غرفة السماء لميس العثمان: متى نصعد إلى الحياة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"المرأة ليست شخصية من شخصيات الرواية فقط، إنما هي الرواية ذاتها". هكذا تستهل الروائية الكويتية ميس خالد العثمان روايتها "غرفة السماء" الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وقعت الرواية في 93 صفحة من القطع الوسط، وتوزعت في ستة فصول.
تطل الرواية على زمن دخل في عتبات النسيان، زمن أيام الغوص في دول الخليج العربي عامة والكويت خاصة، موظفة لذلك أجواء تلك الأيام بتفاصيلها ومصطلحاتها وبعض عاداتها، عبر قصة حب انتهت بأخذ البحر للحبيب.
أحداث الرواية وشخصياتها ليست بغريبة فهي مازالت تعيش بيننا بشكل أو بآخر، على الرغم من ان زمن الأحداث يعود إلى عام 1935م، وفي مكان ما من الكويت، يمكن تحديده بـغرفة على سطح بيت في "الخويمة" المتمددة على شاطئ البحر، هناك حيث يقع بيت الراوية وبطلة الرواية آمنة.
الرواية عبارة عن استعادة امرأة لذكريات غابرة، حيث يبدأ كل شيء أمام بيت قديم، ويبدأ الزمن بالغوص في الوراء ملقيا الضوء شيئا فشيئا على الحكاية، عبر بوح توجهه الراوية لحبيبها ابن السقا سلمان.
إنها حكاية عادية لا غرابة فيها ولا عجائب، بسيطة سلسلة يقطعها بين الفينة والأخرى أحداث تدفع القارئ ليدرك تفاصيل تخص المرأة البطلة، وتخص في الوقت عينه خصوصيات لنساء خليجيات يحافظن على إطار العادات والتقاليد بشكل أو بآخر، ومن خلال هذا الإطار يواجهن أيامهن ومصيرهن وسلوكياتهن. ولا تنسى بعضهن انتقاد هذا كله، لأنهن ببساطة يجدن أنفسهن يسحقن تحت وطأتها وسياطها التي لا ترحم. لذا يمكن أن نجد الجدة نورة متسلطة على زوجها وعلى أهل بيتها، ونجد بدرة تقبل بالزواج من العم إبراهيم بعد وفاة زوجته، عله بذلك يتمكن من محو ذكرى زوجته الأولى. فلا يمحو غياب المرأة سوى امرأة أخرى.
إنها حكاية أناس متعبين من الحياة (23)، أو حكاية بنت لم نعرف إذا صارت امرأة أو لا، بنت تحكي قصة حبها لشاب لم تكن تلتقيه سوى بالليل، وشاءت الأيام أن يذهب في رحلة من رحلات الغوص عله بعد العودة يتزوج بحبيبته، غير ان البحر الذي يأخذ الطيبين شاء أن يأخذه إليه، ويأخذ في الوقت نفسه إبراهيم وسعود عمي البطلة، وقبلا اخذ والدها عبد الله، البحر يأخذهم إليه دون شاهد قبر يمكن البكاء أمامه أيام العيد.
إنها حكاية موت متلاحق رتيب، إلا ان الموتى لا يذهبون بل يجتمعون في غرفة على سطح احد البيوت، هناك حيث تستعيد البطلة خلقهم فتحاورهم وتشكو همومها لهم وتلقي عليهم السلام.
الحب هو المحرك الخفي الذي يشعل وقود هذه الروائية، فهو من: أيقظ المرأة التي بداخل البطلة آمنة، وهو من يجعلنا نخوض المعارك لنكون مع من نحب، ويجعلنا نثور على العادات والتقاليد ونسعى جاهدين لسحقها أو لتغييرها، وهو الذي ينسينا يتم الأم والأب والآلام والأوجاع، وهو الذي يجعلنا نبكي وننكسر ببعد فقد من نحب.
آمنة، مزنة، بدرة، نورة، فضة، منيرة، سارة، المطوعة فاطمة، هيلة، وغيرهن من النساء، اسماء لنساء اجتمعن في الرواية، البعض منهن لعبن دورا بارزا وبعضهن الاخر جاء دورهن عابرا.
نساء لم تقدر الروائية على اغناء وجودهن، تاركة أحيانا بعض التفاصيل تعبر دون رصدها ومنحها السرد الكافي، ولعل ما يبرر لها ذلك هي تركيزها على بوح بطلتها، بوحها لحبيب يسكن السماء.
ولدت آمنة يوم تأكد وفاة والدها عبد الله في البحر، وأمها مزنة لم تستطع صبرا على فراق زوجها فآثرت اللحاق به. وهي تحب بالسر ابن السقا سلمان.
عمها مبارك يحافظ بإخلاص على صورة الرجل الشرقي الذي لا ترد له كلمة، والفارض اضطهاده الذكوري على زوجته وأهل البيت، مسببا لزوجته فضة فقدان الصوت لشهرين رعبا بعد أن أوسعها لطما. وعمها سعود هو الآخر يربط زوجته منيرة بعمود الليوان عقابا لها على ضربها بدرة بالدلو الحديدي الصدئ. أما جدتها فبقيت محافظة على جبروتها، وضربات عصاها على الأرض طوال الرواية، ولا تحفي البطلة كرهها لجدتها التي "طالما امتدحت جدتي نورة نشاط والدتي رحمها الله، أكدت أنها كانت أفضلهن في الطهي بل أنشطهن حركة واستعدادا للعمل، وبقيت أشعر أنها كانت أكثرهن تنازلا وطاعة لها" (22).
آمنة تعيش خسارات فادحة، قاسية، فالموت تضخم لدرجة صارت تخاف من خيالها لئلا يذهب بها بعيدا. فتسأل "ما معنى أن تعيش ثمانية عشرة عاما دون أن تفتح فمك بكلمة مع أمك؟" (23)، وتواصل تساؤلاتها في آخر الرواية فتقول: "أين تذهب الأصوات بعد رحيل أصحابها؟ وفي أي سماء تحلق؟ وأين يتركون روائحهم؟" (90)، إلى أن تصل للحقيقة المؤلمة "الموتى يأخذون كل شيء معهم ولا يتركون لنا سوى الفقد الذي يشعرنا بحقارة الموت، ليؤكدوا لنا، أنها الحقيقة الوحيدة في حياتنا" (91).
لعل غنى الرواية الحقيقي هو المقدرة على توظيف الكثير من المصطلحات الشعبية القديمة المناسبة لزمن الرواية ومكانها والمتعلقة مباشرة برحلات الغوص، فنقرأ مثلا: الليوان، والمّدة، والزبيل، الرواشن، الكتّاب، التنور، أبو ذيات (من انواع الشعر الشعبي)، السفرة، البوشيه (غطاء للوجه)، العمارية (سقيفة هرمية الشكل مصنوعة من الخوص)، ورد وهيل (نوع من الحلويات)، دار الجيل (غرفة لتخزين المواد الغذائية)، ديرمة ورشوش (من ادوات التجميل)، الزهاب (الطعام المعد للرحلات)، الدشّة (بداية رحلة الغوص وتستمر أربعة اشهر)، زهيرية (نوع من انواع الغناء الشعبي)، الملالة (سلة من الخوص تعلق عاليا لحفظ الاطعمة بعيدا عن الحشرات)، مالَدْ (حفلة تردد فيها الأدعية والتواشيح)، المحمل (الأسطول البحري وتعود ملكيته للنوخذة : ربان السفينة).
فهذه المصطلحات التي جاءت ضمن سياق السرد منحت الرواية ثباتا أكثر في الزمن والمكان اللذين حددتهما الرواية منذ البداية، وقد تمكنت الروائية أن تجعل كل هذا ينساب في نسيج الرواية ببساطة ودون تكلف، كما وظفت كذلك بعض النصوص الشعرية الشعبية للغاية نفسها.
"غرفة السماء" التي شاءت أن ترصد زمنا ما زال عالقا في ذاكرة الإنسان الخليجي، شاءت أيضا أن توصل رسالة ما زال هذا المجتمع يعتبرها من المحرمات، وهي "الحب"، هذا الحب الذي ينمو بالسر ويموت أحيانا كثيرة بالسر.
شاءت أن تبوح بكل هذه المشاعر والعواطف غير آبهة بردات الفعل التي من الممكن أن تنتقدها، وتقف ضدها.
ويبقى أن نسأل أخيرًا: لماذا مجتمعاتنا العربية والخليجية طوال تاريخها تقمع الحب؟ وبمعنى آخر: هل بات النزول من "غرفة السماء" إلى "غرفة الحياة" وشيكا؟. وهل بات خروج الحب إلى ضوء النهار ممكنا بعد أن كانت القداسة تلفه في الليل؟.
أسئلة نطرحها والخوف كل الخوف أن ننتظر الإجابة عليها بعد مئة سنة قادمة.
في 15 آب 2004
Kamelsaleh@hotmail.com
* شاعر وصحفي لبناني
له: في الشعر: كناس الكلام. في الرواية: جنون الحكاية. ودراسة: الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي.