أصداء

قصة الطائفية في العراق 1

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الطائفية العراقية عبر التأريخ


دور القوى الخارجية في إشعال نار الطائفية في العراق، الذي يشكو منه المسؤولون العراقيون الحاليون، ليس أمرا جديدا. لقد كان التمايز الطائفي، أي فخر الطائفيين بانتمائهم، موجودا منذ مئات السنين، بل كانت تحدث حتى معارك بين محلات بغداد السنية والشيعية طوال العصر العباسي على سبيل المثال؛ ولكن كان الأمر يبلغ غايته عند هذا الحد، ولم تصدر من أي من الطائفتين في كل تأريخ العراق فتوى بتكفير الطائفة الأخرى أو إستحلال دمها؛ لكن مثل هذه الفتوى، أو ما يعادلها في مجال التطبيق، صدرت من بلدان مجاورة وأرادت فرضها على العراقيين بالقوة وبسفك الدماء، كما سنرى لاحقا. لقد كانت النشأة الأولى لمحلات بغداد ذات طابع عشائري، حتى إن كثيرا منها كان يحمل أسماء العشائر التي تقطنها. أما من أراد السكنى في بغداد دون أن يكون له فيها أحد من عشيرته فقد قادته غريزته، طلبا للشعور بالأمان، الى السكن في محلة تقطنها طائفته ليعوض بالطائفة عن العشيرة. وهكذا فحين كان ينشب عراك بين فرد من محلة سنية وآخر من محلة شيعية على أي سبب يومي كان فإن من المتوقع أن يلقى كل منهما تعضيدا من سكان محلته، وبذلك يبدو القتال وكأنه ذا طابع طائفي.
لقد إبتلي العراق بسعي جيرانه الى فرض عقائدهم المتشددة عليه فرضا دمويا راح ضحيته مئات الآلاف من سكانه المدنيين طوال خمسمائة عام وحتى يومنا هذا، ولا أحد يدري الى متى...
ما أن إشتد التنافس السياسي والإقتصادي بين الإمبراطوريتين العثمانية في تركيا والصفوية في إيران على خيرات العراق ومميزاته الجغرا ـ سياسية والطبيعية حتى بدا وكأنهما عثرا معاً على اللعبة التي بمقدورهما اللعب بها معاً: الطائفية. بدأ هذا في أوائل القرن السادس عشر. وطوال القرون التالية له كان العراق يقع تحت الإحتلال العثماني تارة والإيراني تارة أخرى، لكن لم تذكر أي من الإمبراطوريتين شيئا عن مصالحها الحقيقية، الإقتصادية والسياسية من إحتلال العراق، إنما كانت كل منهما تعلن أنها قدمت لإنقاذ أبناء طائفتها من ظلم مواطنيهم من الطائفة الأخرى. وكل منهما إعتاد ـ وكأنهما متفقَين ـ على تدشين إحتلاله العراق بأداء حركات رمزية تؤيد مزاعمه الدينية كزيارة المراقد المقدسة لدى طائفته وقتل ما أمكن من أبناء الطائفة الأخرى. فلنأخذ بانوراما سريعة عبر القرون:
1508: الشاه المهووس إسماعيل الصفوي يفتح بغداد فيفعل فيها مثلما فعل في بلده إيران: يفرض مذهب التشيع على جميع السكان ويفرض سَبّ خلفاء الرسول في الجوامع، يقتل الكثير من المواطنين السنة وينبش قبر أبي حنيفة.
1534: السلطان العثماني سليمان القانوني يفتح بغداد معلنا أن لا مصلحة له في ذلك سوى "إنقاذها" من أيدي الإيرانيين وإعادة تعمير مرقد "الإمام الأعظم" أبي حنيفة، ولكنه على أية حال لم يسمح بالنهب أو إيذاء السكان.
1623: شاه إيران عباس الكبير يفتح بغداد: يهدم مرقدي أبي حنيفة والشيخ عبد القادر ويأمر بتسجيل جميع السنة من سكان بغداد بقصد القضاء عليهم.
1738: السلطان العثماني مراد يفتح بغداد: يذبح عشرات الألوف من الأسرى الإيرانيين، ثم عشرات الألوف من شيعة بغداد. وبعد إتمام المذابح يتوجه السلطان الى قبر أبي حنيفة (الذي رفض زيارته قبل المذابح) قائلاً: "الآن حقّت الزيارة" !
1743: نادر شاه أعظم أباطرة إيران يفشل في إحتلال العراق، لكنه لا يريد أن يعود الى بلاده خاسرا فيحول مسعاه العسكري الى سفرة دينية! بعد توقيع الصلح مع والي بغداد يستجاب لطلبه بزيارة المراقد المقدسة، فيطلق من مدينة النجف المقدسة قنبلته الثقافية: أول (وآخِر!) مؤتمر للتقريب بين المذهبين!
مؤتمر النجف التأريخي (1743)
هذا المؤتمر هو أول مسعى رسمي لإيجاد حل شامل ومستديم لمشاكل العلاقة بين السنة والشيعة. بذل فيه راعيه وصاحب فكرته نادر شاه جهودا ملحوظة، ودعى اليه أكبر علماء الدين من الطائفتين ليس من العراق فقط وإنما من إيران وأفغانستان وتركستان أيضا. وقد نجح المؤتمر وانتشرت أخباره في البلدان الإسلامية وإن كان من الصعب تقرير الى أي مدى كان له تأثير فعلي على العلاقات بين الطائفتين في هذه البلدان. لقد خرج المؤتمرون بنتائج تعتبر قياسية وطموحة حتى في حسابات زماننا هذا، وهي:
ـ جعل المذهب الشيعي (الذي أطلِقَ عليه "الجعفري" نسبة الى الإمام جعفر الصادق ذي المكانة المتساوية عند كلا الطائفتين) خامس المذاهب في الإسلام؛
ـ إشتراك الشيعة في الركن الشامي من الكعبة وحقهم في الصلاة بإمامهم وبطريقتهم؛
ـ منع التحقير والسب من الجانبين.
يجدر بالذكر إن نادر شاه كان هو الذي قضى على عادة سب الخلفاء في عموم إيران وقد قام منذ توليه الحكم بجهود متواصلة للتقريب بين المذهبين في العالم الإسلامي، بما في ذلك سعيه (الذي لم يكلل بالنجاح) لإقناع السلطان العثماني ـ الذي كان يزعم تمثيله للمسلمين السنة في كل العالم ـ بهذه الفكرة.
ما يلاحظ في قصة هذا المؤتمر أن حكام إيران حين طبقوا التشدد الطائفي في بلادهم أرادوا شمول العراق به، وحين طبقوا التوافق الطائفي في بلادهم أرادوا شمول العراق به كذلك. ويبدو أن الميل الى إلحاق العراق بعقيدة الحاكم الإيراني ظاهرة قديمة، وما تزال ماثلة حتى في يومنا هذا.
الوهابية والعراق
حين يلقي علي الوردي نظرة على الحركة الوهابية من زاويته كعالم إجتماع، ويلاحظ أن محمد بن عبد الوهاب، مؤسسها، لم يكن اول من فكر بإعادة الإسلام الى فطرته الأولى وإنما سبقه اليها إبن تيمية قبل خمسة قرون، فإنه يستنتج بأن "الفرق بينهما هو إن إبن تيمية نادى بالفكرة في بيئة حضرية فلم ينجح بينما نادى محمد بها في بيئة بدوية فنجح نجاحا عظيما" (لمحات إجتماعية من تأريخ العراق الحديث"،ج 1 فصل 7)، مشيرا بذلك الى ما في فتوى إستحلال دماء وأموال ونساء "الكفار"، أي المخالفين في الرأي، من مخاطبة للنزعات البدوية كالغزو والنهب وإختطاف النساء. وبصراحة فإن المتأمل لفتاوى وأفكار هذه الحركة، ولممارسات أتباعها منذ تأسيسها وحتى هذا اليوم وفي جميع البلدان بما فيها عراق اليوم، يصل الى إستنتاج بأنها قد فُصّلَت خصيصاً على مقاييس أعراب الجزيرة العربية قبل قرنين ونصف. ولا غرابة في هذا الأمر بحد ذاته ولكن كل الغرابة في أن آلافا من الناس في يومنا هذا، بمن فيهم شباب، يعيشون في مدن حديثة ويمارسون ويستخدمون في حياتهم اليومية أحدث منجزات حضارة عصرنا، ما يزالون قابعين ذهنيا ونفسيا في تلك البرهة من التأريخ عاجزين عن مبارحتها.
منذ الأيام الأولى للقرن التاسع عشر بدأت هجمات الوهابيين على العراق: غارات، قطع طرق، قتل ونهب، وذلك على طول المناطق المتاخمة للصحراء الغربية إبتداء من البصرة جنوبا وحتى مدينة عانة في الشمال الغربي.
في سنة 1802 حدثت مجزرة كربلاء.. حيث هاجم الوهابيون هذه المدينة المقدسة لدى الشيعة في الليل على حين غرة، ولم يستثنوا من القتل لا الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ، فبلغ عدد القتلى الآلاف، ونهبت مراقد الأئمة وكذلك المحلات والدور. بعد ذلك قصد المهاجمون مدينة النجف ليفعلوا فيها الشيء نفسه ولكن كان خبر مجزرة كربلاء قد إنتشر هناك وإستعد أبناء النجف لملاقاة المهاجمين ففشل الأخيرون في إقتحام المدينة وعادوا الى صحرائهم. وتواصلت الهجمات الدموية طوال السنين التالية على القرى والبلدات العراقية والتجمعات العشائرية في البادية، راح ضحيتها آلاف من المدنيين الأبرياء. ولهذا فحين وصلت أنباء نجاح الحملة العسكرية بقيادة إبراهيم باشا، إبن والي مصر محمد علي، على الوهابيين سنة 1818 وسقوط عاصمتهم الدرعية عم العراق فرح كبير عبر عنه الموطنون بطقوس مختلفة في المدن والقرى، فيما عبر شاه إيران عن فرحته بأن أهدى الى إبراهيم باشا سيفا مرصعا !

سمير طاهر

samir_tahir@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف