عالم الأدب

استبطان الذات بلقطة قريبة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مقدمة في علم نفس "الصورة السينمائية"



[إن السينما لا تُقدم لنا كما فعلت الرواية زمناً طويلاً، أفكار الإنسان، بل تعرض علينا سلوكه أو تصرفاته. وهي تقدم لنا بصورة مباشرة هذه الكيفية الخاصة في الوجود، في العالم، وفي التصرف بالأشياء وبالآخرين …] *

ما انفكت " الموضوعة السايكولوجية " تشكّل على الدوام، أغراءً طموحاً لصانعي الأفلام بشكل استثنائي. وبإلقاء مزيد من الضوء عليها، تتبين قدرات الإخراج السينمائي على التقاط ( الإرتعاشات الجوانيّة للذات، القلق غير المُتعيّن، التخيلات الحبيسة والعالم الخفي للشعور ). فقد يتسنى للبعض أحيانا أن يتابع بحرص العناصر المعزولة للظاهرة النفسية، يلتقطها وفقَ لحنٍ لائقٍ مُؤثر، ومهما استعصى عليه إدراكها " باللقطة القريبة " قوية التأثير، يُمكنه محاولة إدماجها في شبكة الإدراك الحسي للظواهر والأشكال. ذلك بانتسابها ( أي الظاهرة ) إلى اتجاه المكوّنات الحاضرة في " الصورة السينمائية " كمجموعة من المعطيات البصرية والسمعية.
تكمن مغامرة هذا النزوع التصويري وصعوبته، في تخطّي المثبطات التي تقف حاجزا أمام تطويع هذه الموضوعات غير المرئية وعرضها على الشاشة. لتستمر الصعوبة بشدتها إلى حد تكتسب فيه " الصورة " صفة الإحساس بها، أو الانفعال السريع بوهمِها على الأقل. وفيما يتعلق بأدوات المخرج السينمائي ( التي هي مجمل التطور الحاصل بالنسبة لوسائل التعبيرية والانطباعية في فن القرن الماضي، من دون أن يعني ذلك بشكل أكيد اختلافا في المفاهيم والأوجه بينهما ضمن الحدود المتساوقة للتجربة الإنسانية )، بالنسبة لتلك الأدوات فان زَعَزعة الاعتقاد اليقيني بكمال ( الكلمات – الأدب العامة ) والاتجاه المتعاظم لاستجلاء عمق " الصورة " بعمق أخر يُماثل الأيمان اللاهوتي ببلاغة " الملفوظ "، قاد المجربين الجدد بمختلف القابليات إلى عدم التمسك بما وقفوا عنده من تصور هندسي أو عبثي لحالات الحقيقة الداخلية للذات متغايرة الخواص.

الفيلم السايكولوجي أنموذجا :
بالنسبة لأحكامنا الحالية حول ما يستحصله " الفيلم السايكولوجي " - إذا صحت تسميته بذلك - من متعةٍ تَتسيّد، لكنها مترددة أيضا قياسا للانجذاب السحري الذي حققه اتجاه الفيلم الكلاسيكي ( دكتور جيكل ومستر هايد مثلا ) بوحدة فنية زاهية من الضوء والعتمة، أخذت بلباب متفرج لم يعتد بعد رؤية أحاسيسه وخلجاته - سليلة وحدته وانعزاله - معروضة أمامه، باردة ومندحرة، مهما بَدت قاسية محاولة فضّ قداسة ذاته " أي ذات أخرى ".
وبمرور زمن طويل من الهستريا الجماعية المُؤيّدة لهذا السحر الجديد – الفيلم – اكتسبت " الموضوعة السايكولوجية " أكثر من غيرها قيمة مطلقة لدى جمهور عريض مكتوم الأنفاس لمعقولية ما يرى، وأن تَخفّى أحياناً وراء أوهام عديدة، تتناغم وشدة صراخه في صالة العرض، خشنة الملمس، ناعمة الإيحاء.
سنفترض أن البعض من ذلك الجمهور لم يُعنَ تماماً بما يمكن للفيلم أن يقدمه، فتلك خاصته. وفي المقابل لا أحد يستطيع التصـور أن العجـلة المجنـونة المسؤولة عن انتشار الفيلم وبراعته، ستتوقف يوماً عن اقتحام عوالم جديدة موغلة في الخفاء أو عن اكتشاف غوامض أخرى. عندها لن نقول أن الفيلم وقف في حدود المكانة السابقة التي أمكنه اجتيازها بمعادلة شديدة التعقيد تُوازن بين جمهور منفعل وفنان يبحث عن سبل أخرى لتخليق ذاك الانفعال.
إن تطور " الصورة السينمائية " – متعددة الألوان والنكهات – في زمن يمتد عقوداً متراكمة من التذوق الفيلمي، يُمكنّنا من الحصول على وحدة إدماج المجال والصورة، التأمل الباطني وتعبيرية الملفوظ. فيَحلو لنا تصوّر الأمر بحسـب عبارة "غوته" : [ إن ما هو في الخارج هو في الداخل أيضاً.. ] خلالها تكتسب السينما بواسطة تنوع دلالاتها، أعلى صفات الإدراك الحسي للظواهر المُشخّصة. برغم أن ذلك الإدراك لن يكون موجوداً أو مُعبّراً عنه بالتمام، من غير التشبّع الشاعري بإيقاعية الفيلم ؛ تَمثّل سَكَناته وحركاته لمصلحة وحدة من الاندماج معه يُوفرها، بُغية تسهيل قراءته. على هذا النحو ليس للفيلم معنىً خارجاً عنه. وكل فهم له سيكون لصالح الخيال المبثوث فيه. أما الوحدة التي يصرّ الفيلم عليها في ميدان تناظر الخطاب وتأويله، فيمكن استنتاجها في عبارة "ميرلوبونتي" القائلة أن : [ معنى الفيلم مندمج بإيقاعه، كمعنى الإيماءة الذي لا يمكن قراءته مباشرة في الإيماءة ذاتها، فالفيلم لا يريد أن يعني شيئاً آخر غير ذاته.. ].
قيل أن السينما على نحو ما تُعبر عن مستوى معين من الأفكار، ويتعيّن علينا لأجل أن لا نُسيء إليها، عدم التوّغل في عرض هذه الأفكار أو تحليلها، إنما الانتباه فقط إلى الإدارة التقنية للفيلم التي تُحركها إرادة فنية مستقلة. ذلك بوصف ( الفيلم ) الأداة الجديدة، لكن البارعة في تصوير الحياة والأفراد والمعنى الذي يُوحدهم، بطريقة خاصة تتيح لخالق الصور الفرصةَ المثالية لتأمل قوة رموزه وللفيلم قدرة التعبير عن نفسه.
أليس لنا أن نستمتع بالمعنى الذي يُظهره الفيلم أو يخفيه ؟
ربما على الأوجه كافة، توجد في الفيلم قصة ما، وإن لم تكن، ففكرة معينة يطرحها. وأي تحليل للصورة السينمائية عليه أن يمر بإدراكاته الأولى لها، صعوداً نحو المعنى العميق فيها. بحيث لن يكتمل المعنى المُعطى بالنسبة لمن يتأمله بغير استبصار كافٍ لجمالية كل صورة ولقطة من صور الفيلم ولقطاته.
فكيف سيتحدد الأمر لشخص يتطلع لذاك الفهم، راغباً في قراءة الفيلم كطموح خيالي مشروع ؟
ليس من الواجب أن لا نحاول ذلك، مع أن المنظر المعتاد للفيلم يُقرّب الإحساس أحياناً بالطابع التعليمي للسينما، الذي يفقد توازنه عادة مع مُشاهد مُفترض يُجسّد البلبلة الدالة ( للمثقف ) الواجب مراعاتها للحفاظ على فنية الفيلم. وقد يكون في الاشتعال الحر على ( المُشاهد الفرد ) الفرصة المناسبة لأثارة بعض الأسئلة المتعلقة بإرضاء مختلف مستويات التلقي، حينما يكون الصفة البارزة للفيلم أكثر من غيره. فبينما يميل المُشاهد العادي " للفيلم السايكولوجي " إلى الاعتقاد أن حياته تحتاج منه- أكثر من أي وقت – وقفة لتأملها بحسٍ مختلف، باعتبار أن حقيقة الحياة ليست في تلك المظاهر اليومية الطافية على السطح والمنظورة دوماً. يذهب المُشاهد الحصيف إلى أدراك آخر يؤكد أن الحياة بشمولها على قدر كبير من الغموض، وهي ما يستعصي إدراكه ببساطة، بل لا يمكن لنا فهمها فهماً حقيقياً !
بشكل آخر يمكن القول : بينما يميل الانبهار إلى التلاقي مع " صورة الفيلم " ينأى الشك بعيداً عنها.
إنها ليست أكثر من وصوفات ممكنة لأحاسيس المُشاهَدة ( بافتراض التدرّج في ثقافة الحواس ) تقود إلى الملاحظة المقلقة والمتعلقة بكون الفيلم ليس وجهة النظر الشخصية القابلة للإهمال والمغادرة، بقدر ما أن وظيفته تجسدت اليـوم – باختيار غير معلن – في محاولته تبديل أُطر حياتنا والتدخل فيها بجرأة لا تقاوم، تُظهر في النهاية ؛ أن غواية الفن هي بالضبط ما يتشكّل عبر قابليته الخاصة اللامحدودة، ليتمثل تحديداً في تحويل المسارات الشخصية للأفراد، لا عن طريق شيء ما مُشخّص وزمني، إنما بتعاقبه الجمالي الملحوظ، الذي يُضفي دلالة ما على مقطعٍ جوهري من حياتنا الخاصة. حينها تبدو حالات الألم واللذة، الكراهية والحب، العقل والجنون، عالقة ومشعة في سماء ذاكرتنا، ممكنة ومنحازة – كتعبير أوحد عن علاقة الذات بالعالم.
أحقاً [ أن الفيلم لا يُفتكر، بل يُدرك حسياً.. ] ؟ بتعبير " بونتي ".
ليس مستبعداً هذا إذا نظرنا إلى الفيلم بوصفهِ نوعاً من الشعر المحض، وسيلة تعبير خالصة، لا يمكن الاتصال بعناصرها، إلا من خلال محاولة استقبالها كطريقة جيدة للتنظيم الداخلي " للصورة السينمائية " بين مبتكرها ومتلقيها.
الأمر الذي يجعل من الأشخاص متفاوتين في قدرتهم على إكمال الوهم السينمائي، وفق تباين استعداداتهم الذهنية على التصديق ( الاندماج أو المراقبة ) بحيث لن يكون بوسع الفيلم – في الغالب – أن يتبنّى وصفة جاهزة يمكن تلقينها للجمهور لضمان مشاعره خلال العرض. فعناصر الفيلم المُكوّنة تشكّل في ارتباطها كًلا موحداً يُؤلف المعنى. ولو أمعنا النظر جيداً في الصورة ( فيلم الحاسة السادسة على سبيل المثال ) وهو أبرز الأفلام النفسية الرصينة، لن نجد ما يدل على أن مُكّون الفيلم التأثيري يستبق مشاعرنا كمشاهدين، من أجل تحقيق القصد العام للفكرة، إنما يحاول فقط إرضاء فضولنا لمعرفة تنامي الأحداث في القصة.
معنى ذلك أن الارتياب المبثوث في هكذا نوع من الأفلام، يتحوّل تماماً إلى الإحساس العميق بالتكوين المتواتر للأسلوب، فيَجعل الأشخاص – تدريجياً – يُصدقون في " الصورة الفيلمية " ما يَرفضوه في الواقع. رغم أن " الصـورة " على نحو ما ليست ببعيدة عن واقع الأشياء المُدرَكة، ذلك إذا أعرنا انتباها كافياً لإحساسات المُمثّل وأفعاله الواقعية عند تأديته الدور المرسوم له. بالطبع دون تَمثّل جوانية الشخصية المُؤداة حقيقة، إلا بشكل مؤقت يُزيد من وهم تصديقها والتأثر بها [ الأمر الذي يُبقى على الالتباس، هو وجود واقعية أساسية فعلية للسينما.. ] لا أظن أن القارئ سيحتاج إلى التذكير، إننا نستمع أيضا إلى القصص التي يرويها الأشخاص، فنحاصر بقوة أسلوبهم على تصديقها، ناهيك عن جديّة طرائقهم في الحديث المؤثر عبر براعة إيماءات الوجه ونظراته، والاهم من ذلك، حضور الراوي الواقعي.
والحكاية نفسها تُؤلف هنا رباطاً وثيقاً مع المُشاهد، حينما يتلقى الصور المسرودة في الفيلم من راوٍ مجهول، أكثر جاذبية أحياناً. نميل معه برغبة دفينة إلى التصديق المُمعن بتلقائيته القريبة من استقبال الحُلم، ذلك الذي يرفض – بشدة – عدم ابتكار تأويل مقنع لعناصره البارعة وصوره الطيفية، خلال استعادته الواعية.
إنه الضمان الأخير الذي يُبقي على العقل سليماً من نزعة التجريد التي تُحلّق فوقه، فتستوجب منّا أشغاله بسحب الخيال البيض، ريثما يُتقن الطيران الحر.
خشيتنا إن لا توّفق افتراضاتنا حسب الكيفية التي تتحكّم بشمولية استنتاجاتنا في قراءة الفيلم، لكنها على الأقل، قد تسمح للبعض بالتقاط تفسير ما لبراعة ذلك التأثير المحايث لآنية استقبال الفيلم السينمائي، الذي ليس إدراكه سوى متعة متحصلة من تَلقّي جمالية العلامات الحسية ( لّلقطة القريبة ).
حقاً إن الإنجاز الفذ للفن هو ما يُوصف بقدرته إلقاء الضوء الشديد على ظلاميتنا.


*ما بين الأقواس الكبيرة [ … ] نقلا عن " موريس ميرلوبونتي " – السينما وعلم النفس الجديد / ت : نهاد التكرلي.مجلة إسفار : 4 / 1986 – بغداد

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف