الموتى لا يشعرون بالملل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وَحدهُ الموت أخر المغادرين لهذه الغرفة الباردة، أو ربما من يفترض تواجدهم يحومون فوق هذه الجثة الباردة المغبّرة الذابلة. ركّز نظراته أكثر بنظرة الغير مصدقٍ لما حدث، ذهول وشرود يغطي ملامحه، ما لبث وأن تغيرت باتجاه الاستسلام، فالأموات يغادرون ممتطين نسمات الهواء مسرعين في الفراغ.
لم يكن الحديث واردًا مع الجثة في إطار محسوس، غير أن تأمله لها جعله يتوهم بأن فكرة الحوار معها حادثةٌ لا محالة في هذه الأجواء القابلة المسكونة بالصمت والمثيرة لعلاقته بكل شيء. أصر على الحوار ليكون أخر ما يتحدث به معه، فهي المرة الأخيرة التي يراه فيها، قرر أن يسأله ويجيب نيابة عنه في صدى نفسه، يعرفه جيداً ويدرك تفكيره والبعد الذي يصل إليه، أحس بحزنه قبل فرحه، عاشا سوياً اقتسما رغيف الفقر، شاهدا طيور الأحلام تحلق بعيداً، متأملين أن تعود ذات يومٍ تغرد في المكان، لذا سيجيب عنه، يعرف طفولته وطموحه وكل شيء.. كل شيء.. فهو مؤهل للإجابة عنه.
كيف تكون البداية، عيناه ثابتتان في محيط الجثة يتأمل الرأس وخصلات الشعر الأبيض الذي باغته في الفترة الماضية، تأمل الأيدي التي عملت في مهن كثيرة فيبست وتشققت كي لا تمتد بسؤالٍ يشده حبله العوز، تأمل الأرجل التي حملت هذا الجسد الباهت الآن ليكون صامداً شامخاً لا يذل.
بدأ الأسئلة التقليدية المملة، جاءت بدايةً، معتبراً أن الموتى لا يشعرون بالملل، فهم مقبلون على أسئلةٍ كثيفة، ولا ضير أن أجاب على أسئلته:
-لماذا غادرت الآن؟
-كنت لا أريد، كنت متشبثاً بها، لكنها تخلت عني، لم أجد مبرراً لتفريطَها.
-أين أنت الآن؟
-هل تصدق إن قلت لا أعلم، الصورة غير واضحة، أنا في هلامية عجيبة، ما أعرفه أنني لست معكم.. بعيدٌ؟، لا أعرف.. قريب؟.. لا أعرف.
-عقب لحظات تسكن قبراً.. هل يعتريك الحزن؟..
-مابك.. أنا لست في هذا الجسد الذي تتأمله.
-لكنك ستعود إليه لتكون في الحفرة الأبدية
-لا أعرف.. إلى الآن أنا حر طليق.
-هل تخاف الحساب؟
-لا تحدثني بهذا الأمر الآن.. رجاءً.. لن أجيبك لأنني لا أعرف.
-إذاً ماذا أفتح في هذا الحوار.. أخال نفسي سأجن بسببك.
-أنت من يريد هذا الفخ، لا أسمع إلا أنت.
-كيف عرفت أنك ستموت؟
-هي ومضة وترى أفق الموت يحيط بك. كنت أظن أننا نعيش لأن الموت في خمول حياته يتذكر أناساً يمارس مزاجية خاصة في قطف ثماره. من يريده من أمثالنا يغرب عنهم يتركنا لعذاباتنا وقهرنا نكتوي من الحياة..لا لستُ أظن ذلك أنا متأكد. تذكرني فجأة دون مقدمة وجدني أمامه، لعله كان يسير في دربٍ أخر فلمحني فأيقن أنني لا أستحق الحياة، وجد البؤس في ملاحي، فلم يرتح لذلك، ليأخذني في دربه.
لم يصل إلى نتيجة، أحس ببرودة تزحف إلى أطرافه كأنها اجتازت الجثة لتصل إليه، حاول إيقافها بفرك يديه دون جدوى، توهم باقتراب شيءٍ منه، يريد تطويقه، لعله هو يريد تقبيله على الحوار، بانقضاضه عليه، لم يركض خوفاً أن يلحق به...فمن يفر من الموت يمسك بزمامه حتماً.
قاص يمني