غالوري الفنون

اللحظة الشعرية سينمائيا

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"نهار واحد فقط" للأمريكي ريتشارد لينكلاتير

مرة أخرى تثبت السينما قدرتها على التقاط اللحظة الشعرية وتسجيلها بأدواتها التعبيرية الخاصة، على الرغم من الصعوبات التي تفرضها تقنياتها المعقدة والتي تحيل أحيانا دون صناعة فيلم يعتمد أساسا على نقل الأحاسيس الداخلية ومشاعر الشخوص التي تتصف دائما بحساسية مفرطة. بكلام أخر، صعوبة نقل عالم رومانسي سهل الوصف كتابيا، الى شريط يحتاج الى أكثر من لحظة مكثفة والى أكثر من حدث، وهذا يفسر بدوره لجوء كثير من الأفلام العربية والهندية، على وجه التحديد، الى خلط الحالة الرومانسية بحراك درامي "منفوش" تأخد الكاميرا مساحتها الكافية في نقل أحداثه التراجيدية، أو الكوميدية، متجنبة بهذة الوسيلة حصر الحكاية ببطلين يعيشان حالة حب خاطفة، قد لا تدوم سوى برهة عابرة من الزمن، كحكاية فيلم "نهار واحد فقط" للأمريكي ريتشارد لينكلاتير. هذا الفيلم مثال على نجاح السينما في تبسيط أدواتها وملائمتها لعلاقة غاية في العفوية والسهولة يصعب معها اضافة أي حدث جانبي اليها وبالتالي يصبح تسجيلها رهانا خطرا على القدرات التمثيلية والأخراجية وبالدرجة الأساسية على كتابة الحوار وعذوبته.

صة فيلم "نهار واحد فقط" تكملة لفيلم لينكلاتير السابق "مساء واحد فقط" الذي أنتج عام 1995، ويحكي قصة العلاقة العابرة التي جمعت بين الشاب الأمريكي جيسي (أيتان هاوك) والفتاة الفرنسية سيلين (جولي دلبي) في قطار متجه الى العاصمة النمساوية، فينا، ليقضوا بعد وصلهم اليها، مساءا كاملا في الكلام والتعارف، فيميل بعضهم الى بعض، وتنشأ علاقة رومانسية سريعة، كان لا بد لها ان تنتهي، بسفر كل واحد منهما الى بلده. وقتها تواعدا على لقاء ثان بعد ستة أشهر، وحدداه في نفس المكان. لكن هذا اللقاء لم يتم، لأنهما ببساطة لم يتبادلا العناويين ولا أرقام الهواتف. كانا شابيين مندفعي العواطف ومتحمسين. لكن بعد تسع سنوات سيلتقي الحبيبان في باريس لعيشا مجددا علاقة حب خاطفة لا تدوم سوى 80 دقيقة ( زمن مساو لطول الفيلم الحقيقي). من المهم التنبيه هنا الى أن "نهار واحد فقط" كتب كفيلم مستقل، يجده (من لم يشاهد مساء واحد فقط) فيلما متكاملا، لأن سيناريوه الجديد كتب على مستويين متوازيين، الأول يعيد الماضي كصورة خيالية والثاني يتابع الزمن الحاضر (الواقعي) الذي يستغني عن أعادة أحداث الماضي، لكنه سيتعين بالحوار، كنوع من "الفلاش باك".

في مكتبة صغيرة في أحدى شوارع باريس يجلس جيسي بين مجموعة من الصحفيين يجيب على اسئلتهم ويوقع روايته الصادرة حديثا. إذن جيسي صار كاتبا مشهورا والأعلان عن توقيع كتابه في الصحف هو الذي دل سيلين على مكانه. من خلف زجاج المكتبة حيث تقف وتنقل نظراتها، بفرح ممزوج بكآبة رومانسية، الى الرجل الذي جاءت لملاقاته حسب موعدها معه ولكن بعد تأخر طويل .. تأخر دام تسع، سنوات غيرت الكثير.
من هذة اللحظة سيتحول الفيلم الى لعبة حوارية تتصاعد لتشكل التطور الدرامي الكامل للفيلم مصحوبة بحركة كاميرا هادئة تبدأ معهم في جولتهم الباريسة التي يقترحها جيسي قبل أقلاع طائرته الى نيويورك. وما دام الفيلم برمته يعتمد على الأحساس الداخلي وتقلباته، لم يأبه المخرج بالمنظر الخارجي، فكانت جولتهم في باريس غير السياحية، في مقهى عادي يبدأ كلام شبه عام، تعريفي.. جيسي لجأ الى الكتابة وأشتهر بها وهي صارت من المختصين بعلم البيئة، حوار يعكس أهتمام كل واحد منهم ويعكس تجربته ورؤياه الى العالم. جيسي الأمريكي لا يفكر سوى بالكتابة لذاتها، لا أفكار كبيرة ووعود بتغير العالم. سيلي تكره الرأسمالية وتريد لنفسها دورا في تحسين العالم وبيئته. يسميها شيوعية وتلمح هي الى فرديته. من المواقف الفلسفية ينجر الحديث بحذر الى الماضي الى اللحظة التي ألتقيا فيها قبل تسع سنوات، كانا مثل طيرين لا تتسع لهما الأرض، الجنس، اللهو والسفر كانت أولوياتهم، واليوم العالم ومشاكله. بين المتنزهات تبقى الكاميرا على مستوى حركتها، تنتقل بتنوع عفوي من لقطات قريبة وبعيدة دون تسلسل محسوب، تماما مثل كلامهما، ولكن تغيرا في قوة تعبيرها التصويري يبدأ مع دخولهما في التفاصيل الدقيقة. جيسي الأن متزوج ولديه ولد. حياته الزوجية باردة وفاشلة، لاجديد فيها سوى الطفل. وهي وحيدة، رغم معاشرتها رجلا فرنسيا مثقفا. الكاميرا تنتقل الى النهر في جولة هي السياحية الوحيدة. القارب والمياه ينقل الحوار الى حميمية أكبر والخجل السطحي يبدأ بالتلاشى ليحل محله حديث عن الحب، عن العشق عن اللحظة العابرة التي غيرت حياتهما. أنه البوح. سيعترف جيسي أن روايته التي وقعها اليوم كانت عنها، كتبها عن حبهما الذي طال مساءا وحدا. هي لم تعرف الحب بعده مع أي رجل كان! لقد الغى هذا اللقاء/ الأندفاع الرومانسي كل رغبة في أقامة صلات جديدة. وأن حدثت بعد سنوات فأنها لن تحمل نفس الدفعة والشحنة العاطفية الأولى. في كل لحظة تذكره بموعده والمطار، يصر هو على البقاء معها، يوصلها الى بيتها وفي غرفتها يعرف أنها تعزف الموسيقى وتكتب كلمات أغانيها. نزولا عند طلبه لسماع واحدة منها، غنت، عرف أنها تحكي قصة لقائهما الأول في فينا، هذة المرة لم تغضب لما آلت اليه هذة العلاقة كما فعلت داخل السيارة قبل وصولها الى البيت، ولكنها ستذكره بسفره، بنبرة حزينة وقاطعة: ستفوتك الطائرة إذا أردت سماع كل الأغاني. فيجيبها: أعرف ذلك!. هذة النهاية الشجاعة التي وضعها المخرج، ونعني بها عدم أنجرافه لحل سهل، أوأختياره نهاية سعيدة لعلاقة حب مؤثرة، تطلبت تمهيدا دراميا داخليا شديدة الحساسية، نجح الممثلان في نقله، ورفعا بفضله مستوى الفيلم كله ليصبح قصيدة بصرية، تمس شغاف القلب. حركة كاميرا بسيطة وكلام مكتوب بطريقة ذكية أقرب الى الكلام العادي بين رجل وامرأة، تتخلله تنويعات موسيقية وضعته في مستوى الشعر، ووضعت الفيلم أيضا في هذا المستوى الذي تسري فيه حالة الرومانسية مثل تيار كهربائي خفيف ومؤثر الى النفوس، أنها ببساطة حالة شعر حقيقة.. وأيضا، حالة فن سينمائي معبر.


أسم الفيلم: نهار واحد فقط
سيناريو وأخراج: ريتشارد لينكلاتير
تمثيل: أيتان هاوك، جولي دلبي
أنتاج: أمريكي عام 2

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف