر استيائها وحسب، بل نتيجة موقعها الطبقي أيضا، بالنظر الى أن امتيازات حياتها الثقافية والمادية فصلتها بشكل باتر عن حياة نساء طالما تحدثت بلسانهن دون وجه حق، لدرجة اتهامها بخيانة معشر النساء والتنصل من مستحقاتهن، فهي بتصور شووالتر امرأة تنتمي بشكل وثيق وانحيازي إلى الطبقة العليا، وبالتالي فهي تفتقر الى ما تسميه التجربة السلبية الضرورية التي تؤهلها ككاتبة نسوية بارعة، فهي منقطعة بالفعل عن فهم الحياة اليومية للنساء، وبالتالي كانت تتمرد على جوانب من تجربة نسائية لم تعرفها شخصيا، وتتجنب وصف تجربتها في آن.
وبمقاصد سايكولوجية دخلت نانسي بازين غرفة فرجينيا وولف لتحلل مفهومها حول مسألة جماليات " ثنائية الجنس " التي اعتنقتها باكرا وتخلت عنها لاحقا حيث الإنسجام بين الصفات الذكورية والأنثوية، حين اقترحت فرجينيا وولف حيادية الجنس، فقد تحدثت عن إمكانية وجود عقل حيادي، بلا نوع، لا يحمل السمة الذكورية أو النسوية، مستشهدة بمقولة كوليردج :" العقل العظيم هو عقل لا يحمل نوعا، فإذا ما تم هذا الانصهار النوعي، يغدو العقل في ذروة خصوبته و يشحذ كافة طاقاته، لتضيف بأن العقل تام الذكورية لا ينتج شيئًا أكثر من العقل تام الأنثوية، وهذه هي البؤرة الملتبسة التي توغلت فيها بازين، لتقترح تفسيرا سايكولوجيا لمثال " ثنائية الجنس " كما أوردته وولف باعتباره متجذرا في تاريخها السايكولوجي الشخصي المتسم بالهوس والكآبة.
من ذلك المنطلق التشخيصي لثنائية الجنس، أو الكينونة المزدوجة حسب تنظيرات لوس اريغاري، ربطت بازين مرحلة الهوس عند فرجينيا وولف بفترة ارتباطها بأمها، وبالتالي بالتمايز الجنسي الأنثوي، كما شددت على اعتقادها بصيغة أو نموذج أساسي في الواقع المعاش تستمد منه الحياة معناها. أما مرحلة الكآبة فأرجعتها، من الوجهة التحليلية النفسية، إلى مسألة الارتباط بأبيها وبالتالي بالتمايز الذكوري، وقد حاولت أن تسبغ على ذلك التمثل شيئا من العلمية والعقلانية من خلال التأكيد على أن ادراك ذلك التذبذب حول الحياة ليس سوى حالة من التواتر المادي الخالي من المعنى كما تبدو عليه الحياة في تدفقها الإعتباطي، بالنظر الى أن التأرجح من ضفة لأخرى ومن قطب لآخر سمة أصيلة للشخصية المهووسة الكئيبة، وعلى اعتبار أنه مستمد من الإضطراب العاطفي، وبالتالي فان " ثنائية الجنس " كما بدت في حالة فرجينيا وولف، هي حالة توازن مثالي بين قطبين.
ومن منظور، أو بمنهجية تفكيكية أطلت ماكيكو مياو بينكني على ثنايا الغرفة الخفية، فلم تر أي تناقض في فكرة فرجينيا وولف حول ثنائية الجنس ذلك أن وولف لم تستخدم هذه الفكرة التعادلية لتشير الى الجوانب الذكورية والأنثوية للعقل، من أجل مزجها أو توحيدها بأية طريقة لكبح الفوارق بينهما، بل لتؤكد على الإختلاف وليس التماثل، فالكاتبة بتصورها بحاجة الى أن تكون غير واعية بجنسها، لا لملاشاة الفوارق وتبديدها، وانما لكي يجري التعبير عنها بوضوح أكبر، فعقل الكاتبة الثنائي الجنس ينفتح على لعبة الإختلاف والمغايرة، ولا ينتج لغة متجانسة غير مميزة، وهو ما يمنح المرأة امكانية احراز ثنائية الجنس، ذلك ان النساء على خلاف الرجال الذين يحتلون مواقعهم في النظام البطرياركي السائد بدون ان يتعين عليهم الإهتمام بالتماثل تخيليا مع النساء يجري إرغامهم أثناء تعلم الكلام على الخضوع القسري للنظام الرمزي الذكوري بكل سطوته ومفارقاته الجنسانية، وبالتالي فان النساء حسب بينكني منعزلات أصلا أو ثنائيات اللغة إذا جاز التعبير.
ولكن كل تلك التبريرات النسوية لا تقنع ايلين شووالتر فكعادتها المشاكسة رأت أن " ثنائية الجنس " في مثال وولف إنما يعكس حاجتها المحسوسة للتخفيف من التناقض أو توحيد النواحي المتصارعة في شخصيتها، غير أن مجازاتها تتسم بالغموض، وذلك برأي شووالتر، هو ما أحال غرفتها الخاصة إلى سجن بدل أن يكون ملاذا، بحيث يمكن تأمل " ثنائية الجنس " كدليل مجازي على الارتباك بين الذكورة والأنوثة أكثر مما هو اشارة واعية للتكامل البنائي، فكلاهما يمكن اعتباره مستمدا من الرفض المتقصد لمشاعر واقعية وملحة من الوجهة العاطفية، أكثر منه تحكما سليما بها.
لقد كانت فرجينيا وولف، بتصور ايلين شووالتر، مسكونة بالحيرة، ومربكة بغضبها وخائفة منه في آن، ولم تستطع أن توصل نفسها إلى تبني تلك الغضبة الأنثوية/النسوية وتحويلها الى قضية أو حقيقة حية، خشية أن تغضب الأصدقاء من الرجال، أو تغترب عنهم، وهذا هو بالتحديد السبب الذي جعل حجتها تبتعد في نهاية المطاف عن موضوعاتها النسوية وتتراجع نحو الغموض وضبابية الرؤية، فهي أميل إلى الهروب من ميدان معركة المشاعر واضطراب الرغبات والحاجات الشخصية لتجد الهدوء والسلام في مملكة الإبهام وتجاوز المعنى.
كاتب وناقد من السعودية
e-mail:m_alabbas@hotmail.com
www.m-alabbas.com