في ذكرى ضياء مجيد السامرائي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حوار الجوع والجنس والموت الرخيص
موسى الخميسي من روما: تمر هذه الأيام الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر العراقي ضياء مجيد السامرائي في مدينة روما، اتفقت والفنان عزيز كريم ان نتغلب على انكسار ذكرى موته في قلوبنا للسعي بتجميع قصائده ونشرها في ديوان شعري حيث أبدى صديقنا الشاعر خالد المعالي استعداد دار النشر" الجمل" التي يشرف عليها لطبع الديوان وفاءا لهذا الرجل الذي مات في عز محنة الديكتاتورية التي مر بها العراق، حيث عكست قصائده التي كتبها في العراق مرارة الوضع الذي عاشته البلاد، دون ان يفارقه الأمل العنيد بانقشاع ما كان يسميه بـ" إخطبوط" البعث.
تجربة هذا الشاعر الحياتية ونهايته المأساوية تقودنا الى تجربته الفنية والفكرية ضمن كم كبير من القصائد التي تركها الشاعر. ضياء كغيره من الشعراء الشباب عايش إرهاصات الحركة الشعرية العراقية واتجاهاتها في الستينات والسبعينات واستنفد طاقته في عشرات القصائد التي عكس من خلالها عزلته المحققة نصا وحياة ومن خلال مأساة الضياع ووحشة الدنيا الخاوية التي عاشها عدد كبير من شعراء جيل السبعينات والثمانينات في مدن الاغتراب التي اجبروا على النزوح أليها في البحث عن مشكلاتهم الخاصة ومشكلات الإنسان إطلاقا، فتعمقت رؤاهم الكاشفة، واتسقت إشعار العديد منهم بنفسها وتكوينها من التفاصيل اليومية او الصور الوصفية الجميلة والتوظيف اليومي للبعد الفلسفي في رؤيا خالقة أبدعت علائق جديدة بين المفردة، الصورة، الفكرة وبالتالي بنية القصيدة.
ظلت السياسة والحب، محور أساسي من محاور ضياء الشعرية، وكان يحمل إحساسا عميقا بالموت الذي ظل حالة فاغرة غير قابلة للاختراق عبر تمزقاته المختبئة وراء جلده، ومع ذلك كان متشبثا بالحياة بكل فتوة وقوة، فقد دفع خوفه من الموت، ليبحث من خلال جوعه الثقافي، وقحطه الروحي والجنسي، ليغترف وبتطرف من كل ما حوله، متوهما بأنه قادر على اختراق الحاجز السميك الذي حصن المجتمع سنوات شبابه الأولى داخله. لذلك ان تجربته الحياتية والشعرية، هي تجربة خوف، تجربة إنسان هارب، مطارد، ومحاصر بالطوفان، والصمت، والعناد، الا ان لا مبالاته ونزقه وحيرته وقلقه وضياعه وبحثه الدائم عن الوسائل السهلة المنال التي كان يطاردها في الحياة اليومية في مدينة روما المفتوحة هي التي قتلته.
لقد ربط مصيره ، بمصير اللذائد السهلة فكان الشعر لديه بمثابة كشف عن الانفعالات والخلجات والمشاعر الدقيقة التي ظل بها مطاردا، ومدعيا، ومخترقا.
عاش حروب الطاغية وظلت تمس مشاعره وأحاسيسه فغادر العراق بكل عنفوانه وجوعه الثقافي وقحطه الروحي والجنسي، ليحط في روما ويبدأ رحلة الاغتراف وبتطرف، فصار عاشقا لكل من يراه وهجاءا لاذعا لكل من حوله، أعداء وأصدقاء، ولكن ظروف الدهر الأوربي، والحرمان كانت إشارات وقحة لا تروي غليله الجائع، فسقط مريضا بإباحيته المدمرة وهو في أول الطريق ليقطع شجرة الحب التي بدأت تكبر بسرعة مذهلة في قلبه الفتي.
قصائد قصيرة يغترف الشاعر ما يشاء من الشعر ليبحر في عوالم الحب والحرب والمنفى والتغني بعذابات العالم ومحاولة الولوج الى عصر جديد من خلال الخلاص من العذاب والموت، فهو في قصائده التي تتدفق ككتل موحية، متدفقة، متتالية، وكأنها أشجار تنمو على هواها ، كان يأمل بفتح بابا لعشق الإنسان العراقي الذي هزمته تهاليل الحروب التي فرضها الفاشيون على شعبنا. وقد استطاع كغيره من الشعراء العبور في عدد من قصائده في التعبير عن وضع جيل من العراقيين، جيش من المضطهدين، والجنود العائدين من حروب خاسرة ، لا ينغلق فيها على نفسه وعلى طقوسه ودلالاته الرمزية، فلقد خلق من حياته الشعرية معبد كوني أعاد فيه استبهام كلية العالم.
لغة نبوية تارة، وسريالية تارة وشديدة الواقعية في مباشرتها تارة أخرى، الا انها في كثير من الأحيان تبدو وكأنها لغة بيانية عن الثورة والسعادة والحرية والجنس والرغبات المحمومة، وأوجاع الجسد المريض، والموت الذي يحدق فينا من شغاف قصائده، والذي لم يسميه او يظهره، بل ظل مختلطا بشعر الحياة وأحشائها. خصوبة مخيلة منفلتة او لغة يومية توحي بحب كبير للحياة، يتنقل من هاجس اللغة الى هاجس الكون، من العراق الى العالم، مرورا بإيطاليا التي أحبها وعشق فيها شوارعها الضيقة، وأبنيتها القديمة، وأشعار الايطالي بازوليني الذي ظل بالنسبة اليه رمز النبوة الشعرية الحديثة لما أحدثه من ثورة تجديدية ارتقت بالقصيدة الإيطالية والإشكال الشعرية المتداولة، الى بنية جديدة لها القدرة على استيعاب هموم الإنسان المعاصر.
وجه ضياء ، الشاعر والإنسان، بتجربته الحياتية والشعرية ستبقى ماثلة لا يزال مائلا بقوة في حياتنا، نتذكره كجسد ضعيف ملتو مقاوم، يتصل في مدى ملحمي بصوت كل العذابات البشرية، وبصورة اخص بسلسلة قصائده التي تحتاج الى تأمل ودراسة مختصين بالقصيدة الشعرية الحديثة.
ولد في مدينة سامراء بالعراق منتصف الخمسينات وبعد تخرجه من الدراسة الإعدادية انتقل الى مدينة بغداد للدراسة في المعهد الصحي. عمل موظفا في وزارة الصحة في مدينة الناصرية. هرب من العراق بعد اشتداد حملات القمع ضد القوى اليسارية فاتجه الى ايطاليا عمل مراسلا لصحيفة الوطن الكويتية منذ عام 1983 وراسل عدد من الصحف العربية، السفير، الكرمل، البديل.. الخ.
نماذج من قصائد الشاعر
عودة الشاعر
الى عبد الرحمن طهمازي
أيسري اليك
يرافق أنسام هذا الصباح
أيحتمل السر
فيك افتضاح العيون
فتنقلب الآية الآسرة
تحمل الكف سهام الناس
هذا بؤسها
يثقل الشاعر أنفاس القصيدة
قبل ان تبلغ أمواج الرياح الساخنة
تآخت الأيدي
تراخت في السماء الأجنحة
يالاعوام تهجتك
واغرتك الفراسة
أبدا للماء كانت شفة الظامىء
تمضي
ثم ماذا
غير صحراء وريح
عودة الشاعر
جريح القافية
لم يكن في رفقة الليل تراتيل
ولا من يسمع اليوم قصيدة
حديث
عن أوجاع الساقين
يحدثني جسدي
عن تعب العينين
اذا ضاق القلب من التكرار
عن جسدي
حدثني الرأس المهموم
تتقابل أزمنة وشروخ
تجتاز الرئتين
الريح تجرجر أمراضا
يقذفها بركان
لا توحشه الإسفار
ولا يهدأ
كي نبكي رئة تسّود
او
قلبا تشويه النيران
تحدثني الكفان
ويهمس إصبع:
أتراها الكرة الحدباء
يتقاذفها الناصون
ألعاب في ضفة الرأس
تهادن ذاكرة
بين أصابع قدمي
فأر ازرق
يخذله الجوع
يمد يديه ويوقظني
جسدي يخذلني
وأبادر اسأله
عن هذا الفأر
وعنها
عن حرب الجثث المنسية
غربة
منذ كنت جنينا
تذوقت طعم الجسد
لم أكن اجهل الحضن
او ما يغذي عروقي
حين غادرت تلك الليالي المديدة
استفقت
وابتسمت لعيوني
شمس ذاك الصباح
منذ أول عام
فقدت أماني
وخبأت في القلب ذكرى الصراخ
هكذا سكنت مركبي لهفة
واستبان انفصامي
خصومات
يخاصمني اليأس
ماذا جنيت
وكيف توارى الصغار
لماذا تراجعت للماء
هل كان سيلك يجدي
ينازعني غير ان امتداد الخصام
اتاح له الانبهار
فابتعدنا اليه
ولكنه خلفنا
بعد جولته الخاسرة
أمي
وجه أمي حزين
يسلمه النوم للارتهان
ليقذفه الصبح في دورة لا تطاق
وجه أمي تذمر حين استباحت
مجاعتهم بعض أفراحنا
فكان دعاء الصباح
أليفا اليها
لتشتم فيه الرئيس
وتلقي بأحقادها للذليل
وتدعو لهم بالفناء
نزهة
خذ نزهة
عبر الدواء
خذ ما تبقى من مناعتك الجديدة
فإذا تكفلت الحروب
ببعضنا
السر يفضحه الجريح
في لكنة الاقدام
حقك يستباح
منذور لبيدرنا
اكتلاب الريح
من كل الجهات
أغدا تجيء العافية؟
حيرة
لا سره يكفيه
لا تكفيه توقيت المخاوف في المساء
جذلا بصمت الاسطوانة
أطلقتها صيحة وغفت
على صمت القبور
فاضت محبته بصحراء بخيلة
أوقد للرياح
النار
نام على الدخان
لا تخف
خوف الزجاج من الحجر
قد يعتريك
وقد ترى
من يكسرون الرأس
بحثا عن ذهب
او ربما لامست
في القلب الجليد
وحينها شلت يداك
فهل ستذكر
كيف رجفتك القصية
جرجرتك الى الولادة
لبحيرة سوداء
تذكر نطفتك
ام يا ترى تهجو بحيرتك الأليفة
حين غادرها الجسد
كالقارب الملقيّ
بين الصخر
مكسور القوادم
خوف الجنين اذا انفصل
يلقي بكلكله اليك
فلا تخف
يحدق في عزلته
جزر الأصدقاء البعيدين
أحزان القوافل المهاجرة
في الأمس القريب لم يكن اعزلا
لكنه كان يقترب حثيثا الى صحارى
تغزوها الريح، بوابات تصفق مختومة
تحرسها الكلاب
لقد تغير الإيقاع
وكما لو انها الهاوية
هكذا أحس ارتطام أقدامه
في قاع الأيام، تخذله في الليل
رؤى سوداء، يتوزع ما بين البحيرات
المالحة، يتقرب أصدافا تتدفأ تحت
الشمس.