عالم الأدب

لورنا سليم زهرة الأسرار تتألق...

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

... في الشمس العراقية



يشخص كتاب الصحفية والكاتبة أنعام كجه جي "لورنا.. سنواتها مع جواد سليم" حقيقتين مهمتين لتاريخ الفن العراقي من خلال متابعتها لماضي ومستقبل لورنا سليم الفنانة الإنكليزية ـ العراقية التي ارتبطت بواحد من أهم رموز الفن التشكيلي العراقي وهو جواد سليم، متمتعين بمعرفة تلك الحقائق الحية والتفاصيل الفنية عنه والتي لم نعرفها سابقا بهذه الدقة (وخاصة المشاكل التي اعترضته في تحقيق نصب الحرية) وكذلك عن معاناته الحياتية حتى وفاته، وكل هذا يعطي الكتاب مصداقية وحيوية متميزة.

الحقيقة الثانية هي أن مصادر هذه المعلومات غير مستقاة من الكتب كما هي العادة وإنما من أقر ب إنسان للفنان هي زوجته المتأثرة به فنيا وحياتيا حتى وهي الآن في خريف عمرها تتأمل الحقول الملبدة بضباب منطقة لانوفر جنوب ويلز بعد أن اضطرت للعودة من العراق في عام 1971 وهي تحمل في جوانحها ذكرياتها لأكثر من عشرين عاما عاشتها تحت وهج الشمس البغدادية المتألقة. إنها مازالت وحتى هذه اللحظة ترسم البيوت والحارات وشناشيل بغداد القديمة، ومازالت تستخدم ذات الألوان( ألوان الطين ) التي تميز الجو العراقي وتفضلها على ألوان الريف الإنكليزي حسب مؤلفة الكتاب التي بذلت جهدا كبيرا في البحث عن زوجة الفنان التي تتقاسم مع ابنتها وزوجها بيت غارق في الضباب.
والبحث الدقيق والسفر البعيد الذي قامت به الكاتبة لمقابلة المصادر الحية مما يميز هذا الكتاب و يمنحنا في ذات الوقت امكانية التعرف على تفاصيل حياة لورنا سليم منذ كانت طفلة، وبعد ذلك على شبابها البكر الذي تاه بأحلام سحر الشرق الغامض البعيد، فهي سليلة بحارة وموسيقيين، وعندما تزوجت من الفنان العراقي سحرتها الشمس والحياة البغدادية الجديدة وكأنها قد قذفت وسط بحر تتألق فوق موجاته شمس الابدية. ولكونها تعلمت الرسم مبكرا في انكترا ساعدها هذا على القبول في مدرسة سليد للفنون الجميلة بدون مقابلة الاختبار. في عام 1946 وفي هذه المدرسة التقت بجواد سليم الفنان العراقي المتمرد على الأنظمة المدرسية المتزمتة محاولا أن يمتلك تلك الروح البوهيمية التي تجرب كل شئ غريب من أجل إغناء مستقبله الفني.

و كان جواد عازفا جيدا على الغيتار، و لورنا تعزف الكمان فجمعتهما الهواية الموسيقية.ووجد الفنان فيها البساطة والرقة والتواضع، وهي وجدت فيه انجذابا وغرابة، إضافة الى تفوقه عليها كفنان درس في فرنسا سنة (عام 1938) وسنة أخرى في كاديمية روما. ومن اللقاء الأول أدركت لورنا بأنها أمام إنسان مختلف عن الآخرين بكل شئ بسخرياته وحكاياته الغريبة واهتماماته الفنية الأخرى، وبأنها يمكن أن تثق به. وبعد أن انهى الدراسة في سنتين بدل من ثلاث وحانت عودته الى العراق عام 1949 صارحها برغبته في الزواج منها. وفي بغداد كتب لها ( لا أدري لماذا دعوتك للمجئ الى هذا المكان المستعر مثل فرن كبير، حيث الغبار يغطي الأشجار وحافات النوافذ وأهداب العيون وكل شئ ). وبالرغم من هذا فقد كان سحر مدينة ألف ليلة وليلة طاغيا على الفتاة للإنكليزية، فتركت لندن وعملها في التدريس وكل شئ وأقلت الطائرة المتوجهة الى بغداد جواد سليم لتبدأ حياة غريبة كأنها حلم طويل يشاركها فيه فنان مبدع لا يمكن أن ينسى.

بغداد … يا بغداد ما الذي فعلت بنا
منذ اللحظة الأولى لوصول لورنا سليم للعاصمة الساحرة أثار انتباهها ثلاثة أشياء
أولا: عفوية تعامل جواد سليم العراقي الأصيل الذي يعرفه أكثر أهالي بغداد والذي استقبلها بسيارته البيك آب القديمة والغريبة والتي سيزفها فيها بعد أن يوقعا عقد زواجهما.
وثانيا : جو بغداد الملتهب الجحيمي ( وخاصة في شهر آب الذي يخلع المسمار من الباب!
وثالثا : أم جواد ذات المهابة وصاحبة الشخصية الأقوى في العائلة، والفنانة والمطرزة الماهرة بالفطرة والتي تحدثها عن ماض لا تفهم لورنا منه شيئا لكنها تعلمت أن تجلس متربعة تصغي مذهولة أمام هذه السيدة التي علمتها بعد ذلك طبخ الأكلات العراقية.
كانت لورنا مذهولة ومندهشة بحياتها الجديدة، فهي فتاة إنكليزية تشعر بالسعادة حتى وهي توقع عقد زواجها في المحكمة العامة،وتركب مع عريسها الذي لايملك ثمن خاتم الزواج ولا ملابس العرس، سيارة البيك آب القديمة وهو الحالم دائما يدور بها الشوارع البغدادية ابتهاجا ويغمرها بحيويته ومماحكاته ونكاته الاذعة. هذه الحياة فتحت أمامها آفاقا جديدة في بلد غريب كانت تحلم به، لكن قلب بغداد كان رحبا في تلك الأيام للأبناء والغرباء، كما تقول لورنا حيث لم يجبرها أحد على لبس العباءة أو الالتزام بالتقاليد العراقية ولم يعترض أحد ما صديقتها المعلمة الإنكليزية التي كانت تقطع شوارع بغداد بدراجتها.
واندمجت لورنا مع عائلة جواد وجيرانهما، وبالرغم من عدم معرفتها العربية، إلا أنها كانت تشترك في الحفلات( القبولي ) التي تقيمها أم جواد لجيرانها من النساء اللواتي أحببنها سريعا.
وجواد كأي فنان متحضر يحب الإستماع للموسيقى الكلاسيكية هو أصدقاء وكذلك لسماع الموسيقى الشرقية وبالذات المقام العراقي، واشترك هو ووزوجته كعازفين في فرقة بغداد للهارمونيك، بالرغم من أنه يعمل ويدرس في ثلاث أماكن لكسب عيشه في بلد غني مثل العراق. وشئ مهم أن تؤكد المؤلفة بأن لورنا سليم كانت من الفنانات الأوائل اللواتي رسمن النساء البغداديات وبالذات الشعبيات منهن، بائعات اللبن والحليب، اللواتي تراهن وهن يحمل الحطب وجرار الماء ويتراقصن بمشيتهن فرحات بملابسهن الريفية الملونة الأخاذة.فسحرها كل هذا وكانت تلاحقهن ويوافقن على أن ترسمهن في وقت لا يمكن فيه الحصول على موديل حي من النساء. وبتأثير جواد الذي كان يرسم الجوامع والمآذن ذات القباب الزرقاء والذهبية وكذلك النساء الشعبيات (ولوحة المرأة التي تحمل صندوق العرس والأخرى التي تحمل ماكنة الخياطة معروفة )، بدأت لورنا برسم البيوت البغدادية التي كان الأجانب يقبلون على شرائها.
أن أنعام كجه جي في كتابها أشرت على طبيعة العلاقة بين لورنا وجواد ليس كزوجين أوحبيبين وإنما كفنانين متنافسين أيضا، وبالرغم من أن لورنا تؤكد دائما بانها تاثرت بجواد إلا أنها تعمل على استقلاليتها الفنية، والجانب الشيق الآخر،هو المزج بين تفصيلات الحياة البغدادية وبين نضال جواد من أجل امتلاكه لشخصيته الفنية.
فقد كان يؤمن بان الفن لا يمكن حصره في المعرض أو المتحف وعزله عن المحيط وإنما يجب أن يلتصق بالناس. وبالرغم من أن الكثير من تصميمات ونماذج جواد النحتية قد رفضت من قبل بعض الشركات والمؤسسات أو من قبل مسئولي المصرف الزراعي الذين توجهوا له لنحت واجهته، إلا أنهم رفضوا نموذجه المقترح، ولم يخلق هذا إحباط في داخله، وكان يتغلب على الأمر بالتهكم والسخرية من اؤلئك الذين حاولن تضيق رؤيا الفنان وإفقه الواسع. ويطالب جواد ايضا بنقاء الفنان الذي لايمكن ان يصبح مبدعا إلا إذا رفض المخاتلة والنفاق والتظاهر والنميمة والحسد والجهالة والتفاهة الفنية.
وفنان مثل جواد يدعو دائما الى تطوير نفسه ومعاصريه من الفنانين ولهذا كان يتحمس دائما لتشكيل الجماعات الفنية مثل جماعة الرواد وغيرها لأنه يؤمن بأنها ستساهم في تطوير الوسط الفني وتخلصه من الركود، وتخلق منافسة فنية وإبداعية بين فنون مختلفة.
فمثلا أن العلاقة والصداقة الإبداعية بين جواد والمعماري محمد مكية، أكدت على طبيعة التلاحم بين النحت والمعمار فما كان يصممه محمد مكية كمعمار يترك فيه دائما فسحة ليملئها جواد بألوانه ومنحوتاته. وكان التعاون كبيرا عندما حقق كل من جواد والمعماري محمد مكية والمهندس رفعت الجادرجي نصب الحرية.

الملحمة العراقية في سماء بغداد الزرقاء
في فصل من الكتاب تحت عنوان آخر المطاف تحدثت المؤلفة عن كيفية انبثاق فكرة النصب الذي استطاع محمد مكية إقناع المسؤولين بعد ثورة 14 تموزبهذه الفكرة وتحمس لها رئيس الجمهورية أنذاك الزعيم المرحوم عبد الكريم قاسم، من أجل أن يرى العراقيين يوميا تاريخهم ومستقبلهم منحوتا أمامهم في واجهة كبيرة نصبت في ساحة التحرير وسط بغداد. فجواد الفنان والإنسان كان مهتما بمشاكل وطنه والتحولات التي رافقت الثورة والأخرى التي تعترضها. وعند مقابلة الفنان جواد لرئيس الجمهورية أيقن بأنه أعطاه مسؤولية كبيرة ليس أمامه فحسب وإنما أمام الشعب العراقي، واكتشف جواد بأن النصب سيكون ملك للشعب ويجب أن ينجز بإتقان إبداعي وبأسرع وقت. وتذكر المؤلفة الكثير من التفصيلات الدقيقة والمعاناة التي عاناها جواد سليم وزوجته التى رافقته الى إيطاليا لإنجاز النصب في الوقت المقرر. وكذلك المعاناة النفسية التي مر بها الفنان وهو يحاول أن ينجز منحوتة تاريخية ستبقى شاهدا على إنجازه الفني وعلى مستقبل العراق الذي ستجعل منه الصراعات السياسية أكثر غموضا.
وبسبب القلق والجهد المضاعف الذي بذله الفنان جعله بوضع نفسي صعب أدى به الى التصور بأن هنالك من يتآمر ضده لمنعه من إنجاز عمله، أو هنالك من يحاول اغتياله، فرقد في المستشفى إعياء. وتؤكد لورنا ذاتها في حوار مع المؤلفة بأن هذا كله كان أوهام غير حقيقية. وبالرغم من هذا فأن جواد أنجز منحوتاته ووصلت بغداد مشحونة من فلورنسا. وكاد الفنان أن يرى حلمه يتحقق وحينما بدأت القطع البرونزية الضخمة تعلق واحدة إثر أخرى على واجهتها المرمرية الضخمة التي أنجزها المعماري رفعة الجادرجي، لقد أهدى الفنان للعراقيين نصب الحرية الذي لم يتحمل قلبه إنجازه حتى النهاية. فالموت قاس لا يرحم، يصيب الفنان بنوبة قلبية ثانية وعلى أثرها يتوقف و نفقده نهائيا في كانون الثاني عام 1961 دون أن يرى حلمه يتحقق في سماء بغداد. ومن أجل هذا تتكفل زوجة الفنان وأصدقاءه وتلاميذه إنجاز النصب، فهي التي رافقته منذ البداية وتعرف جميع تفاصيل العمل بدقة متناهية. وتقديرا لجهودها واحتراما لإبداع زوجها يمنحها رئيس الجمهورية الجنسية العراقية. وبعد رحيل الفنان وإنجاز النصب شعرت لورنا بفراغ هائل إضافة إلى معاناتها هي وطفلتيها من شظف العيش، ولكنها سرعان ما تنقذ نفسها باكتشافها التفرد فيما إذا توجهت لرسم الشناشيل والمساجد والبيوت البغدادية القديمة بدقة زخرفتها المتناهية و بألوانها الترابية مما يمنحها بعدا تجسيد يا جديدا.

زهرة الأسرار
وببصيرة عارفة كانت الفنانة وكأنها ترسم عكس الزمن الذي يفرض تجديد المدينة فهي متشبثة بالماضي خوفا من ضياعه، فلم يعيقها صبية بغداد الذين يحيطونها مندهشين لرؤيتهم زوجة الفنان البريطانية تجلس وسط الشارع لترسم تلك التفاصيل الدقيقة للبيوت البغدادية ودون أن يمنعها أحد ما.
وبما أن الزمن تغير في بغداد وجواد لم يعد هناك فقد فارقها الى الأبد إضافة الى الظروف الإقتصادية الصعبة تقرر زوجة الفنان الرجوع الى بريطانيا وهي تحمل في داخلها حلمها الشرقي ممزوجا بتكنيك موهبة فنانها المتفرد وكذلك أحلام المدينة التاريخية. مما جعلها إنسانة وفنانة مختلفة عن جيلها من الفنانات في انكلترا. لهذا فهي مازالت حتى اللحظة ترسم بغداد أيام زمان والوجوه العراقية بالرغم من أنها تعيش في بيت ريفي وسط هضاب لانوفر ولم تأخذ معها من زوجها سوى لوحتين على عكس ما أشاعه بعض الخبثاء، لأن لوحات الفنان بيعت في حياته حتى الرسمان المائيان اللذان تركهما جواد غير مكتملتين عند وفاته، أخذهما الأصدقاء، مثلما اختفت من مكتب عمله لوحة بيعت فيما بعد الى أحد جامعي أعماله حسب المؤلفة التي لم تنسى في آخر كتابها أن تجعل من أصدقاء وزملاء الفنان المعاصرين له شهودا لإبداعه الفني مثل الفنان فائق حسن، محمد مكية، لميعة عباس عماره، رفعة الجادرجي، محمد غني حكمت.
لم تعتمد المؤلفة على تتبع سيرة لورنا وعلاقتها بجواد سليم فقط ولم تعتمد أيضا التحليل الفني والأكاديمي لتمايز فنان مثله، وإنما مزجت هذا بتلك الأحداث الحياتية الصغيرة وجمعت بين حياة الفنان ومشروعه الفني وبالذات الملحمة العراقية أي ملحمة جواد سليم، مما أضفى السلاسة والحيوية والطابع الشعبي، فالمؤلفة كانت تنتقي الكلمات الشعبية ذات الطابع العام مما جعل أسلوبها شفافا ومحببا، وهذا منح الكتاب قبولا من شتى المستويات الثقافية، فهو لا يهم الفنانين فقط، وإنما يمنح القارئ النبيه متعة الإطلاع والقراءة عن بغداد في زمانها ألهني. والكتاب بالرغم من أن هدفه كان هو الكشف عن عالم لورنا إلا أن روح جواد سليم الفنان والإنسان تمنحنا دفئها وتتوهج بين صفحات الكتاب ( لأنه ربطها به حتى آخر أنفاسها ) وكأنه منحها زهرة الأسرار.
أن هذا الكتاب يأسر القارئ لأنه يتحدث بصدق عال وحرقة داخلية عن الهمس الداخلي في روح لورنا سليم وهي تنظر مروج وهضاب لانوفر البريطانية بعيدة عن شمس العراق، لكن ذاكرتها مهتاجة بالماضي فيتراءى لها جواد سليم من بين الضباب مما يذكرها دائما ببغداد. وبالرغم من الشتاء الضبابي فأن الجدة لورنا سليم من خلال رسومها تستعيد حرارة الشمس البغدادية المتألقة والحنين العراقي في ذلك البلد الذي لا يمكن أن تنساه أبدا، أنها ذاكرة الفنان الثاقبة.

وأهمية وجدية العمل الذي أنجزته المؤلفة أنعام كجه جي في كتابها عن لورنا وجواد سليم في ذات الوقت، يدفعنا إلى إعادة النظر باحترام فننا ومبدعيه ومنحهم كل الامكانيات من أجل تحقيق المستقبل الفني في العراق، ويدفع وزارة الثقافة الى العمل منذ هذه اللحظة على إعادة الاعتبار للفنان جواد سليم الذي لم يكافئ على ملحمته، التي مات من أجلها، إلا بثلاثة آلاف دينار، أما عائلته فلم تكافئ إلا براتبه التقاعدي المكون من 26 دينار. أما نحن فيدفعنا هذا الامر الى التمني على وزارة الثقافة ووزيرها النشيط والمتجدد مفيد الجزائري أن تبادر بإقامة متحف جواد سليم والعمل على فتح صندوق باسمه لتشجيع الفنانين الشباب في اقامة معارضهم وممارسة ابداعاتهم الفنية المستقبلية.

كوبنهاكن شمال الكوكب/ مخرج وباحث مسرحي
fasoudani@maktoob.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف