قص

أشعث أغبر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حكايةٌ لم تُوثّق كاملةً في ذاكرةٍ ما، تأتي كالريحِ بِلا موعد.. تفرّقت على ألسن عِدَّة، روتها الطُرُقُ والأشجارُ.. والغيم.. لكن لا نفقهُ قولَهُم. حاولتُ جمعَ تفاصيلها بحياديّة، إلاّ أننا معها لا نستطيعُ البقاء في البين، لابدَّ أن نميل. وتظلُّ هي تُروى... كلّما حلَّ بالأرضِ جدب.
سنطرقُ بابها ببعضِ ما قالهُ القادمُ من الغربةِ الدكتور الشاعر صالح بن عبد الله:

«كـ مَسيرٍ لم يُرتَّب لسَبْرِ طريقهِ.. انسابَ الدمُ من رأسهِ، بعدَ أن سقى شعرَهُ الكثّ، مختلطاً بماءِ المطرِ المندلقِ..عابراً إلى الأسفلِ..دربهُ على الجبين.. في الجهةِ المقابلةِ بدا جليّاً على دهشتِهم وركودِ كروشهم المبتلـَّة خزيٌ يوارونهُ بهمهماتٍ لا تُفهم، أما هو فكان يقفُ بابتسامةِ القوي المنتصر.. يوجّه كلامهُ إلى الأعلى: "لنعد أصدقاء يا الله"، وانصرف مهرولاً تحت المطرِ كحصانٍ أهلكهُ العَطَش، يقصدُ مضمارهُ البعيد، يرتوي في طريقهِ بقرارِ السماء الجديد، يشاركُ الأرض فرحةَ الماء، ويُذَكِّرها بآمالٍ قديمةٍ تمخَّضها حديثُ السَّفَر..»

البداية كما روتها جدّتي:

"المطر وحده من يتحكّم باستمراريّة وجودنا في القرية، وإذا كانت القريّة قد مرّت بفتراتٍ قليلةٍ من المَحْل، فسنواتُ الأمطارِ المستمرّة تُعوّضهم ذلك وتنسيهم العناء الذي كابدوه، وتَزرعُ على قبورِ الذين قضوا فيها.. العشبَ والنسيان.
تلكَ السنة منذُ بدايتها كانت على غيرِ العادة.. قال لي جدّك أن "الهَبَل" وحدهُ من تنبأ بذلك.. حينَ سألوهُ عن سرِّ توقفهِ عن الحرث، أجابهم:
- إنّ هذهِ السنة.. فرّت من تقويمِ جهنّم، لن أُتعبَ نفسي بحرث الأرض..
بعدَ أيّام طردهُ الشيخ عبد الله من المزرعة وحرمهُ من أجرِ الأيام التي عملها في ذلك الشهر.."

الهبل.. على لسانِ العجوز سامر:

[لقد حكى لي عن رحلاته، وعن حياتهِ التي قضاها متنقلاً بين القرى والفيافي. أنا لا أجزم بجنونه لكنَّ أمراً ما جعلني أشكّ في سلامة عقله، حيثُ كنَّا منهمكينَ بالعملِ بمزرعةِ الشيخ، كانَ يكلّمُ نفسهُ كثيراً وعندما نسألهُ كان يقول أنهُ يتحدّث معَ اللهِ بشأنِ أمورٍ تخصّه، ضحكنا عليه، وشاعَ في تلكَ الفترةِ أنهُ يكلّمُ الجِنّ، ومما قيل عنه أيضاً: مشعوذ، وأنهُ لا يستطيع دخول المسجد بسبب الشياطين التي ترافقه، عندما سألتهُ عن ذلك، قال أنه يتعامل مع الله مباشرةً.. ليسَ ملزماً أن يقفَ مأموماً خلفَ شيخٍ لا يرى أبعدَ من كرشه.]

بعد عدّةِ محاولاتٍ مع جدّي كي يتحدّث عن "الهبل" وعن تلك الأيام.. قال:

{بدأ الجوعُ ينخرُ عمقَ البيوت، ولأنَّ المحصولَ في العامِ الذي سبق ذلك أقلّ مما اعتدنا عليه، ولأنّنا لم نتعرف على الجوعِ جيّداً في السابق.. لم نتعلَّم التوفير..
لم يرحل البؤسُ عن قريتنا حتّى نفدت أكثر من نصف الدواب، وكلّ الأطفال الذين وُلدوا في ذلك الوقت. وقبل أن يغيب "الهبل" رجمهُ الشيخ بحجرٍ شجَّ رأسه..}

اعتذرَ جدي عن إكمال القصّة مدّعياً النعاس، والصحيح أنهُ لم يعد يتذكّر الأحداث جيداً.. فقد تجاوز فيما قاله الكثير مما حصل.

قمتُ بدعوة الشيخ عيسى بن عبد الله إلى العَشَاء، وخلال حديثي معه عن القرية سألته عن "الهبل" فأجاب:

(قالَ لي والدي -رحمهُ الله- أنّ "الهبل" أتى هارباً من قريةٍ قصيّة.. بعدَ أن حُكم عليه بالموت، أقامَ في "عريشٍ" مهجورٍ بقريتنا ولم يغادرها، وبعد أيَّام خرجَ بهيئةٍ رّثة بحثاً عن العمل، ولأنَّ والدي -رحمهُ الله- كانَ ذا قلبٍ مؤمنٍ عطوف.. استخدمهُ كمزارع.. لكنَّ بقاءهُ في المزرعةِ لم يَطَُل، بعدَ أن تقاعسَ عن العمل وظهرت تصرفاتهُ المريبة.كانَ يحادثُ نفسهُ وعندما يُسأل يجيب بأنهُ يتكلم مع الله –أستغفرُ الله- يتجرّأ على خالقهِ بما لا يليق. بقي في القرية، أطلقوا عليه لقب "الهَبل" بعدَ أن تبيّنَ للجميعِ جنونه.. غادرَ القرية بعد سنةٍ ونصف من مجيئه. يقولُ والدي-رحمهُ الله- أنّهُ غادرَ بعدَ أن تجرّأ مقتحماً مجلسَه في مساءِ أحدِ الأيام وأخذ يلتقطُ الجمرَ الملتهب بيدهِ ويرمي بهِ إلى السماء.. وهو يتحدّى الله قائلاً: "أقسمُ عليكَ يا الله أن تُنزل المطر، و إلاّ.. لأحرقنَّ سماءك".
أستغفرُ الله..أعوذُ بالله من غضبِ الله...)

آخِرُ كلامِ العجوز سامر:

[بعد أن حلَّ البلاءُ في القرية وقضت أكثر من نصفِ أنعامِنا بسببِ الجوعِ والمرض، اختفى الهبل عن الأنظارِ لفترة، كنا نظنّ أنَّه سئمَ القحطَ و واراهُ الجوعُ في طرقِ الترحال.. لم نعد نراهُ في القرية. أمّا حالتنا فقد انتقلت إلى الأسوأ، مات بعض مُسنِّي القرية، لدرجةِ أنّنا كنا نصلي على ثلاثةٍ كلّ أسبوع، وأما عِليةُ أهلِ القرية فقد كانوا يجتمعون في دار الشيخ، لهم متكأٌ في باحةِ منزلهِ، يشعلونَ النار ويحتسونَ القهوةَ، يتجاذبونَ الحديث، عن القرى المجاورة، وحنينهم للحياة القديمة.. وعن أكياسِ الحبوب والطعامِ التي تصلهم ويتقاسمونها فيما بينهم..
بعد أن ضاقَ بنا الحال، ولم نعد نرى ولا نسمعُ سوى خطوات الموتِ تتنقّل من منزلٍ إلى آخر.. عاد "الهبل" فجأةً.. وجمع الناس في الوادي ليصلّي بنا صلاة الاستسقاء، لكن الشيخ قطع علينا ذلك، وقال أنَّ الصلاة لا تجوزُ خلفَ المجانين وإذا أديّناها فنحنُ إذاً لآثمون.. فتفرّق الجمع.
مساءَ ذلك اليوم هطلَ المطرُ.. ومُذَّاك غاب "الهَـبَل".]

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف