دولة صدام حسين 3
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
1974-1975
تحدثنا في الحلقة السابقة حول إتفاقية 11 آذار عام 1970، وأكدنا أنها كانت مجرد لعبة لعبها صدام حسين بهدف كسب بعض الوقت من أجل ترتيب الوضع الداخلي للحزب وتشديد قبضته الحديدية على مفاصل الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية،ونؤكد هنا مرة أخرى أنها كانت لعبة،وإلا فإن الصراع الدموي بين الأكراد والحكومات العراقية المتعاقبة منذ قيام الجمهورية في العراق كان من التعقيد الى درجة عجزت معها جميع تلك الحكومات من حل عقدها المستعصية بسبب طبيعة وعقلية الأنظمة الشوفينية الحاكمة في العراق، وعلى الأخص العقلية الفاشية لحزب البعث العربي الإشتراكي الذي حكم العراق لفترتين متقاربتين وفاوض الأكراد مرتين متعاقبتين أيضا من دون التوصل الى أي إتفاق مثمر، واللافت أنه في المرتين التي دخل فيهما حزب البعث الحاكم الى جولة مفاوضات مع القيادة الكردية، كان حديث العهد بالسلطة، وكان الهدف الأساسي في المرتين هو كسب بعض الوقت للسيطرة على الدولة وتشديد قبضة الحزب عليها،وكان أمرا غريبا بل ومثيرا للشبهة والدهشة معا،أن يضع صدام حسين ورقة بيضاء هكذا وبكل بساطة أمام قائد الثورة الكردية الملا مصطفى البارزاني ويقول له " أملي ما تريد من المطالب"؟!. ومبلغ الدهشة يأتي من خلال سذاجة هذا التصرف من صدام حسين الرجل الثاني في الدولة العراقية،وأيضا من إنخداع قيادة الثورة الكردية بهذا التصرف والقبول بوقف القتال والدخول في مفاوضات لحل أحد أعقد القضايا السياسية في العراق هي القضية الكردية بحجمها الكبير التي أشغلت جميع الحكومات العراقية منذ نشوء الدولة بداية عشرينات القرن المنصرم، وكانت مبعث صداع لجميع تلك الحكومات.
والأهم من ذلك هو، أن القيادة الكردية لم تكن بحاجة أبدا لتلك الإتفاقية وذلك الطرح الساذج للحل،لأن الثورة الكردية كانت في تلك الفترة في أوج قوتها خاصة في السنوات الأخيرة من الستينات،وكان الدعم الدولي يتقاطر على الثورة المسلحة في الجبال،فيما كان حكم البعث في العراق يواجه رفضا شعبيا واسعا في الداخل، ولم تكن قوات الجيش قد توسخت بعد بالتغلغل البعثي فيها،على عكس الثورة الكردية التي كانت تحظى بدعم شعبي كبير بين الأوساط الشعبية والقوى السياسية العراقية الأخرى المتضررة من عودة البعث الى السلطة مجددا،وكانت سمعة الثورة قد وصلت الى الذرى داخل كردستان وكان هناك تعاطف كبير مع قوات البيشمركة التي إستطاعت إختراق العمق الكردستاني بعملياتها العسكرية وأن تنزل الى شوارع المدن الكردية لتوجيه ضرباتها الى أجهزة النظام القمعية.
لقد كانت إتفاقية 11 آذار وبالا على الحركة الكردية أعتبرها خطأ كبيرا إقترفتها القيادة الكردية بدخولها في هدنة غير مبررة مع النظام البعثي الذي إستغلها أيما إستغلال لصالحه،فيما الخطأ المكرر بالنسبة للقيادة الكردية كان عدم إستثمار مقابل لتلك الهدنة، على الأقل لجهة التحرك في الداخل لتنظيم الناس في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني، فاستكانت القيادة الى فترة الهدنة وكأني بها أحست بجدية الحكم البعثي في حل القضية الكردية، وكان هذا الإحساس خطأ ثالثا.
كانت الإتفاقية التي إبتهج لها الشعبين العربي والكردي في العراق ورقصوا لها لأكثر من ثلاثة أيام متتالية في إحتفالات صاخبة عمت جميع المدن الكردية والعديد من المدن العراقية الأخرى محكومة بالفشل منذ بدايتها. فلم تكد تمضي إلا شهور قليلة حتى نفذ النظام الحاكم محاولة إغتيال فاشلة لقائد الثورة، وحتى تلك المحاولة لم تفق القيادة الكردية من الأخطاء التي إرتكبتها،فكررتها بخطأ رابع،لأنه منطقيا كان يفترض بالقيادة الكردية أن تنهي تلك الهدنة الهشة بعد إتضاح خيوط تلك المؤامرة الدنيئة على حياة قائد الثورة الذي كان رمزا للشعب الكردي وقضيته العادلة،فمجرد التخطيط لتلك المحاولة الفاشلة كان يعني نسف الإتفاق من طرف البعث الحاكم،بمعنى آخر كشفت المحاولة النوايا الخبيثة لنظام البعث تجاه الثورة الكردية خاصة،والشعب الكردي على وجه العموم.لذلك عندما حلت الأسابيع الأخيرة من إنتهاء موعد الهدنة وتحديدا في شهري شباط وآذار من عام 1974 لم تكن الجماهير الكردية عموما تنتظر بشائر لحل القضية الكردية، وبالذات النخبة الكردية المثقفة التي كانت تعرف سلفا عقم تلك المفاوضات خاصة بعد ورود الإشارات الأولية من بغداد بوجود خلافات عميقة في تلك الجولة، ولكن حتى مع كل تلك الإشارات لم تتهيأ قيادة الثورة لأحتمالات تجدد القتال فكان الخطأ الخامس، ففي الساعات الأخيرة فقط من يوم 10 آذار علم الناس فشل المفاوضات بين القيادة الكردية والحكومة العراقية، فتدفق مئات الألوف من أبناء الشعب الكردي الى الجبال بعضهم للإلتحاق بقوات البيشمركة والبعض الآخر هربا من بطش الأجهزة الأمنية للنظام الى القرى الحدودية المحررة في كردستان.
لقد كانت مشكلة كركوك المزمنة أحد أهم القضايا المعقدة التي شكلت العقبة الكأداء أمام تلك المفاوضات كما صرح بذلك الكثير من القيادات الكردية في السنوات اللاحقة، ولكنني أعتبر هذه المشكلة رغم تعقيداتها وتداعياتها هي جزءا من القضية وعقدة من عقدها ولكنها ليست كل القضية كما أراد البعض أن يصورها، وأعتقد أن نوايا البعث كانت منذ البداية واضحة وأنه لم يكن جادا في حل القضية الكردية، ولم تكن مشكلة كركوك إلا شماعة أستخدمت لتعليق الفشل عليه من الجانبين معا،لأن مشكلة كركوك كانت في تلك الفترة مرتبطة بالأساس بالجانب الإقتصادي،ولم تكن كما هي عليها الآن من حيث تفرعاتها الديموغرافية والإثنية والمذهبية بفعل سياسة التطهير العرقي التي طاولت المدينة منذ إنهيار الثورة الكردية في آذار من عام 1975 وإنفراد حزب البعث بالسلطة في العراق.
في ليلة العاشر من آذار 1974 تدفق عشرات الألوف من الشباب الكردي الى جبال كردستان ليشكلوا نوات جيش منظم إتسع لحدود 300 ألف مقاتل تحت إمرة قيادة الثورة، توزعوا على ألوية وأفواج عسكرية إنتشرت على طول حدود خانقين حتى زاخو على إمتداد أراضي كردستان العراق.وفي المقابل حشد النظام عشرات الألوية والفرق العسكرية على حدود كردستان إستعدادا لإستئناف القتال ضد قوات البيشمركة، فيما أذاع الرئيس العراقي في ذلك الوقت أحمد حسن البكر البيان الصادر من مجلس قيادة الثورة العراقية وهو أعلى سلطة تشريعية في العراق حول حل القضية الكردية من طرف واحد بإصدار قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان في غياب الطرف الآخر وهو قيادة الثورة الكردية، وأصدرت الحكومة العراقية لاحقا قرارا بالعفو عن الأكراد الذين خرجوا الى الجبال في محاولة منها لسحب الدعم الشعبي عن قيادة الثورة متوهمة بأن هذا القرار سيعيد الآلاف من الشباب الكردي الى مدنهم التي تركوها، من دون أن تعلم أن هؤلاء لم يخرجوا للنزهة في الجبال في ذلك الفصل البارد وأنما أتخذوا قرارا بالدفاع عن قضيتهم الكبرى والإلتفاف حول قيادتهم في تلك المرحلة المصيرية.
بعد أيام قليلة من إنتهاء مهلة العفو دارت رحى الحرب بين الجانبين، حيث تقدمت دبابات وطائرات النظام الى جبال ومدن كردستان، وبدأت العمليات العسكرية بشن الجيش العراقي لعدة هجمات بربرية بالطائرات السوفيتية والهندية الصنع على بعض مدن كردستان وتنفيذ مذابح فيها، منها مدينة قلعةدزة التي حصدت أرواح المئات من أبنائها في غارة واحدة صباح يوم 24 نيسان عام 1974، ثم إشتعلت جبهات الحرب بين قوات النظام البعثي المعززة بالدبابات والمدرعات والطائرات الحربية من آخر طراز، وبين قوات البيشمركة الكردية التي لم تكن تملك سوى البنادق الخفيفة وبعض الأسلحة المتوسطة المهترئة ولكن بعزيمة فولاذية أذهلت العالم بمقاومتها للهجمات الشرسة التي يشنها الجيش العراقي على جبهات القتال. وعلى رغم عدم تكافوء القوة بين الطرفين ولكن البيشمركة سجلوا إنتصارات كبيرة على جبهات القتال ضد قوات النظام سيكتبها التاريخ لهم.
عندما زج شاه إيران بكل قوته لدعم الثورة الكردية بالأسلحة خصوصا في الأشهر الأخيرة من عام 1974، وأرسل مدافعه الثقيلة الى كردستان لإسناد قوات البيشمركة، ويقال أن الشاه أرسل عددا من ضباطه أيضا لإستخدام تلك الأسلحة ضد قوات النظام العراقي، كادت كفة الميزان أن تترجح لصالح الثورة الكردية بعد أن منيت قوات النظام بخسائر كبيرة على بعض الجبهات التي واجهت فيها مقاومة شرسة من قوات البيشمركة، حينها أدرك النظام الخطر الحقيقي من إستمرار تلك الحرب وإتساع مدياتها، وشعر أنه يخوض حربا على جبهتين في آن واحد، جبهة الحرب المباشرة مع قوات البيشمركة، وجبهة حرب غير مباشرة مع النظام الإيراني الذي نزل بكل ثقله وقوته لدعم الثورة الكردية، فكان القرار العراقي أن يحاول النظام إخراج شاه إيران من المعادلة ومن جبهة الحرب من خلال تقديم التنازلات التي ترضيه مقابل إيقاف دعمه للثورة الكردية وقد جاءت الفرصة الذهبية بإنعقاد مؤتمر قمة الجزائر في شهر آذار عام 1975 والتي حضرها صدام حسين نيابة عن الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، وشهدت أروقة المؤتمر محادثات مكثفة من عدة جهات تحت قيادة الرئيس الجزائري هواري بومدين وبمشاركة عدد من رؤوساء الدول إنتهت بإقناع شاه إيران بإيقاف دعمه للحركة الكردية مقابل تنازلات مشينة قدمها صدام حسين له، منها تنازل العراق عن سيادته على مساحات شاسعة من الأرض العراقية ومن مياهه الأقليمية، وهي تنازلات أسالت لعاب الشاه الإيراني الذي وقع معاهدة الصلح مع صدام والتي عرفت بمعاهدة الجزائر في 6 آذار من عام 1975 وهي المعاهدة التي عاد صدام حسين الى تمزيقها أمام شاشات التلفزيون بعد رحيل الشاه ومجيء الجمهورية الاسلامية الإيرانية.
في ذلك اليوم أي في السادس من آذار وصلت برقية الى جميع مراكز البيشمركة تدعوهم الى إلقاء السلاح والإختيار بين اللجوء الى إيران، أو العودة الى العراق تحت ظل البعث، فكان يوما مشهودا في تاريخ الثورة الكردية التي تواصلت لأكثر من أربعة عشر عاما، فهامت الوجوه وعم الحزن والبلاء، وإنتكست البنادق وسكتت المدافع ووضعت الحرب أوزارها ولو الى حين، فلجأ من لجأ منهم الى إيران ليعيش تحت المخيمات المؤقتة هو و عائلته، أو اختار ركوب الشاحنات العسكرية العراقية ليعود الى أهله ومدينته وهو يمتليء هما وحزنا على المصير الأسود الذي ينتظره في ظل حكم البعث.وكان صدام حسين قد إعترف لاحقا أن نظامه لم يكن عند توقيع معاهدة الجزائر مع شاه إيران يملك سوى (16) ألف إطلاقة بندقية في مخازن أسلحته مبررا بذلك التنازلات المشينة التي قدمها لشاه إيران في قمة الجزائر.
مع إنتهاء دوي المدافع وخفوت صوت الثورة في إذاعة كردستان، تنفس النظام البعثي الصعداء لنجاح صفقته الخيانية مع شاه ايران، فاصبح كالكلب المسعور مستعدا لنهش أجساد ضحاياه من الأكراد الذين فقدوا بإنهيار ثورتهم قوتهم الأساسية التي كانت في الجبال فأصبحوا مكشوفي الظهر عرضة لنهش لحومهم من كلاب البعث التي تدفقت على المدن الكردية من خلال الأجهزة القمعية التي إستحدثها النظام في كردستان.
في تلك السنة بدأ النظام البعثي بتشكيل ما كانا يسميان بالمجلسين التشريعي والتنفيذي لمنطقة كردستان وفق قانون الحكم الذاتي الكارتوني الذي أعلنه من طرف واحد لحل القضية الكردية في العراق. وكان هذان المجلسان المصطنعان لا يعدوان واجهة من الواجهات الإعلامية لحل القضية الكردية، لأنهما كانا مفروغين من أي محتوى قانوني أو سياسي فيما يتعلق بالقضية الكردية.
فقد جرى تعيين جميع أعضاء المجلس التشريعي الذي كان من المفروض أن يكون أعلى سلطة تشريعية في كردستان من قبل ديوان الرئاسة في بغداد، فلم يجر إنتخاب أي عضو فيه من قبل الشعب.والمجلس التنفيذي الذي يوازي مجلس الوزراء في المنطقة قد تم تعيين أعضائه أيضا من قبل الحكومة العراقية وكانت معظم الدوائر الحكومية في كردستان مرتبطة بالوزارات في بغداد رغم وجود هذا المجلس التنفيذي الذي يفترض أن يكون هو مشرفا ومسؤولا على دوائر الحكومة في المنطقة. وكان أعضاء المجلسين التشريعي والتنفيذي هم بمجملهم من المتعاونين أو الموالين للنظام الحاكم أو من المرتزقة الذين يطلق عليهم الأكراد صفة (الجحوش) وهم مجموعة من أبناء العشائر الكردية التي تعاونت مع الأنظمة العراقية ورفعت السلاح بوجه الثورة الكردية، بل وكان بين أعضاء المجلسين العديد من العرب من أعضاء وقيادات حزب البعث ممن يعرفون التكلم باللغة الكردية خصوصا من أبناء المدن أو القرى المتاخمة للمنطقة الكردية الذين تعلموا التحدث باللغة الكردية بسبب تداخل مناطقهم مع القرى أو المدن الكردية.واللافت هو تدفق المئات من أبناء مدينة خانقين المختلطة بين العرب والأكراد على مدن كردستان لتولي مسؤوليات حكومية وحزبية فيها، حيث إعتمد النظام الحاكم بدرجة كبيرة على هؤلاء مستغلا معرفتهم باللغة الكردية وولائهم المطلق لحزب البعث فملأ بهم مدن كردستان وعين معظمهم مدراء دوائر أو أعضاء في قيادات الشعب الحزبية.
وبدأ النظام البعثي بإنتهاج سياسة عنصرية حاقدة ضد الشعب الكردي منذ تلك الفترة بعد أن خلا له الجو بإنهيار ثورتهم في الجبال، دشنها بإفراغ المناطق الحدودية لكردستان مع دول الجوار خاصة لجهة الحدود مع إيران،فأفرغها من سكانها على إمتداد شريط حدودي بعمق 20 كيلومترا، وقدم لسكان تلك المناطق الحدودية الذين أزاحهم منها تعويضات مادية سخية وأعاد إسكانهم في مجمعات سكنية قريبة من المدن الرئيسية مثل أربيل والسليمانية ودهوك، وتحولت حياة الترف التي تمتع بها هؤلاء من حديثي النعم الى ظاهرة كان سكان المدن يتندرون بها لفترة طويلة، حيث كان هؤلاء يسرفون في البذخ وصرف الأموال الطائلة التي حصلوا عليها من الحكومة مقابل تركهم لمواطنهم الأصلية من دون أن يدركوا تبعات ومخاطر ذلك النزوح الرهيب وتداعياته على مستقبلهم كشعب، فلم تمض فترة طويلة حتى لجأ النظام البعثي الى خطوة مماثلة لكنها أشد قسوة ضد من تبقى من سكان الحدود حيث دمر آلاف القرى الكردية هناك وشرد مئات الألوف منهم الى مجمعات قسرية أخرى في مدن كردستان الكبرى.وكالعادة أتمها النظام البعثي بتحرك واسع النطاق وسط الجماهير الكردية لكسبهم الى صفوف حزب البعث من خلال تعيينهم في وظائف الحكومة أو من خلال ترغيبهم بالأموال والمناصب،وبالتوازي مع تلك الحملة حاول النظام أن يظهر نفسه كنظام إشتراكي جاء لتحقيق المساواة والعدالة ويحقق للشعب العراقي الرفاهية والخير العميم وأن يشكل دولة إشتراكية على طريقة خاصة، وهذا سيكون موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله.
شيرزاد شيخاني