أجوبة استفتاء إيلاف الشعري(4)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
فاضل الخياط: تصحير اللغة و شعرية الحكي
" في زمن الدكتاتورية يتساوى كل شيء لانه لا وجود لاي شيء"
لوي التوسير
***
رافق هذا الامر قرارات مشابهة من ديوان الرئاسة لا تقل فجائعية عنه، بما يعبر عن استخفاف بدوي سمج بالفسحة المتيسرة من حرية العيش الشخصي. نجد امثلة على ذلك في فترة بداية حرب العراق – ايران والذي شرعت فيها الحكومة قانونا يلزم جميع العراقيين بطلاء واجهات بيوتهم باللون الاصفر، كايحاء دلالي، ربما، على نقاب امنا الطهور، الصحراء. ولعل تجفيف الاهوار، وتدمير الالاف من القرى الكردية يصب في الاتجاه ذاته.
***
كان التدبير اذن واضحا وجليا، تصحير الحياة والذي لا يكتمل الا بتصحير اللغة، باعتبارها اس الوجود والهوية الثقافية، اكثر من كونها وسيلة تواصل، اذ انها غالبا ما تخفق وتتعثر في هذا المسعى الاخير، لكنها، بصفاء ويسر ، تعكس ماهية الوجود للفرد على ما يذهب اليه جاك بيرك" لا تصلح الغة للتواصل بل للوجود". وهذا ما كانت تدركه سلطة البعث وسلطات المد القومي بامتياز، والذي نجد مداليله في الكم الهائل الذي يتماثل مع بعضه حد الموت في الاهازيج والمدائحيات واناشيد الحرب التي رافقت عهد صدام.
***
بدون هذا التماثل او التناسخ او التصحير اللغوي لم يكن لسلطة البعث ان تمرر شرعيتها، او تبرر استمرارها،الى الابد، او لثلاثمئة عام كما صرح مرة صاحب الجب، بالنهج ذاته، لغة واحدة وقائد واحد لا شريك له، " اذا قال صدام قال العراق " على حد تعبير الشاعر المدلل للرئيس.
كانت اللغة في زمن ا لبعث وسيلة الهية باهرة للتواصل وليست هوية للوجود.
***
هنا تصبح اللغة تماثلا وتناسخا مكرورا، اذ ان ما يكثـّر اللغة وينميها هو نشاطها اليومي الذي ينساب في مسالك الحياة ويتم تدوينه ليصير ذاكرة جماعية للشعوب، وهو امر مألوف وسائر في حياة البشر اجمعين اللهم الا في حياتنا نحن العرب الاقحاح، اذ تنتهي كل "مسوداتنا" الكلامية الى الضمور والزوال، مثل بريد في سفينة غارقة.
***
واذا كان الشعر هو التقاط كلام المارة، فان هذه الفضيلة متعذرة على الشاعر العربي الذي يذهب نتاج مارته الشفاهي طي الرياح وينمحي ويندثر بانمحائهم واندثارهم .
***
في عصر الفصاحة القومية وتعريب الحياة، كان تدوين الكلام محرما كجناية كبرى.
***
وقد جاء التاسع من نيسان كتهديم شمولي ـ وكل تهديم لوضعنا العربي الحالي هو خير وبشارة امل ـ ليس لسلطة سياسية فقط بل لنموذج حياة وسبل تعبير ونمط انتاج، ولعل مقولة الرئيس بوش تحمل توصيفا مطابقا للواقع الذي كان يعيشه العراق : "لم يكن صدام شخصا واحدا، كان عشرة اصابع تمسك بخناق المرء". واذ تزاح او تفكك هذه الاصابع عن الرقبة الهزيلة المترنحة لابينا الجليل، فان فضاء رحبا بالتاكيد سيرمي ضياءه على بلد لم يكن يوما ما لاهله ولا لساكنيه . ستكف اللغة عن كونها وسيلة تواصل لتصير سبيلا للوجود.
***
كان انهيار الصنم العراقي ايذانا بدحرجة اصنام كثيرة من حوله ، وعهدا جديدا لانبلاج لغة جديدة، بلا رقباء ولا عسس ولا فقهاء، لغة لا تتحرج ولا تتخوف ولا ترائي، تتجول بامان بين الشفاهي والمدون، لغة تنهل من كلام العابرين وصمتهم، ، من الارث الثقافي "اللارسمي" الذي كان وقودا لارباب القحط وطعاما لجرذان الخراب. فالحياة تصنع لغتها بالقدر ذاته الذي تصنع به اللغة الحياة.
***
ظهور مثل هذه اللغة ، كفيل وحده بان يجعل التعامل مع مولدات الكلام الشفاهي على شيء من الشفافية والتساهل بل المباركة، سيصبح فضاء اللغة ارحب، وطواعيتها ايسر، حينها فقط ، سيتوقف الشاعر العربي عن الكتابة بما "يتعلمه" الى الكتابة بما "يعرفه"، وسيكف عن ارقه المتولد عن كونه يعيش ازمة ازدواج لغوي تبدأ حين يدرك، بخيبة السراب ، في اول يوم مدرسي، ان لغة " الام" لا تسعفه هاهنا في نشاطه المعرفي، وعليه، اذن ،ان يشرع في تعلم لغة ثانية، العربية.
***
يتنهي تصحير اللغة عندما نبدأ شعرية الحكي، الكلام.
ويتوقف الاستبداد عندما لا تكون هناك لغة لنقله.
مدينة سدني، السابع عشر من نيسان، لخمسة اعوام بعد الالفية الثانية. الموافق لثمانية ايام بعد الذكرى الثانية لتاريخ انهيار نظام صدام.
***
عبد العظيم فنجان: الشاعر تولد انزياحاته معه
استلقي على قفاي من الضحك حين ارى انه لاذ اخيرا في حفرة، تحت الارض، مثل وليه، ولايهمنى ان كانت تلك الحفرة مصطنعة او حقيقية، بقدر ما تهمنى فكرة اصطياده: انها قصيدة مجنونة فعلا: الشاعر الذي لا نظير له، بطل العالم، الكبير، المخلّص، الملاك... ولذلك انا متلعثم: لم اكتب، منذ سقوط النظام ولحد الان، الا خمس قصائد، وانا المعروف بغزارتي: القضية بسيطة: لقد اثبت انهيار النظام صحة رؤاي: "الشعر شيء اكبر من الشعراء - جورج صاند "
اعتقد ان الشعر محاولة فردية، حميمية، وخاصة جدا، وان الشاعر يولد وتولد معه انزياحاته الخاصة، ومقارباته الخاصة للأشياء، وانها حين " تتغير " تتغيير ليس بتاثير مباشر من الخارج، وانما هي عملية داخلية صرفة، قد يمسها تأثير نظام ما اجتماعي او ثقافي او.. ومع ذلك تبقى خاضعة لجوانيات الشاعر اكثر من أي شيء آخر.
***
المشهد اليوم يحجبه مهرجون يتناقزون بين المصاطب وبين القصائد
1
حين لف الجند جبلهم الغليظ حول رقبة التمثال تهاوى أب أُوديبي كان ينتصب في لاوعي الضحايا.
أبٌ زائفٌ افترش مكانا له عنوة في الخيال.
بالزيف ايضا غشنا آباءٌ معلومون قبل ان نكشف احابيلهم التي تعكزوا بها ومازالوا- يجهدون- على العامة كأباطرة شعرٍ مضحكين باتوا وجها لوجه أمام فتيان الشعر العراقي قائلين لكل منهم: تلك عورتك أيها الامبراطور!
2
ليست الحرية التي ينعم بها المغادر أسوار منظومة الديكتاتورية العربية هي ما ينعم بها الشاعر العراقي اليوم. فكائنات شتى مازالت تعكر لذة مابعد السقوط بالرغم من هذا الكم من الصحف وملاحقها الثقافية في العراق، فصدمة الحرية وما ترتب عنها من مجانية النشر وغياب النقد اللا مجامل جرّأت مستجدّين في الشعر (كانوا ومازالوا) يواصلون تسيّدهم المشهد (شيوخهم في الديكتاتورية شيوخهم بعد السقوط) مزيحين، بكذبة كبيرة، شعراء ركنوا لعزلتهم وكسلهم (هربا من زملائهم التعبويين) منذ وقت ينتظرون يداً رحيمة تدنو لنتاجهم المعزول.
المشهد اليوم يحجبه مهرجون يتناقزون بين المصاطب وبين القصائد. كانوا قد تعبوا من النقز بين مآدب الديكتاتور بقادسيته وأم معاركه وميلاده الذي عادوا ملبين دعواته ململمين عدة النقز حين ناداهم قبل سقوطه. وبالعدة ذاتها يحجبون المشهد الشعري لاعبين على حبال تتواصل بين الداخل والخارج كآباء جدد، مستاءين من فتية الشعر العراقي (المجهولين) ان يشيروا اليهم بقصيدة تبطل أحابيلهم.
3
مازال السياسي يقود الثقافي والعلمي والاجتماعي والديني كحمير في بُركة آسنة. فبات جلّ مايصدر عنهم صدىً للسياسي.
4
بهجتي بموت الدولة الوطنية لديّ، بعد مغادرتي جغرافيتها، فاقت ماوفره سقوط الديكتاتور. اذ تزامن ذلك الموت (الوطني) مع تغييرات مهمة اثرت تجربتي واوقفتني على قدمين راسختين.
5
تحررالعراقيون من الديكتاتور قبل سنتين وتحرر الشاعر من رقيب يمسك هراوة تعبوية عند بوابة القصيدة. فمتى تتحرر اللغة؟
***
لم أشعر بوطأة الغربة خلال فترة منفاي التي قاربت ربع القرن مثلما شعرتُ بها خلال السنتين الأخيرتين، فحينما كنت أشاهد سقوط تمثال صدام حسين على شاشة التلفزيون كان سؤال واحد في ذهني وهو هل أنا حقاً عراقي؟ وظل هذا السؤال يلاحقني خلال هاتين السنتين وفي كل مرةٍ أرى عراقيتي تنحسر شيئاً فشيئاً خاصة بعد أن أتيح لي الحديث والنقاش مع مَنْ بقي هناك ومن بينهم أهلي. لقد اكتشفت أن الهوة التي بيننا كبيرة ودونما وعي مني بدأت أتلبس ثوب الانتماء إلى العالم. لذا أجدني اليوم رافضاً لكل ما جرى متفقاً مع الأمين العام للأمم المتحدة على أن الحرب على العراق لم تكن شرعية خاصة بعد أن تكشف زيف كل الادعاءات والذرائع الأمريكية على شنّها.
أين الشاعر إذن؟
أنا على يقين بأني سأكتب في السنوات القادمة ضمن هذا المفهوم الجديد. أما عن النظام العراقي السابق المتمثل بصدام فلم يكن يوماً يشكل لي هاجساً شعرياً بل على العكس لقد طردته من زمان. أما النظام الذي سيأتي إلى العراق فأنا أعلن منذ الآن طرده من شعري بل هو الذي سيطردني لأني لن أكتب لطمياتٍ حسينيةً ولا أدعية كُميلية.
أخيراً أقول إني خلال السنتين الماضيتين لم أكتب قصيدة واحدة وكتبتُ روايتين... هل لهذا مغزى؟.. أنا لا أدري