صلاح عبد الصبور شاعر الألم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بورتريهات بألوان الشجن: عن مثقفين قتلهم الإكتئاب (4)
ينبئنى شتاء هذا العام أننى أموت وحدى / ذات شتاء مثله ذات شتاء/ينبئنى هذا المساء أننى أموت وحدى / ذات مساء مثله ذات مساء / وأن أعوامى التى مضت كانت هباء / وأننى أقيم فى العراء/ينبئنى شتاء هذا العام أن هيكلى مريض /وأن أنفاسى شوك/ وأن كل خطوة فى وسطها مغامرة/ وقد أموت قبل أن تلحق رجل رجلاً/ فى زحمة المدينة المنهمرة" إنها المرة الوحيدة التى لم يصدق فيها حدس الشاعر صلاح عبد الصبور فهو لم يمت فى الشتاء بل مات فى أقسى شهور الصيف، بالضبط فى 14 أغسطس 1981 وهو مازال يطرق أبواب الخمسين (مولود فى 3 مايو 1931 )، مات بالفعل فى المساء ولكنه لم يكن وحده بل كان وسط أصدقائه المثقفين، رماه أحدهم بكلمة طائشة، "* لفظ قاتل /لفظ ذو ألف يد تلتف على عنقى /ذو ألف لسان تنفث سماً /أو لفظ يردينى... لاقطرة دم/والسكين الألفاظ تشق اللحم/وأظل أسائل ماذا تعنى فى خاطرك الألفاظ /ألفاظ قاتلة فى رفق.. خالصة الكفين من الدم/أشياء تافهة هى عندك... ألفاظ"، لم يحتمل وأسلم الروح، إتهمه رسام الكاريكاتيربأنه "باع نفسه بمليم" لأن إسرائيل إشتركت فى معرض الكتاب الذى تشرف عليه الهيئة التى يرأسها، خمدت جذوة عينيه الواسعتين وهما تطلان على ملامح المشهد الدموى العبثى الذى يتحول فيه المثقف إلى بومة تنهش أحشاء صديق رقيق كانت كل جريمته أنه إنسان لم يدع قط النبوة، تنهش محجر العينين الحزينتين كأمهات الصعيد، الصافيتين كبسمة طفل، الحنونتين كحضن أم، تستلذ بطعم الفم الذى ماكان ينشد إلا للحق والخير والجمال، وتلتهم فتات القلب الذى إنكسر عندما إنكسر الوطن فلم يعد ينبض إلا بالألم، حاصرته الإتهامات كالرصاص الطائش فذبح من الوريد إلى الوريد فكان بحق شهيد قسوة المثقفين الباطشة الجاهلة كما كان حبيبه الحلاج شهيد قسوة السلطة الغاشمة الجاهلة، "*فمضى كما يمضى ملاك /وتكورت أضلاعه، ساقاه فى ركن هناك /حتى ينام /من بعد أن ألقى السلام. "
مثقفون لايعرفون التسامح
[ ولم تكن تلك المرة الأولى التى يهاجمه فيها بعض المثقفين الذين لايعرفون معنى التسامح وقبول الآخر وخاصة مبدع وفنان فى حجم صلاح عبد الصبور ، طلبوا منه أن يكون جيفارا فى زمن غير الزمن وفى وطن يتسول فيه الشاعر الحقيقى كسرة الخبز !، لم يهمنى أن يكون صلاح عبد الصبور جيفارا بل كل ماهمنى هو أنه أول من ذرفت الدمع الحقيقى على عتبة قصيدته "أحلام الفارس القديم " وأول من ضحكت معه على عبثية رحلتى ومصيرى فى "مسافر ليل "، وأول من شعرت حياله بتفاهة ألامى وضآلة أحلامى حين جسد لى صلب الحلاج بكلماته، كان هذا الشاعر والرجل الجميل الذى نسج لنا بكلماته كل هذا البناء الشعرى العبقرىضحية سلوكيات المثقفين التى تغلب عليها الإنتهازية أحياناً وعشق الإيلام أحياناً أخرى والحقد والغيرةدائماً، فعلى سبيل المثال كان بعضهم من أعز أصدقائه يتجسس عليه ويحكى لنا صديقه فاروق خورشيد هذه الحكاية فيقول أن صلاح إتصل به صباح ذات يوم وإندهش فاروق من توقيت المكالمة فهو لم يفارقه حتى الرابعة صباحاً، ولكن سرعان ماتبخرت الدهشة حين قال له صلاح"تصور كل حديثنا بالأمس جاءنى به تقرير من مدير الأمن فى المؤسسة، تصور كل كلمة وكل إشارة قد تم تسجيلها " وتنهد وأطلق زفرة ألم وقال"حتى الأصدقاء.. حتى رفقة العمر. ماذا بقى لنا إذن؟!.
[ ولم يكن موقف معرض الكتاب هو الأول فى قائمة الخصام بين أعز الأصدقاء وبينه بل سبقته وقائع متشابهة أبرزها عندما تولى صلاح عبد الصبور رئاسة تحرير مجلة الكاتب بطلب من يوسف السباعى بعد تغيير أسرة تحريرها وفى مقدمتهم أحمد عباس صالح وعبد العزيز الأهوانى وعبد المحسن طه بدر، وقد إعتبر المثقفون وخاصة أهل اليسار قبول صلاح لهذا المنصب تنازلاً وتفريطاً وخيانة وعمالة لنظام السادات، وأخذوا يشجبونه ويدينونه ويسخرون منه فى أحاديثهم على المقاهى والصالونات، وتفرق عنه الجميع وعانى صلاح كثيراً حتى يقنعهم بموقفه وبأن صفحات المجلة مفتوحة لهم، ورفض الجميع التعاون معه فيماعدا القليل وكان من بين هذا القليل نجيب سرور وأمل دنقل، وأخذ صلاح يطرق الأبواب ليتسول المقالات ولكن بلاجدوى فقد تركوه فى العراء يقاتل وحده، وماتت مجلة "الكاتب" بالسكتة التجاهلية ولم تنفع معها العناية المركزة فالأطباء كانوا فى السرادق يقهقهون ضاحكين، وقد صدقت ياصلاح ياعظيم حين قلت "*الناس فى بلادى جارحون كالصقور" وأستميحك عذراً فى تغيير كلمة واحدة فالمثقفون فى بلادى هم الجارحون كالصقور.
الصراع بين الموظف والمثقف
[ ويقودنا ماسبق ذكره إلى بحث علاقة المبدع بالوظيفة والتى جرت على صلاح عبد الصبور كل تلك العداوات وخلقت كل ذلك الإحتقان فى علاقته بالأصدقاء، وهذه قضية متشعبة ومعقدة فالمبدع هنا فى مصر تستهلكه بديهيات الحياة من طعام ومسكن ومواصلات... الخ، وتنهك قواه وتستنفذ أعصابه قضايا تافهة تسرق إبداعه بل تسرق عمره ذاته، وفوق هذا وذاك تضغط على أوردته وشرايينه وأعصابه الإبداعية قوى ساحقة تدوس علىمخه وتعصره وتدخله المفرمة تارة بإسم الرقابة وتارة بإسم الأخلاق وتارة بإسم مصالح الوطن العليا.. الخ، وبعد كل هذا وذاك مطلوب منك أن تبدع، ولأن الشاعر بنى آدم قبل أن يكون مبدعاً ومطلوب منه البحث عما يسد رمق الأسرة قبل البحث فى هارمونى القصيدة، ولأنه مغموس فى ذلك الهم تشكل ذلك الصراع مابين المثقف والموظف فى داخل كل مبدع، والمشكلة أن صلاح عبد الصبور لم يعمل فى بلاط صحيفة نفطية ولا فى مركز أبحاث صهيونى بل عمل فى مؤسسات وطنه وكلنا نعرف أنها تمنح مجرد الستر، وقد تحدث البياتى عن هذا الصراع الذى عاناه صلاح عبد الصبور فقال"محاولة الجمع بين الشاعر والموظف تثقل كاهل أى إنسان، وكنت قد وجهت مراراً وتكراراً نقداً إلى صلاح، وكان صلاح ذكياً يدرك أبعاد اللعبة ولكنه كان يقف عاجزاً أحياناً أمام معادلة الحياة الصعبة "، وقد كتب صلاح نفسه عن تلك العلاقة وقال"إن إحساس المثقف الحقيقى بكرامته يفوق تصور الكثيرين، لذلك فالبيروقراطية تحاصر الصفوة وتعزلها عن الفاعلية، وهكذا نجد أن هناك صراعاً ضارياً: البيروقراطية تريد أن تفرض الموت على المفكر والشاعر، لكنها لاتستطيع ولذلك فهى تحاول أن تخدع المفكر، إنها تقول له :أنا معجبة بأفكارك ومشاعرك، وتحاول بذلك إستغلال المفكر فيتحول إلى كلب حراسة للمصالح البيروقراطية "، وبالرغم من أنه كان موظفاً إلا أنه لم يكن قط حارساً لمصالح السلطة البيروقراطية وكثيراً ماإصطدم مع هذه السلطة، وإن كانت درجة الصدام لم تصل إلى حد تلغيم الجسد وتفجيره فإنه على الدوام لم يصل أبداً لدرجة خيانة الإبداع، وكانت أخطر صور ذلك الصدام فى بدايته الشعرية عندما صودرت مجلة الآداب اللبنانية ومنعت من دخول مصر وكان السبب قصيدة لصلاح عبد الصبور فيها عبارة "ذو الأنف المقوس والندوب " وفهمت تلك العبارة على أنها إشارة للرئيس عبد الناصر، وحضر سهيل إدريس صاحب المجلة ليبحث عن حل لتلك المشكلة، وإستطاع مقابلة عبد الناصر بطريقة ما ويحكى سهيل ويقول "قدم لى عبد الناصر العدد الذى نشرت به قصيدة صلاح وقال لى :أنا تنشر عنى ذلك؟، فقلت له سيادة الرئيس أنت تعرف الشعراء ولم أفهم أنه يقصدك أنت، فإبتسم عبد الناصر ولم يقل شيئاً ولكن عينيه كانتا تقولان :أنت تعرف، وأنا أعرف، ووعد برفع الحظر عن دخول الآداب إلى مصر"، وبالطبع هذه الحكاية لها مغزى آخر ليس هنا مكان مناقشته بالتفصيل وهو أن زبانية النظام فى وقت عبد الناصر كانوا ملكيين أكثر من الملك.
من هو صلاح عبد الصبور؟
[ ولكن من هو هذا الشاعر الذى حظى بالحب بعد الرحيل وزرع فينا إحساس الندم وتأنيب الذات بعد فوات الأوان؟، هو محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكى، المولود فى شارع الحمام فى حى كفر الصيادين بمدينة الزقازيق، وهو الأخ الثانى لستة أشقاء، ترجع جذور أبيه إلى الصعيد وكانت طبيعة عمله فى وزارة الداخلية تفرض عليه التنقل، ووالدته السيده إعتدال عثمان الباجورى والتى كانت متعلمة وتتمتع بحديث عذب وحنان جارف كانت هى النافذة الأولى التى أطل منها صلاح على جنة الشعر، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية فى صيف 1947قدم أوراقه لكلية الطب حسب رغبة أبيه ولكن صلاح سحب أوراقه وتقدم للكلية الحربية، ولكن حال بينه وبين تحقيق تلك الأمنية الفلات فوت الذى رسب بسببه فى الكشف الطبى، فإلتحق بكلية آداب القاهرة قسم اللغة العربية فى خريف نفس العام، وعلى مقهى الطلبة فى الزقازيق تعرف على أصدقاء الشباب مرسى جميل عزيز وأحمد هيكل وأحمد مخيمر والشاب النحيف الذى كان يكبره بعامين وتخرج لتوه من معهد الموسيقى وكان إسمه عبد الحليم شبانه أو حافظ فيما بعد، وطلب عبد الحليم حافظ من صديقه صلاح أغنية يتقدم بها للإذاعة وسيلحنها له كمال الطويل، وكانت قصيدة لقاء التى تقول :
منذ عامين إلتقينا هاهنا والدجى يغمر وجه المغرب /وشهدنا النور يخبو حولنا
فسبحنا فى جلال الموكب/كانت الذكرى عزائى زمناً
يوم فارقت مجالى لمحاتك/كنت إن داعب القلب الشجنا
أتعزى بليالى ذكرياتك/لست أنساك غراماً فى دمى
ومنى عمرى وآمال غدى.....
[ وكانت تلك هى الأغنية الأولى والأخيرة لصلاح عبد الصبور وكأنه كان يودع الشعر التقليدى ليبدأ السير فى طريق جديد تماماً تحمل فيه القصيدة بصمته الخاصة وصوته الأثير، زرع الألغام فى غابة الشعر التقليدى الذى كان قد وقع فى أسر التكرار والصنعة ولكنه كان يفعل ذلك للبناء وليس للهدم، لتشكيل جسد القصيدة التى لاتحتاج إلى الموسيقى الصاخبة المجلجلة لأن جمهورها لم يعد فى الساحات بل فى البيوت، ووسيلة تلقيها لم تعد الأذن بل صارت العين نافذة العقل والروح، وجلالها وقدسيتها لم تعد جلال وقدسية الغرض الذى تتحدث فيه بل جلال وقدسية الصدق الذى نتنفسه داخل القصيدة حتى ولو كانت تتحدث عن العادى والتافه فى حياتنا "* ياصاحبى إنى حزين / طلع الزمان فماإبتسمت ولم ينر وجهى الصباح/ وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح /وغمست فى ماء القناعة خبز أيامى الكفاف /ورجعت بعد الظهر فى جيبى قروش /فشربت شاياً فى الطريق / ورتقت نعلى / ولعبت بالنرد الموزع بين كفى والصديق / قل ساعة أو ساعتين / قل عشرة أو عشرين / وضحكت من أسطورة حمقاء رددها الصديق/ ودموع شحاذ صفيق "، وإنفجر البركان بصدور ديوان "الناس فى بلادى "فى سنة 1957، ولم يصدق الجميع، إنه يتحدث عن الناس اللى بحق وحقيقى وليس الناس الذين لانراهم إلا فى أبيات القصائد، وقامت القيامة كيف يتحدث شاعر عن شرب الشاى ولعب الطاولة وترتيق النعل وكأن هذه الأفعال أفعال خارجة قبيحه، وكأن الشاعر كائن خرافى يهبط علينا من كوكب آخر مطلوب منه أن ينسج لنا عالماً ملوناً مخملياً حتى ولو أحسسنا بأن خيوطه من زيف وألوانه من كذب وملمسه من نفاق.
[ وبدأ صلاح عبد الصبور فى طرق ابواب جديده أيقظت البعض من سباتهم العميق وأقلقت البعض على مصير عروشهم التى كان قد أكلها السوس، فصدر ديوان أقول لكم 1961، أحلام الفارس القديم 1964، تأملات فى زمن جريح ورحلة فى الليل 1970، شجر الليل 1972، ثم الإبحار فى الذاكرة 1979.
صلاح عبد الصبور ليس شاعراً حزيناً
[ وكما أصدر الدواوين تولى صلاح شرح مشروعه الشعرى وتقديمه بنفسه للناس فى كتابه البديع "حياتى فى الشعر " وكأنه كان يخاف على مشروعه أن تشوهه أيادى العابثين، وكان همه الأول فى هذا الكتاب أن يدفع عن نفسه تهمة الحزن والتشاؤم والسلبية التى كان يدمغه البعض بها، فالتيار النقدى الغالب وقتها كان تياراً يتناول الشعرمن منظور دوره الإجتماعى ويتعامل معه على أنه سلاح ثورى لابد أن يحتوى على نماذج إيجابية ثورية مشرقة، وكان صلاح عبد الصبور فى فترة ديوانه الأول متأثراً بالماركسية إلى حد كبير، وكانت معركته مع نقاد اليسار بعد ذلك هى التى وضعت النهاية الحاسمة لذلك التأثر وتلك العلاقة، ويرد صلاح عليهم فيقول"يصفنى نقادى بأننى حزين، ويديننى بعضهم بحزنى، طالباً إبعادى عن مدينة المستقبل السعيدة بدعوى أننى أفسد أحلامها وأمانيها، بما أبذره من بذور الشك فى قدرتها على تجاوزواقعها المزهر إلى مستقبل أزهر، وقد ينسى هذا الكاتب أن الفنانين والفئران هم أكثر الكائنات إستشعاراً للخطر، ولكن الفئران حين تستشعر الخطر تعدو لتلقى بنفسها فى البحر هرباً من السفينة الغارقة، أما الفنانون فإنهم يظلون يقرعون الأجراس، ويصرخون بملء الفم حتى ينقذوا السفينة أو يغرقوا معها "، ويستمر شاعرنا فى توضيح موقفه قائلاً "لست شاعراً حزيناً، ولكنى شاعر متألم، وذلك لأن الكون لايعجبنى ولأنى أحمل بين جوانحى كما قال شللى شهوة لإصلاح العالم ".
الشاعر والوجودية
[ وقد ساهم فى التعجيل بالقطيعة مع الماركسية تأثره الشديد بإليوت الذى سنتحدث عنه فيما بعد والذى كان الماركسيون يصفونه بالشاعر الرجعى، وقد عبر صلاح نفسه عن بداية هذا الشك فى تعليقه على كتابات جارودى حينما قال"إنها تعبر عن حدث هام وهو تواضع الماركسية الذى ألجئت إليهلكى تحتل مكانها كتفسير إقتصادى لتاريخ الإنسان، لاكنظرية شاملة أو كعقيدة تحكمية، أو ديانة جديدة "، ورحل صلاح عبد الصبور من أرض الماركسية ليحط رحاله على أرض الوجودية، وبدأت مرحلة أخرى مليئة بالقلق والسؤال والتى تجلت فى ديوانى "أقول لكم " و"أحلام الفارس القديم"ومسرحيتى "مأساة الحلاج و"ليلى والمجنون"، وقد ساهم فى تعرفه على مفردات هذه الفلسفة بدر الديب وهو الصديق الذى ساهم بشكل كبير فى تشكيل ثقافة صلاح عبد الصبور الفلسفية والشعرية أيضاً، "*بلاظل بلاصليب/الظل لص يسرق السعادة /ومن يعش بظله يمشى إلى الصليب فى نهاية الطريق "، هكذا صور لنا الشاعر إحساس السأم المعاصر، وقد قسم د. شكرى عياد وجودية صلاح إلى مرحلتي، الأولى وجودية متفائلة فى أحلام الفارس القديم، والثانية وجودية متشائمة فى ليلى والمجنون وصلت إلى قمتها السوداء فى مسرحية "مسافر ليل"، ولنستمع معاً إلى أصداء مرحلته الأولى فى أكثر قصائده تفاؤلاً "أغلى من العيون" وهو يقول "*عيناك عشى الأخير / أرقد فيهما ولا أطير / هدبهما وثير / خيرهما وفير / وعندما حط جناح قلبى النزق / بينهما / عرفت أننى أدركت/ نهاية المسير.... أى كون طيب يحيطنا / حين نكون وحدنا معاً / أى كمال لم يشاهد مثله / أى جمال /الله عادل بنا/ والكون خير مايزال/ والناس شفافون كالخيال"، ثم نشاهد بعدها مسرحيته العبثية مسافر ليل والتى تنتمى إلى الكوميديا السوداء، والتى يوجه فيها الكمسارى الطاغية الإتهام إلى المسافر المسكين بأنه قتل الله وسرق بطاقته الشخصية والحقيقة أن الكمسارى هو الذى يحاول القتل وأخذ المكانة ولعب نفس الدور، وتستمر المسرحية فى منحنى متصاعد يمعن فيه الطاغية فى الذل، ويمعن فيه المسافر فى تقديم أدلة البراءة، والنتيجة عملاق يتشكل ديناصوراً أمام قزم ينسحق حشرة!!.
[ وإذا كان صلاح عبد الصبور قد تأثر فى إتجاهه الوجودى بأستاذه "أبو العلاء المعرى"الذى يعتبره أعظم شاعر عربى، فقد تأثر فى مسرحه الشعرى بأستاذه "ت. س. إليوت " والذى كان إكتشاف صلاح عبد الصبور له بمثابة الكنز الذى جعله لايخشى المغامرة فى الشكل ولاالجسارة فى اللغة ولاالتنويع فى الموسيقى ولااللجوء للأساطير والأقنعة والنهل من كافة ثقافات العالم، كتب صلاح خمس مسرحيات شعرية هى "مأساة الحلاج "1964 و"مسافر ليل "1969 و"الأميرة تنتظر" فى نفس العام ثم "ليلى والمجنون" فى العام الذى يليها، ثم آخر مسرحياته "بعد أن يموت الملك "1973، وأعتقد أن هذه المسرحيات هى أهم مسرحيات شعرية فى تاريخ المسرح العربى كله، فشوقى وعزيز أباظه وحتى عبد الرحمن الشرقاوى وكل من حاول كتابة المسرح الشعرى من قبل صلاح كان يقع فى أسر الغنائية، كانت عيونهم على الشعر وليس على الدراما، أما صلاح عبد الصبور فقد كانت كتابته الدرامية على نفس مستوى كتابته الشعرية، وساعده على ذلك قراءاته المتعمقة فى المسرح والتى نستدل عليها من مقالاته النقدية المتعددة والتى حفرت مجرى جديداً ومغايراً لنهر الشعر العربى، وكان الشعر المسرحى عند صلاح هو روح تسرى فى عروق المسرحية قبل أن تكون قافية مفتعلة، فكانت البداية مع الحلاج والصراع بين السيف والكلمه، ومسافر ليل التى أشرنا إليها من قبل، والأميرة تنتظر الأميرةالتى فسرها النقاد بأنها الوطن الذى لابد أن يمارس الكبرياء فى كل لحظة حتى ولو كان الثمن هوالعيش على قمة جبل الجليد"*ياإمرأة وأميرة /كونى سيدة وأميرة/لاتثنى ركبتك النورانية فى إستخذاء / فى حقوى رجل من طين / أيا أفضل ماكان / وغداً أو شهماً / عملاقاً أو أفاقاً / ولتتلقى ألوان الحب ولاتعطيه /إضطجعى مع نفسك /ولتكفك ذاتك "... ، وليلى والمجنون سعيد الحائر بين حلم الحب الممكن وحلم الحرية المستحيل "*إنى أتعلق من رسغى فى حبلين /الحبلان صليبى وقيامة روحى/ الحرية والحب/ والحرية برق قد لايتفتق عنه غيم الأيام الجهمة / برق قد لاتبصره عيناى، وعينا جيلى المتعب/ لكن الحب يلوح قريباً منى".... ، أما خاتمة مسرحياته فهى بعد أن يموت الملك والتى لايحتاج فيها الطاغية إلى الشاعر إلا ليخصب زوجته الملكه وبعدها يقتله، إنه نموذج لكل الطغاة الذين يعانون من العقم فيمارسون السادية "* مادمت أنا صاحب هذى الدولة/فأنا الدولة، أنا مافيها انا من فيها/ أنا بيت العدل وبيت المال وبيت الحكمه / بل إنى المعبد والمستشفى والجبانة والحبس ".
[ والمسرح الشعرى ليس هو وجه الشبه الوحيد بين صلاح وإليوت فقد سجل صديقه بدر توفيق نقاط تشابه أخرى عديده مثل أن كليهما كان مسئولاً عن دار نشر، كلاهما كان محباً للسفر، أخفق كلاهما فى زواجه الأول، لكليهما خمس مسرحيات، وكلاهما مارس التدريس والصحافة، واخيراً كلاهما وصم بالرجعية و إتهم بأن الشعر عنده ليست له غاية وهدف، ويتساءل صلاح نيابة عن إليوت ثم يجيب، هل للفن غاية بشرية؟نعم ولكن غايته هى الإنسان لاالمجتمع، هل للفن غاية أخلاقية؟نعم ولكن غايته هى الأخلاق لاالفضائل، هل للفن غاية دينية؟ نعم ولكن غايته هى الإيمان لاالأديان.
الله والحب عند صلاح عبد الصبور
[ وإنطلاقاً من هذا السؤال عن الغاية الدينية للشعر نتساءل نحن بدورنا عن علاقة صلاح بالله وليس هذا من باب التفتيش فى الضمائر ولكنه تقرير لما كتبه الشاعر بنفسه عن هذه العلاقة، وهذه من المرات النادرة التى يتحدث فيها مبدع عن تفاصيل تلك العلاقة، فإيمان شاعرنا ليس ذلك الإيمان السهل الذى يكتفى بالمعتقد الدينى الموروث وكفى ولكنه رحلة بحث وكشف وتأمل فقد كان فى صباه كما يقول "متديناً عميق التدين "حتى أنه كان أحياناً يصلى ليلة كاملة ليصل إلى المرتبة الصوفية وقد وصل فعلاً لمرحلة الوجد والتى إعتقد أهله معها أنه على حافة الجنون، ولكن كل هذا لم يمنحه السكينة، وولد الإنكار فى نفسه بعد تخرجه من الجامعة وقراءته للفيلسوف نيتشه، وظل هذا القلق طويلاً إلى أن وصل فى النهاية لشط الإيمان عن إقتناع ومجاهدة ولنقرأ ماكتبه فى سيرته الذاتية عن محطة وصوله الإيمانيه"إن الله لايعذبنا بالحياه، ولكنه يعطينا مانستحقه، لأنه قد أسلمنا الكون بريئاً مادة عمياء نحن عقلها فماذا صنعنا به على مدى عشرات القرون، لقد لوثناه بالفقر والإستعباد والطغيان"، ويستكمل مابدأه قائلاً "لقد أصبحت الآن فى سلام مع الله، أؤمن بأن كل إضافة إلى خبرة الإنسانية أو ذكائها أو حساسيتها هى خطوة نحو الكمال، أو هى خطوة نحو الله، وأؤمن بأن غاية الوجود هى تغلب الخير على الشر من خلال صراع طويل مرير، لكى يعود إلى براءته، التى ليس براءة غفلاً عمياء بل هى براءة إجتياز التجربة والخروج منها كما يخرج الذهب من النار وقد إكتسب شكلاً ونقاء، إن مسئولية الإنسان هى أن يشكل الكون وينقيه فى نفس الوقت، وليس سعيه الطويل إلا محاولة لغلغلة العقل فى الماده، وخلق كل منسجم متوازن يقدمه بين يدى الله فى آخر الطريق، كشهادة إستحقاق على حياته على الأرض".
[ وإذا كان طريق الوصول إلى الله هو الحب فماذا عن الحب نفسه عند صلاح عبد الصبور؟، يرد علينا الشاعر نفسه فيوجز قائلاً "*لأن الحب مثل الشعر ميلاد بلاحسبان / لأن الحب مثل الشعر ماباحت به الشفتان / بغير أوان / لأن الحب قهار كمثل الشعر / يرفرف فى فضاء الكون لاتعنو له جبهه/ وتعنو جبهة الإنسان/ أحدثكم بداية ماأحدثكم عن الحب"، ولكن هل الحب فعل آلى تتحكم فيه أزرار الريموت كنترول؟ أم أن القلب الكسير المتعب بالسؤال المريض بالقلق ليس من السهل عليه أن يمارس الحب؟"*أشقى مامر بقلبى أن الأيام الجهمة / جعلته ياسيدتى قلباً جهماً/ سلبته موهبة الحب/ وأنا لاأعرف كيف أحبك/وبأضلاعى هذا القلب "، وعلق الشاعر نثراً على ماكتبه شعراً وقال "الشعر والحب مثل الخنجر ذى الحدين، حين غرست أحدهما فى قلبى غرست الآخر، وقد كان الشعر جرحى وسكينى حين عرفت أن أتكلم جملة مفيدة، كان حلم حياتى أن ألبس قميص الجنون الشعرى حتى يوضع على جبينى غكليل غار من الزهر الغالى الثمين، وهاأنذا بعد كذا من السنين ليس على جبينى إلا بضع زهرات رخيصة، ولقد راهنت رهان فاوست لاعلى المعرفة بل على الإحساس، كان لابد أن أدور كالنرد على المائدة وأظل أدور حتى ينكشف وجهى عن الرقم العظيم، وكانت المائدة هى قلبى وهى قلب المرأة التى عشقتها، وهى قلب الحياة ".
[ وهاهو صلاح عبد الصبور يودعنا بعد أن ترك أمام ديارنا تلك الباقة من الحب، وتلك الرغبة فى نشر الخير، وتلك اللمسة الحانية الحاضنة، وتلك البسمة الطيبة المشجعة، وها نحن نتساءل هل سامحنا صلاح؟ هل صفح عنا؟ أم مازال قلبه ينزف وصوته يتهدج وأنفاسه تختنق وحنجرته تصرخ رافضة التصديق، للأسف كان صلاح رجلاً عظيماً يتأمل فى زمن جريح "* كان يريد أن يرى النظام فى الفوضى/ وأن يرى الجمال فى النظام/ وكان نادر الكلام/ كأنه يبصر بين كل لفظتين /أكذوبة ميتة يخاف أن يبعثها كلامه /ناشرة الفودين مرخاة الزمام/ وكان فى المسا يطيل صحبة النجوم/ ليبصر الخيط الذى يلمها/ مختبئاً خلف الغيوم/ ثم ينادى الله قبل أن ينام/ الله هب لى المقلة التى ترى / خلف تشتت الشكول والصور / تغير الألوان والظلال / خلف إشتباه الوهم والمجاز والخيال/ وخلف ماتسدله الشمس على الدنيا/ وماينسجه القمر / حقائق الأشياء والأحوال"
ملاحظة* مقتطفات من أشعار صلاح عبد الصبور