نجيب محفوظ يحلم بـ"جريتا جاربو" في باريس "احلام فترة النقاهة": عين ترصد الواقع من خلف ستارالحلم وتتساءل ماذا جرى؟
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"احلام فترة النقاهة" هي الاحلام التي يراها نجيب محفوظ في منامه، وبسبب عجزه عن الكتابة بعد اصابته في محاولة لاغتياله علي يد احد المتطرفين عام1994 يقوم حاليا بتمليتها علي مساعد، وتنشر تباعا في المجلة المذكورة، وهي تعتبر نوعا جديد من الكتابة الروائية، اقرب مايكون الي الحكاية او القصة الرمزية، وشكل روائي جديد علي نجيب محفوظ الذي صدر له حتي الآن اكثر من 40 رواية و300 قصة قصيرة، ويرتبط اسمه- كما يذكر محمد سلماوي في مقدمة الكتاب- بتطور فن الرواية في مصر، والمكانة الرفيعة التي بلغتها في العالم العربي بفضل اعماله، كما في رواية " اولاد حارتنا"، والتي حصل بها علي جائزة نوبل عام 1988، وكرست تاريخيا مع غيرها لرصد حالات المجتمع المصري وتقلباته السياسية واوضاعه وطبقاته الاجتماعية، وبلغت قمما سامقة في التصوير والوصف، جعلت السينما العربية والعالمية تنهل وتقتبس منها الكثير، ومازلنا -نضيف من عندنا- مازلنا نتذكر الروائع السينمائية التي قدمتها واعتمدت علي رواياته، مثل " بداية ونهاية" بطولة عمر الشريف وسناء جميل وفريد شوقي وامينة رزق للمخرج المصري الكبير الراحل صلاح ابوسيف، كما اقتبس ذات الرواية المخرج الارجنتيني ارتور روبنستين وقدمها في عمل سينمائي"باروكي" متميز، وفيلم "اللص والكلاب" للمخرج المصري الكبير الراحل كمال الشيخ بطولة شكري سرحان وشادية، ويعتبر دورها في هذا الفيلم من اعظم الادوار التي قدمتها علي الشاشة،عبر مسيرتها السينمائية الكبيرة، وشمخت فيه بفنها..
&
غرباء في الوطن&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
احلام فترة النقاهة التي نشرت منها جريدة "اخبار الادب" في مصر 90 حلما في العدد الخاص الذي اصدرته في شهر ديسمبر2003 بمناسبة الاحتفال ببلوغ الكاتب سن الثانية والتسعين، هي نوع ادبي جديد كما يذكر محمد سلماوي في مقدمة الكتاب، لكن هذه الاحلام التي قرأتها في "اخبار الادب" والتهمتها في ليلة، ذكرتني ايضا بعوالمها باعمال الكاتبين الارجنتيني جورج لوي بورغيس، والكاتب الامريكي ادجار الآن بو، وبخاصة في قصصهما القصيرة المكثفة المركزة وعوالمها الغامضة ونزعتها "الصوفية" ومحاولة تفسير العمل كأنه لغز محير، لغز قد لاتدرك كنهه بعد طول تفكير، لكنه بسرعة سوف يصبح قطعة منك، لانه يحكي عن اشياء تحبها مثله، واماكن عشتها، واناس فقدتهم، وذكريات امتزجت بوعيك وكيانك، ولاتستطيع منها خلاصا، وهم يدخلون مع نجيب محفوظ في الحلم او هو يدخلهم بنفسه ويجعلهم& يشاركونه ويصحبونه في جولاته، في نعيم اللحظة اوجحيم الواقع العبثي المعاش في الحلم، فهو يحكي عن امه واخته وسيد درويش، ويجعل اخته تتحول في الحلم الثامن الي نجمته السينمائية المفضلة السويدية جريتا جاربو("ونظرت الي اختي فاذا بها قد تحولت الي الممثلة السينمائية جريتا جاربو وهي ممثلتي المفضلة وطرت من السعادة بغير اجنحة وملأ السرور جوانحي، غير ان ذلك السحر لم يدم طويلا".) ثم اذا به يفقدها جريتا جاربوحين تختفي فجأة مثل طيف في احلامه، ويشعر بأن الحزن غشي كل شييء كأنه شبورة مفاجئة..
&
محفوظ يتساءل: ماذا جرى؟
بمعني انك حين تقرأ احلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، فكأنك في الواقع تتفرج علي احوال البلاد والعباد الآن في مصر، بل ان عبثية الواقع المعاش في بعض مظاهره الحالية- كما تلمسناها في زيارة حديثة للبلاد التي صارت كما ذكر الروائي صنع الله ابراهيم بلا تعليم ولا ثقافة ولاصحة- قد تتجاوز عبثية وكابوسية ورعب تلك الاحلام التي يحكي عنها نجيب محفوظ في عمله الجديد .انها العين- عين نجيب محفوظ في احلامه- التي ترصد من خلف ستار الحلم، مجريات واقع معاش، احداثه ومجاعاته، رعبه وعبثه الآن، وتصرخ ان الحقونا، كما تبدو لنا بعض احلام نجيب محفوظ التي تذكرك ايضا باعمال الايطالي ايتالو كالفانو و الكاتب التشيكي فرانز كافكا كما في قصة "المستعمرة" THE COLONY تبدو اشبه ماتكون بشريط سينمائي طويل، يذكرك في بعض مشاهده بمشاهد افلام شاهدتها من قبل مثل فيلم "التوت البري"WILD STAWBERRY& للسويدي انجمار برجمان، وبخاصة مشهد الحلم في الفيلم بجوه وغرابته، وتلك الساعة التي تتوسط الميدان، وسوف تجد نفس الساعة التي تتوسط الميدان في اول مشهد من فيلم او كما تريد- "حلم" نجيب محفوظ الذي يرويه لنا كما يلي:
"اسوق دراجتي من ناحية الي اخرى مدفوعا بالجوع باحثا عن مطعم مناسب لذوي الدخل المحدود ودائما اجدها مغلقة الابواب، وحانت مني التفاتة الي ساعة الميدان فرايت اسفلها صديقي فدعاني باشارة من يده فملت بدراجتي نحوه واذا به علي علم بحالي فاقترح علي ان اترك دراجتي معه ليسهل علي البحث فنفذت اقتراحه، وواصلت البحث وجوعي يشتد وصادفني في طريقي مطعم العائلات فبدافع من الجوع واليأس اتجهت نحوه علي الرغم من علمي بارتفاع اسعاره ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله امام ستارة مسدلة فما كان منه الا ان أزاح الستارة فبدت خرابة ملأي بالنفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام فقلت بانزعاج ماذا جري؟ فقال الرجل: اسرع الي كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل ان يشطب ولم أضيع وقتا فرجعت الي ساعة الميدان ولكنني لم اجد الدراجة والصديق."
هذا الحلم الاول في الكتاب يذكرنا بمشهد الحلم في فيلم برجمان، الذي يحكي عن استاذ جامعي متقدم في السن وفي عمر نجيب محفوظ وهو يسافر في سيارة في طريقه الي استوكهولم العاصمة لحضور احتفال بمناسبة تكريمه واستلامه جائزة، واثناء الرحلة يحلم مثل نجيب محفوظ، ويجعلنا برجمان نشاهد احلامه ومن ضمنها هذا الحلم او بالاحري الكابوس والساعة التي تتوسط الميدان هي علامة علي الزمن الذي يولي مع الكبر والهرم من بين ايدينا، ويسترجع بطل الفيلم من خلال احلامه ذكرياته وماضيه ويلتقي باناس احبهم وفقدهم ويحاول ان يبلور كشف حساب لنفسه لامنياته التي لم تتحقق ولاحباطته التي مازالت تجثم ثقيلة في داخله وتكاد ان تكتم علي انفاسه..
&
أي انسان مهما هان شأنه لايخلو من كرامة
كما تحيل بعض الاحلام كما في الحلم الثالث وغيره، الي مشاهد التعذيب والعنف في بعض افلام الامريكي دافيد لينش كما في فيلمه "الطريق المفقود" LOST HIGHWAY ورعبها ودمويتها، وتذكرنا بالاهانات اليومية التي يتعرض لها المواطن المغترب المعذب في وطنه، وهنا يرتفع صوت الرواي في الحلم الثالث محتجا ضد القهر والتعذيب مذكرا بأن أي انسان لايمكن ان يخلو من كرامة مهما هان شأنه.احلام نجيب محفوظ السريالية، بكل مافيها من جد وهزل، ضحكات ودموع،غم وفرح، ليست احلاما عبثية، لانها تجعلنا نتأمل في حياتنا وواقعنا الآن، من خلف ستار الحلم، وربما كانت نوعا من التطهير كما في التراجيديا اليونانية القديمة التي تجعلنا نتطهر بالرعب من ادراننا ونحب الحياة ونقبل عليها اكثر، حتي نتواعد من جديد في عالم او وطن آخر جديد، يكون اكثر عدالة وتسامحا، نتواعد في حارات مصر، ولاهدف لنا الا الانشراح باللقاء والاستسلام للمزاح والضحك، ونطير في الفضاء من الفرح. هذا الطيران الذي هو نوع من التسامي الذي يربطنا بالوطن الحقيقي حين تتحقق فيه الكرامة والامان والسلامة لكل مواطن، فيجعلنا نتصالح مع انفسنا والعالم، ونعانق كل الكائنات والموجودات .تحيةالي نجيب محفوظ علي احلامه وكتاباته، التي مازالت مثل "بوصلة" نهتدي بها علي الطريق، فلانتغرب عن واقعنا ومجتمعاتنا، حتي في اشد احلامنا ظلاما ورعبا.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف