سيرة مارتن سكورسيزي وأفلامه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
البعض يحلم في المستقبل، فيما هو منهمك بتشييده! (1/2):
كل ما أردت أن أكونه في حياتي هو أن أصبح راهباً أبرشياً عادياً ولا شيء آخر"
لم يكن سكورسيزي مخرجاً سينمائياً فحسب إنما كان سيناريستاً ومنتجاً، معلقاً سينمائياً ومونتيراً، وبين الحين والآخر ممثلاً، أما في صباه فقد كان يحلم أن يصبح راهباً!.
إن عالم السينما وتأريخها سيكونان بائسين حقاً من دون أيقونات كلاسيكية ـ معاصرة أمثال "سائق التاكسي"،"الرفاق الطيبون"، "الثور الهائج"، "الأغواء الأخير للمسيح" و"عصابات نيويورك"، ذلك لأن الحماسة المشتعلة لهذه الأفلام هي التي أيقظت الأحاسيس الهوليوودية الخدِرة وأنعشتها ثانية بعد أن كشفت الطبيعة الزائفة والتدميرية لأفلامها.
هكذا يتعامل سكورسيزي بإستمرار مع شخوص كهؤلاء، رجال كانوا أم نساء، يعانون دائماً من أزمات حادة بسبب طموحاتهم المشروعة أو غير المشروعة لتحقيق ما يحلمون به. أما فضاءاته الفلمية فهي محكومة بقوانين صارمة وقاسية، سواء كانت تلك التي يفرضها الولاء لرجل العصابة في أفلام كـ ( الرفاق الطيبون، عصابات نيويورك ) أو تلك الضوابط والقيود الشديدة التي لا تقل قسوة وصرامة لمجتمع الطبقة العليا، كما في فيلم ( سن البراءة ).
الفنان الذي يعيش زمناً ليس زمنه
" إنني أنتمي إلى الماضي "، هكذا يقول سكورسيزي، شاعراً بوخزة ألم شجية كونه موضع حسد، مقارنة بمخرجي هوليوود القدامى الذين كان لديهم نفوذاً كبيراً عليه، أولئك الصّناع المهرة الذين إستطاعوا بتلك الطاعة والأذعان والصبر أزاء الإذلال الهوليوودي من أن يحققوا أفلاماً مدهشة واحداً تلو الآخر بإحساس مفعم بالسعادة.
ومع ذلك فهو، كمخرج، يشعر بالقلق أحياناً من أنه ربما يكرّر نفسه، ومن أنه لن يتمكن مطلقاً أن يعمل أفلاماً تتوائم ورؤى مخرجي الأجيال الشابة لأنه " ليس من هذا العالم المعاصر" كما يقول.
على الرغم من أننا لا نوافقه هذا الرأي، إلا أنه على حق، لأنه ليس من هذا العالم المعاصر حقاً، فمخرج مثله كان على الدوام وما يزال يتطلع نحو الأمام، ليس فقط بسبب مهارته التقنية أو أسلوبه الذي لا يحاكى، بل بسبب أن شخصاً موهوباً مثله لا يمكن أن يكون منتمياً إلى الحاضر قدر إنتمائه إلى المستقبل، المستقبل الذي لن يحيا أحد منا ليراه، أعني عصر الألق الأوتوبـي، العصر الذي سيصبح فيه مفهوم ( المخرج ـ الخالق ) شيئاً مّسلماً به، حين يفهم المخرج على أنه مؤلف الفيلم، خالقه، ومبتكره، لأنه المعماري الوحيد الذي يمتلك الحق في إقصاء أو إضافة أيّ شيء من وإلى بنية معمار الفيلم. على الرغم من أن هناك ميلاً للظن بشكل حاسد كئيب، من أن سكورسيزي هو ليس في موقعه الصحيح، ذلك أن قدماه مسمرتان في الماضي فيما يداه مقيدتان خلف ظهره من قبل الحاضر.
من الواضح جداً أن تلك الأفتراضات والظنون والأوهام كانت جلها قد وظفت بقصد النيل من أهمية هذا الكائن المبدع، ومع ذلك فلا شيء من ذلك الهذيان إستطاع أن يمنعه من الجلوس هكذا مسترخياً ومقهقهاً من الأعماق حتى اللحظة.
بإيماءاته نحو الماضي وقلقه المتواصل حول المستقبل، أصبح سكورسيزي هو البيرغماتي الأول الذي حقق جزءاً ليس بالقليل من قناعاته الخاصة، لأنه تعّلم كيف يكون ناجحاً وسط منظومة الطحن التي تسحق كل شيء، أعني هوليوود وصناعتها السينمائية، والدليل الجلي على صبره وثباته ومهارته هو أنه إستطاع أن يحصل على ما يريد كفنان، وأن يحقق الأكثر مما كان يحتاجه كأنسان. لقد كان جّده صانع سقالات بناء، أما هو فقد أصبح معماري أفلام.
صحيح أنه يزهو بـ ( أناه ) حاله حال كل المخرجين الناجحين الكبار، إلا أنه لم يكن يوماً شخصاً متغطرساً أو مغروراً، وما ( أناه ) تلك إلا صورة لأعتداده بنفسه، ومع ذلك فهو يمتلك مغزىً مرحاً وضحكاً متفجراً وطاقة مدهشة في الأستخفاف بالذات والقدرات الشخصية، لكن ذلك لم يمنعه بالطبع من أن يكون جاداً في عمله لدرجة السكته القلبية. إنه مثل كل البشر الفاتنين والساحرين في هذا العالم، تتضمن حياته تناقضات وتعارضات مذهلة.
لقد ُكتب الكثير الكثير عنه، فهل هو بحاجة إلى تقديم!؟. إلا أن من الثابت القول أن هناك شيئان وشيئان فقط كانا قد طبعا مسيرة حياة قديس السينما هذا، فهو ينفق وقته إما في مشاهدة الأفلام التي تحتويها مكتبته الخاصة، أو تراه يبحر رحلاته الأخراجية في مواقع التصوير مجسداً فضاءات أحلامه على أشرطة السيللويد، فهو يعتقد إن ولادة فيلم جديد، هو بمثابة تحديث للتقاليد الأبداعية الحية للأنسان، ولو بشكل مختلف.
صفة ثالثة أيضاً يمكن أن تضاف إلى طباعه، هو عشقه للموسيقى، موسيقى البوب، الروك، الأوبرا، والموسيقى الكلاسيكية بالطبع. فمارتي، كما يحب المقربّون إليه مناداته، يبحث دائماً عن اللحظة التي يمكن فيها للموسيقى والمشهد السينمائي معاً، أن يغيّرا، عبر تناغمهما، من البنية الطبيعية للفكرة، فهو يشبّه الصلة بينهما مثل صلة البنزين بعود الثقاب تماماً، ولعل أحد المشاهد الشهيرة التي يفضلها دائماً كورسيزي كدليل على تلك الصلة،هو مشهد إحتراق السيارة التي تنفجر في فيلم "كازينو" والتي كان قد إستخدم فيه موسيقى هي مزيج من فضاءات فـِـل سبيكتور و فيردي. أما الموسيقى التي إستخدمها في فيلم "الشوارع القذرة" فهي مستوحاة من تلك الموسيقى التي كان يسمعها دائماً تتعالى من نوافذ البيوت المجاورة في الحي الذي كان يعيش، كما يقول. ثيلما سكونميكر ( المونتيرة التي عرفته منذ سنوات الدراسة أواسط الستينات في المعهد السينمائي التابع لجامعة نيويورك، والتي قامت بمونتاج جل أفلامه تقريباً، لعل آخرها فيلم "الطيار") عنه تقول: "الشيء المميز عند مارتي أنه يحمل في خزين ذاكرته قطعاً موسيقية كان سمعها منذ ثلاثة أو أربعة عقود مضت، إلا أنه يتذكرها بدقة وحساسية الموسيقي تماماً، ويعرف كيف يوظفها في الفيلم، بل لا أبالغ إن قلت أنه كان يعرف أين يضعها بالتحديد في كل مفصل من مفاصل الفيلم. إنه يمتلك ذاكرة قوية جداً، ذاكرة فوتوغرافية إذا جاز لي القول، فهو يتذكر القطعة ومتى سمعها.
لقد أخبرني مرة حين كنا نعمل على إحدى القطع الموسيقية أنه كان قد سمع تلك القطعة في طفولته في دكان لبيع النقانق حين كان ذاهباً مع والدته للتبضع. ومع ذلك فحين يدخل مارتي غرفة المونتاج يكون قد جلب معه ستة أو سبعة قطع موسيقية، نقوم معاً بتجريبها لفترات طويلة مع المشهد لنختار الأفضل في النهاية ".
إن حساسيته الموسيقية يمكن أن نعثر عليها متجلية في عدد من أفلامه، ولعل فيلمه الموسيقي "نيويورك نيويورك" هو مثال ساطع على ذلك، الفيلم الذي هو بمثابة عودة مليئة بالحنين والشوق لأفلام هوليوود الموسيقية في الأربعينات. كذلك " الفالس الأخير " فيلمه الموسيقي الآخر الذي أخرجه عام 1978، ثم شريط الفديو الغنائي الوثائقي " Bad " عام 1987 الذي صوره عن مايكل جاكسون، وأفلام وثائقية موسيقية أخرى مثل " Blues " 2003 وآخر بورتريت موسيقى للفنان بوبي ديلان، وأفلام أخرى.
" يمتلك مارتي أذناً لاتخطىء، وهو حين يعمل على المؤثرات الصوتية يعمل بنفس الحساسية الموسيقية والدقة التقنية" هكذا تقول مونتيرته سكونميكر..
الشراكة الأبداعية
تمتد مهنة سكورسيزي كمخرج سينمائي إلى نحو أربعة عقود أو أكثر، تضمنت خلالها أفلاماً أصبحت أشبه بأيقونات لزمننا، ومن بين تلك الأفلام أفلاماً هي بمثابة تعاون ثنائي أو شراكة إبداعية ألقة بينه وبين الممثل الخلاق روبرت دي نيرو، وهي حسب تساسلها الكرونولوجي:
1 ـ " الشوارع القذرة " 1973
2 ـ " سائق التاكسي " 1976
3 ـ " نيويورك نيويورك " 1977
4 ـ " الثور الهائج " 1980
5 ـ " ملك الكوميديا " 1983
6 ـ " الرفاق الطيبون " 1990
7 ـ " خليج الخوف " 1991
8 ـ " كازينو" 1995
"لقد كان العمل مع بوبي في تلك السنوات شيء إستثنائي حقاً.. ( هكذا يحّب سكورسيزي والمقربين من روبرت دي نيرو أن يسمّوه)..
"إبتداءاً من ـ الشوارع القذرة ـ و ـ سائق التاكسي ـ كنت أحس أنني وبوبي نتماهى عاطفياً وسيكولوجياً في الكثير من الأشياء، نتماهى في قناعاتنا ومنظومتنا الفكرية ووجهات نظرنا الأجتماعية، وأيضاً في صداقاتنا وطبيعة الأفلام التي نحلم بعملها، وأشياء أخرى. مع ذلك، كنا أشبه بعشاق جدد، حيث لم نفصح يومها عن مكنوناتنا تلك بعضنا لبعض، ولم نكشف حتى عن كيف يشعر أحدنا أزاء الآخر. من المحتمل جداً أن بوب هو القرين السيكولوجي والوجداني لي على نحو مضاعف.".
لاشك أن تلك العلاقة الحميمة والخفية، قد دفعت بهذين الخلاقين من أن يمنح أحدهما الآخر، الأفضل والأفضل، كلٌّ في مجاله، رغم أن جودي فوستر، الممثلة العذبة والمرهفة التي سبق لها وأن مثلت في فيلم سكورسيزي "سائق التاكسي" وفيلمه السابق "لم تعد أليس تعيش هنا بعد الآن" لها رأي مخالف، فهي تعتقد أن الأثنان، عملياً، هما شخصيتان مختلفان ومتعارضان!.
"مارتي وبوبي ـ المقصود مارتن سكورسيزي وروبرت دي نيروـ" تقول فوستر: "هما من أكثر الشخصيات تعارضاً. فعلى الرغم من أنهما يعملان معاً أفلاماً هامة بشكل جميل ومبتكر، إلا أنه لا وجود لشيء خاص في شخصيتهما يجعل الواحد يظن أن علاقتهما نموذجية حتى الكمال. فمارتي مثلاً كثير الكلام، وهو شخص ممتلىء حماسة ويقلقه جداً ما يجري في العالم، إلا أنه مع ذلك يستجيب لكل ذلك بروح من الفكاهة والمرح، فيما نرى بوبي شخص منعزل جداً، أو هكذا يبدو في الأقل، وهو ليس بالضرورة يعي أو يقلق بما يجري في العالم من أحداث كما هو الحال مع مارتي.
بمعنى آخر، لو قدّر لك مثلاً وأن رأيت الأثنين يجلسان معاً في غرفة واحدة، فمن المؤكد أنك ستحس أن من المستحيل جداً لهما أن ينسجما، على الرغم من أنهما في عملهما السينمائي يبدوان كما لو أن أحدهما يبتدأ الجملة والآخر يكملها".. روبرت دي نيرو يعترف نفسه أنه هو وسكورسيزي " شخصان مختلفان جداً " فهو يقول:
" لدينا نحن الأثنان خلفيات متباينة، وكل واحد منا يعمل أفلامه لأسبابه الخاصة به. إلا أننا صادقان، نزيهان وصريحان، حين يتعلق الأمر في ما نريد، حين نتحدث عما نريد، وعن دلالات ما نريد، وعن نوع التماهيات بين أفلامنا وحيواتنا. مارتي يختلف، نوعاً ما، عن الكثير من المخرجين في حبه لمساعدة الناس العاملين معه، فهو يمنحهم الأحترام الذي ينشدونه، والذي من شأنه أن يدفعهم إلى تفجير طاقاتهم أكثر في العطاء، فضلاً عن أنه أيضاً يعطي فرصاً للعاملين معه أكثر بكثير من المخرجين الآخرين، ففيما البعض منهم ربما يفكر مرتين قبل القيام بذلك، نرى مارتي يفعل ذلك حالاً وبدون تردد أو إبطاء. إنه على الدوام يمنح الممثل الثقة بالنفس لأن يحاول ويجرب أي شيء. مارتي يُظهر الأفضل في أداءه كمخرج، وهذا بدوره يفجر طاقات الأداء في داخل الجميع.
إنه يعطي فسحة كبيرة لكل واحد منا للتجوال في فضاء مخيلته، لأنه لا يخشى غير المألوف أو المبتكر.
إن كل من عمل ويعمل مع مارتي، ولست أنا فقط، يوّد أن ُيعطي له كل مالديه من طاقة. لم يكن يوماً قاسياً أو صارماً على الأطلاق. لا يوجد شخص هادىء كما هو سكورسيزي في موقع التصوير. مع ذلك، هو واضح وحاسم جداً حين يتعلق الأمر بعمله كمخرج، في حال ثمة شيء ما لا يعمل بطريقة صحيحة أو ُيبالغ في تجسيده."..
آخر عمل كان لـروبرت دي نيرو هو فيلم " كازينو " 1995، إلا أنه لحد الآن يطمع في إكمال الشوط الذي لم ينتهِ بعد معه، وفي هذا الصدد يقول:
" أريد أن أعمل فيلمين، فيلمين آخرين فقط، لكي يكون مجموع أفلامي معه عشرة أفلام!". أما ثيلما سكونميكر
" مارتي و بوبي لايحبان أن يقرب منهما أو يسمعهما أحد حين يعملان قبيل تشغيل الكاميرا، لأنهما يقومان بعمليات تجريب متنوعة كثيرة، ويضطلعان معاً في مجرى هذه العملية بحل الكثير من المعضلات الشائكة، تلك المتعلقة بطريقة تعبير الممثل وحركته أمام الكاميرا، لذا فهما بحاجة حقاً إلى حرية مطلقة ليقولا لبعضهما البعض كل مايريدان. لايحبان أن يسمعهما أو يتسمع لهما أحد ليسيء فهمهما بقصد أو بدون قصد، على الرغم من أن هذا الشيء مضحك، لأن سماع مناقشة كهذه أو رؤية طرقهما التجريبية بشأن الأداء أمام الكاميرا هي بمثابة دروس ذو قيمة عظيمة لطاقم العمل. إلا أنهما، مع ذلك، يصران على ذلك ويفضلان دائماً التمتع بالحرية بعيداً عن عيون وآذان الآخرين!."..
أما الشيء الوحيد الذي تتذكره الممثلة جودي فوستر من فيلميها " سائق التاكسي" و"لم تعد آليس تعيش هنا بعد الآن" التي مثلت فيهما أواسط السبعينات، فهو صوت قهقهات سكورسيزي، وعن ذلك تقول: "آه، لقد كان مارتي مقهقهاً كبيراً، فهو في الحقيقة كان يتكلم حوالي 1000 ميل في الدقيقة، خصوصاً في فيلم " سائق التاكسي ".
أتذكر أننا أعدنا تصوير أحد المشاهد 25 ـ 30 مرة تقريباً، فيما كان هو يضع يده على فمه ويضحك من أعماقه ضحكاً مكبوتاً أثناء حوار الممثلين.
الواقع أنني، وفي كل إعادة لذلك المشهد، كنت أحس أن مارتي هو على حق دائماً معنا نحن كممثلين، لأنه كان يرى ما في دواخل جلودنا. آه، ما زلت أضحك حين أتذكر ذلك.
الشيء الآخر الذي تخرج به وأنت تعمل معه، هو أنه إنسان دمث وظريف جداً. إنه شخص محبوب وودود على النقيض تماماً من سلوك شخصياته أو الأجواء العنيفة لأفلامه، لذا ترى أنه كان يغترف من هذا الغنى الشخصي قدرته على خلق ذلك النوع من الماتيريال.
إنه إنسان أصيل وفنان صادق مع نفسه ورؤاه، بشكل لا يصّدق، وهذا الشيء تدركه فقط حين تعمل مع شخص مثله"
على الرغم من نيلها الأوسكار مرتين وجائزة الأكاديمية مرتين، إلا أن فوستر، وحتى هذه اللحظة، ما تزال ترنو بعتاب ساحر نحو سكورسيزي منتظرة، فهي لم تظهر في أفلامه منذ " سائق التاكسي "، وفي هذا الصدد تقول:
" لقد أردت العمل معه وما زلت. في كل مرة، حين أسمع أنه يريد عمل فيلم جديد أبعث له برسالة خاطفة، على الرغم من ظنوني وهواجسي في أنني الآن لست تلك الشابة التي كانت يوماً ما مهتمة ومنسجمة، موهبة وقدرة، مع كل ماكان يفعله.
" سكورسيزي هو نموذج للكمال، وفي أعماقه ثمة شخص صبور، صبور جداً".
هكذا تصفه جان روزنثال، المنتجة ومسؤولة الأنتاج السينمائي في معهد السينما التابع لجامعة نيويورك، والتي كانت قد عملت معه في فترة إنتاج فيلمه " لون المال " عام 1986 حين كانت يومها مديرة لشركة دزني.
" إنه ذلك الماستر الذي يعشق سير مجرى عملية الفيلم كما لو أنها مرحلة مخاض لولادة جنين. مارتي يحب ما يفعل، بل يقاتل من أجل ما يفعله. وهو عنيد وصعب في طريقته لإنتزاع الأشياء التي يريد تحقيقها ووضعها في مكانها الصحيح.
أعتقد أنه واحد من المخرجين الذين يصعب السيطرة عليهم و التعامل معهم في أيامنا هذه، وهو فنان بكل ما تعنيه الكلمة حقاً، ومع كل ذلك، فهو شخص هادىء جداً ولطيف ويحمل بين جوانحه قلباً كبيراً، كبيراً جداً "..
كينيث لونيرغان، (أحد ثلاثة كتاب إشتركوا في إنجاز سيناريو فيلم " عصابات نيويورك "،الآخران هما جاي كوكس وستسفن زايليان )، كان قد عمل مع سكورسيزي مدة سنتين تقريباً ووجده:
"في شراكتي الإبداعية معه إكتشفت أن في أعماقه إنساناً طيباً وفناناً رائعاً، فهو يتقبل أفكار الآخرين بشكل غير محدود، وعظيم هو حقاً في طريقة تلقيه تلك الأفكار وفي قدرته على دمجها في رؤيته الكلية.
لقد كنت موجوداً في النصف الثاني من تصوير فيلم "عصابات نيويورك" وينبغي عليّ القول أن مارتي كان رجلاً مجنوناً حقاً، تستحوذ عليه الأفكار وتقلقه لدرجة تجعله متوتراً متوتراً جداً... لكن، مع ذلك، تجده في ذات الوقت، مرحاً بشكل غير محدود وفكه جداً في موقع التصوير. إنه يشعر بالمتعة والتسلية وهو محاط بالجميع، ولقد كان الجو الذي يحيط به مفعماً بالوّد والدفء والأحترام بالفعل. كنت أراه يجلس أمام جهاز المونيتر في خيمة الفديو يرقب اللقطة وأصابعه ترتفع وتنخفض تارة ثم تتماوج وتتوتر تارة أخرى كأنها أصابع قائد أوركسترا.
وجب القول أيضاً أن مارتي مميز جدا بقدرته على معالجة الخطأ بسرعة ودقة فائقتين.
عليك أن تفكر، يا إلهي، هذا هو النداء الداخلي الخفي والوحيد الذي يتسلل إلى أذنيك هامساً حين تعمل مع فنان مثل مارتن سكورسيزي، إنه لا يبالغ ولا يصطنع أي شيء على الأطلاق. إنه يجعل الأمر في غاية البساطة ولك أن تقول كل ما في رأسك"..
أما عن الشراكة الأبداعية الطويلة الأمد بينه وبين ثيلما سكونميكر فتكشف عنها كلماتها الودودة والصادقة هذه حين تقول:
" لقد حصلتُ على جائزة أوسكار عام 1980 عن أفضل مونتاج في فيلمه " الثور الهائج " (**) وكان ذلك عن تقطيع لقطات مشهد الملاكمة، لكنك لو أردت الحقيقة فلن تصدق أن تقطيع اللقطات تلك كان قد رسمها مارتي بدقة على الورق قبيل التصوير، حجم كل لقطة، طولها وتسلسلها...إلخ.. بكلمة آخرى، كان تقطيع المشهد هو نتاج لمخيلة المخرج نفسه، إنها فكرته وليست فكرتي. أما دوري فهو فقط أن أحسّن تلك اللقطات بالأرتباط مع الأيقاع الموسيقي والبصري.
الحقيقة أن مارتي هو الذي إبتكر ذلك ولست أنا، ومع ذلك، فأنا من كسب الجائزة في النهاية وليس هو!. أليس هذا هو المضحك المبكي؟.
مارتي يمتلك أولاً رؤية بصرية عامة للفيلم الذي يعمله، ومن بعد تأتي التفاصيل، أعني الأيقاع، نوع وحركات الكاميرا التي ينشدها، إختيار طاقم التمثيل. إلخ.
وبسبب كونه مونتيراً في الأصل، ومونتيراً خلاقاً، فإن مونتاج أفلامه الذي تراه هو متضمن داخل لقطات الفيلم نفسها.
حين عرض عليّ يومها القيام بمونتاج هذا الفيلم تملكتني حالة من الرعب، لأنني لم أكن قد عملت من قبل في فيلم هوليوودي كبير كهذا، إلا أن سكورسيزي وبهدوءه الذي تميز به، إبتسم لي مطمئناً إياي وقال لي بأنه سيساعدني في كل شيء، وفعل ذلك حقاً.
أنا ومارتي نمتلك ذهنية ومخيلة واحدة تقريباً حين نجلس أمام طاولة المونتاج. لقد علمني كل شيء أعرفه عن المونتاج. إنه مونتير عظيم.
لقد عرفته منذ أربعة عقود، مذ كنا طلبة في معهد السينما، إنها شراكة صداقة وإبداع أثمرت خلال ثلاثة عقود عشرون فيلماً، وما زلنا معاً نقطع بقية الطريق... ".
أما زوجته المنتجة باربره دي فينا فتهمس لنا قائلة:
" تستحوذ على مارتي حالة من اليأس العميق مع كل فيلم يعمله، فبعد إنتهائه من تصوير فيلم (الرفاق الطيبون) مثلاً، ومباشرته في عملية المونتاج أصيب بحالة كآبة رهيبة. ( لن أعمل بعد هذا مطلقا )، هكذا قال، إلا إن هذا الطبع وهذه الحياة هما خاصية لمارتي. كل شيء يبدأ أشبه بكارثة، لكنه سرعان ما يصبح كل شيء جميل وساحر. هكذا هو مارتي، فكلما كان يقدم الأفضل مما لديه، كان ينتظر الكثير الكثير ليخرج من ينبوعه الخاص"... على الرغم من حيوية أفكاره ورؤاه، طرقه وتقنياته، قياساً بمجايليه، إلا أن سكورسيزي ما زال يبحث عن طرق ومعالجات أخراجية جديدة في كيفية التعامل مع سرد الحكاية بصرياً، لذلك تراه لايبخل من أن يسدي بين الحين والآخر بمشورة أو معلومة سرية للمخرجين الشباب بهذا الخصوص، بأن لا يتسمروا في الرتابة المملة للترجمة الحرفية والبصرية للفكرة، وأن عليهم دائماً أن يكونوا منفتحين على الأفكار الجديدة والأساليب المبتكرة.
ليس ثمة كمال مطلق عنده، فهو في كثير من الأحيان يدرك أخطائه ولو بوقت متأخر بعد وقوعها، وذلك لا يمنعه من أن ينفق شهوراً إضافية في غرفة المونتاج ليعدل من تلك الأخطاء ويكيفها وسيرالفيلم، ومع ذلك تراه يشعر أحياناً بغصّة في أعماقه حين يتذكر بعض الأشياء التي لم يستطع حلها أو إنجازها:
" كنت أتمنى لو كنت أملك نفس الوقت هذا في فيلم " الأغواء الأخير للمسيح " يعترف سكورسيزي وهو منهمك على طاولة مونتاج ملحمته الشهيرة "عصابات نيويورك"..
" الواقع أنني مازلت أحب وأتمنى لو كان في مقدوري إضافة بعض الأشياء الطفيفة لذلك الفيلم، مشاهد صغيرة محددة لاتحوي أكثر من 25 شخصاً لاغير، وليس مشاهد كبيرة تحوي آلافاً الناس. المعضلة أننا لم يكن لدينا وقتها المال الكافي لأنجاز ذلك للأسف الشديد، فلم يتبق لدينا حينها من الميزانية سوى ستة ملايين دولار فقط.
أحب أيضاً أن أعثر على طريقة ما، أستطيع من خلالها أن أحذف 15 دقيقة من الفيلم، وأن يتوفر لي ثلاث أسابيع من الوقت ".
يتحدث سكورسيزي عن ذلك بشعور من الحزن والأكتئاب والقلق المحسوس كما لو أن فيلمه هذا قد عمله قبل أسبوع وليس قبل سبعة عشر عاماً!
أما كيفية تعامله مع الممثلين، وخصوصاً أولئك الذين يعملون معه لأول مرة، فهو سعيه بطريقة أو أخرى جعلهم لا يخشونه. يقول:
" إذا كان الممثل مضطرب، خائف أو متوتر، فخلال خمس دقائق، خمس دقائق فقط من التحدث معه يمكنه أن ينسى كل ذلك.
عموماً، أنا أحب أن يدخل الممثل موقع التصوير وهو يحاول أن يجرب أفكار الفيلم، وأن يعطيني أشياء أكثر من تلك التي فكرت أنا فيها. الجميع حقق ذلك في فيلم (عصابات نيويورك) وخصوصاً ليوناردو دي كابريو.
أحب أيضاً أن أشعر بالمتعة في موقع التصوير، هناك حيث ينبغي أن تسود روح النكتة والأبتهاج والأثارة وأشياء أخرى. إلا أن ذلك لايعني أنني أستمتع فقط في سير عملية التصوير من دون أن يكون لديّ صدامات ومواجهات أثناء ذلك.
بلى، ثمة الكثير من المواجهات والتعارضات، إلا أنني أعتقد أن أشياء مثل هذه ينبغي عادة أن تقع بعيداً عن موقع التصوير."..
كان طريق مجايلته المخرجة مارثا كوليدج ( 1946 ـ ) قد تقاطع مع طريقه في العديد من المرات بدءاً من مقابلتهما الأولى في معهد السينما في نيويورك أواسط الستينات، وطوال مشوار طقسهما الأبداعي. إلا أنها مع ذلك تعترف قائلة:
" لقد كنت على صلة وثيقة بقساوة مارتي نحو وحشية العالم والناس الذين يعمل عنهم أفلامه.
سكورسيزي واحد من الـمبدعين المحترفين والخلاقين في مهنة الأخراج السينمائي، المخرج الذي يفكر بأعمال فذة واسعة وكبيرة.
على الرغم من الواقعية الصارخة لأفلامه أحياناً، إلا أنها تتحدث بالمجازات والرموز وتتفجر بالأيحاءات الحسية المجردة. كل شيء يمتلك مغزىً في أفلامه، حتى الطريقة التي تدخل فيها الشخصية إلى إطار اللقطة.
في نفس الوقت توجد ثمة حيوية وعفوية هائلة في عطاء ممثليه له، بسبب دعمه لهم وثقته بهم، لأنه يعبأ كثيراً بمهنته ورؤيته كمخرج، لذلك تراه يعمل دائماً بهذه الطريقة، فضلاً عن ذلك، مارتي هو أنسان عظيم و مربّي عظيم لجيل كامل من المخرجين الشباب."..
" لا يوجد مخرج أمريكي حيّ، ولن يكون هناك أحد، بمقدوره اليوم أن يضاهي سكورسيزي، وربما لفترة غير قصيرة، منذ أورسن ويلز وهيتشكوك وجون فورد ". هكذا يقول عنه روجر إيبرت:(***) مضيفاً: "وهو لغاية اليوم، حين تتحدث معه أو تلتقي به، تحس أنه إنسان غارق طوال وقته في عالم آخر، هو عالم الفيلم.".
أما حكايته مع جائزة الأوسكار فهي حكاية ذو شجون وظنون، فهي في كل مرة تضل طريقها إليه، فعلى الرغم من ترشيح أفلامه التالية لنيل الجائزة إلا أنها أصبحت من نصيب آخرين:
ـ الثور الهائج 1980 ( ذهبت الجائزة لفيلم " أناس عاديون " لروبيرت ريدفورد)
ـ الأغواء الأخير للمسيح 1988 ( ذهبت لفيلم " رجل المطر " لباري ليفنسون )
ـ الرفاق الطيبون 1990 ( ذهبت لفيلم " الرقص مع الذئاب " لكيفن كوسنر )
ـ عصابات نيويورك 2002 ( ذهبت لرومان بولونسكي وفيلمه " البيانو " عن محرقة اليهود )
ـ الطيار 2004 ( ذهبت إلى فيلم كلينت إيسوود "طفل المليونير دولار")..
مع ذلك، ثمة شيء ينبغي أن يحسب لسكورسيزي وهو أنه إستطاع أن يحقق ذات الجائزة لأبطاله وبعض العاملين معه، فالممثلة إيلين بريستين حصلت على جائزة أوسكار كأفضل ممثلة في فيلم "لم تعد آليس تعيش هنا بعد الآن" عام 1975. كذلك روبرت دي نيرو، فقد حصل على تلك الجائزة كأفضل ممثل في فيلم "الثور الهائج"، والذي نالتها فيه ثيلما سكونميكر أيضاً كأفضل مونتاج للفيلم. أما ليوناردو دي كابريو فقد حصل عليها كأفضل ممثل في فيلم "الطيار"، و ثيلما سكونميكر، مرة أخرى، كأفضل مونتاج له.
شابلن، هاورد هوكس، أورسن ويلز، هيتشكوك و سدني لوميت، ومن قبلهم غريفيث صاحب الملحمة العظيمة "مولد أمة" هؤلاء الذين خلقوا أسطورة هوليوود، غادرونا من دون أن تعثر الأوسكار على الطريق الذي يهديها إليهم!. وهذا هو المضحك المبكي، على حد قول سكونميكر.
مسك الختام
يتهيأ سكورسيزي منذ أشهر لأنتاج فيلم بعنوان "الراحل| وهو سيرة ذاتية للرئيس الأمريكي تيودور روزفلت، المقتبس عن الكتاب "صعود تيودور روزفلت" للكاتب أدموند موريس، الكتاب الحائز على جائزو بوليتزر. وقد إشترت شركة بارامونت بيكتشر حقوق الكتاب لأنتاجه سينمائياً في العام القادم، حيث سيقوم بكتابة السيناريو له نيكولاس ميير، وسيتولى إخراجه مارتن سكورسيزي. أما بطولة الفلم فقد أنيطت إلى الممثل الأمريكي ليوناردو دي كابريو، الذي كان قد لعب الدور الرئيسي في فيلمين سابقين لسكورسيزي، الأول "عصابات نيويورك" والثاني "الطيار".
التصريح الأخير الذي أدلى به سكورسيزي في مهرجان مراكش السينمائي الأخير لهذا العام هو إستعداده للتحضير لتصوير فيلم " صمت " الذي يحكي قصة مهاجرين برتغال رحلوا إلى اليابان في القرن السابع لنشر المسيحية هناك، وهي فكرة كانت قد راودته منذ مايقرب العقد من الزمن، إلا إن "عصابات نيويورك" هي التي أرجأته.
أما تصريحه الآخر والذي كما يبدو مسك الختام، فهو محاولته العزوف عن أخراج الأفلام الروائية ورغبته في العودة ثانية لأخراج الأفلام الوثائقية بسبب سّنه، كما يقول.
العودة إلى منزل الطفولة
على الرغم من أن سكورسيزي يبغض أن يختار فيلمه المفضل من بين أفلامه، إلا أن الفيلمين الذين ضلا قريبين إلى قلبه هو الفيلم الوثائقي " الأمريكي ـ الإيطالي " الذي أخرجه عام 1974 والذي هو عبارة عن محادثة طويلة حميمة وشيقة مع والديه كاترين وتشارلي سكورسيزي وهما يجلسان على مائدة الطعام في منزلهما، يحكيان عن تنشئتهما الأيطالية قبل هجرتهم إلى أمريكا. الفيلم هو بمثابة نوستالجيا لمنزل الطفولة، ورحلة داخلية للبحث عن أسلاف حلقوا كالغبار في فضاءات المهاجر والمنافي.
أما فيلمه الوثائقي المفضل الثاني " رحلتي إلى إيطاليا " 1999 فهو الآخر نوستالجيا لأفلام الطفولة، فيه يتابع ويحلل السينما الأيطالية منذ الأربعينات وحتى الستينات، تلك الأفلام التي شهدها في طفولته، والتي أضاءت له الطريق إلى المجد.
يقال أن سكورسيزي كلما شاهد هذين الفيلمين أغرورقت عيناه بالدموع.
هوامش:
(*)
ولد مارتن سكورسيزي عام 1942 من إبوين صقليين مهاجرين. كان والده يعمل كاوياً للملابس، ووالدته تخيط الثياب في المنزل في منطقة كوين، الحي الأيطالي الصغير في نيويورك.
كان مارتن طفلاً هادئاً يعاني مرض الربو المزمن وعاهات جسدية أخرى أقصته تماماً عن ممارسة الرياضة والأختلاط بأطفال منطقته، أولئك المولعين بالشجار، كما يقول سكورسيزي في سيرته الذاتية، وهو ذات السبب الذي دفع والديه حينها إلى أخذه لدور السينما لمشاهدة الأفلام لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون معه.
حين اكمل المدرسة دخل ديراً، حيث كان ينوي يومها أن يصبح راهباً، إلا أنه توقف عن الذهاب إلى ذلك الدير بعد عام، وتفرغ للشيء الذي كان مولعاً به في طفولته وهو مشاهدة الأفلام.
وهكذا أنفق الكثير من فترة صباه وحيداً جالساً في قاعات السينما أو مشاهدة أفلام سينمائية في التلفزيون، وفي عودته إلى المنزل كان يشرع حالاً في رسم ذلك الفيلم الذي شاهده، لقطة بلقطة، على ورق دفاتره المدرسية.
إلتحق أواسط الستينات بمعهد الفيلم في جامعة نيويورك وحصل على شهادة الباكلوريوس في بحثه " الفيلم كوسيلة لنقل المعلومات " و ماجستير فن في نفس المجال عام 1966، مما أهلـّه للعمل في نفس المعهد بدرجة أستاذ، حينها كان حصل على الكثير من الجوائز على أفلامه المدرسية القصيرة تلك، أمثال " ماذا تفعل فتاة جميلة مثلك في هذا المكان؟ " عام 1963 و " لستَ وحدك فقط يا موراي " عام 1964، وفيلم " Big Shave " الذي حاز هو الآخر على جوائز من مهرجانات سينمائية عديدة.
بقي مارتن في الجامعة لغاية عام 1970 وكان قد أنجز حينها فيلمه الروائي الأول " من ذا يطرق بابي؟ عام 1968، وهو مشروع صغير الحجم يتحدث عن شبان أمريكان ذو أصول إيطالية، وهو مثل كل أفلامه الروائية الأخرى، يخفي تحت جنباته سيرته الشخصية، مؤكداً فيه على دراسة الشخصية أكثر منه دراسة للحبكة الدرامية.
في عام 1970 عمل مونتيراً مساعداً في الفيلم الموسيقي الوثائقي Woodstock لمخرجه مايكل وادلي، وكان فيلماً عن موسيقى الروك. وكان سكورسيزي قد حصل أيضاً على خبرة عميقة في مجال الأنتاج حين عمل مساعداً ومسؤولاً للأنتاج في الكثير من الأفلام الوثائقية أمثال " Medicine Ball Caravan " لـريتشنباخ عام 1971. بعدها عمل ولفترة قصيرة في الوحدة التلفزيونية BC في برنامج لتغطية إنتخابات المرشح هيبرت همفري.
أما فيلمه الروائي الثاني "عربة بيرثا" فقد أنجزه عام 1972 وهو الفيلم الذي أدخله الجادة التي ستقوده إلى العمل ضمن منظومة هوليوود، والذي كان قد رصف الطريق له للصعوده الأستثنائي في السنوات اللاحقة.
فيلمه المميز الأول كان "الشوارع القذرة" 1973 وهو مثل فيلمه السابق "من ذا يطرق بابي؟" تجري أحداثه في "إيطاليا الصغيرة" الحي النيويوركي الذي نشأ فيه، وكان قد لعب فيه الممثل هارفي كيتيل دور الشاب الأمريكي ذو الأصول الأيطالية، الأنسان الذي هو على خلاف ونزاع مع سكنة الحي القذر الذي يعيش. مرة أخرى يجري التأكيد هنا على تطور ونمو الشخصية منه إلى الخط التقليدي للحبكة.
أما أسلوبه البصري فيمكن متابعته منذ الآن من خلال الحركة المتواصلة لكاميرته، وهي حركة متوترة وعصبية، تعكس حياة المدينة. تلك العناصر التي سنعثر على دراسة أعمق وتعبير مؤثر لها بشكل أكثر تفصيلاً لاحقاً في "سائق التاكسي". على الرغم من أن الفيلم أخفق في شباك التذاكر، إلا أن فيلمه اللاحق" لم تعد آليس تعيش هنا بعد الآن"، الذي أنجزه بعد عامين، وهو فيلم تجاري تقليدي، سيحقق أرباحاً خيالية، بسبب ثيمته التي تتحدث عن حرية المرأة.
1976 هو عام "سائق التاكسي" الفيلم الذي حاز على جائزة كان الذهبية، والذي يصور شخص عائد من حرب فيتنام مصاب بمرض الهذيان. في هذا الفيلم يدين سكورسيزي الحرب أولاً، ثم يسلط الضوء، بشكل متقد ومقلق على الجانب القذر والمتعب لحياة المدينة. مرة أخرى يجري التشديد هنا على الشخصية التي جسدها روبرت دي نيرو، والتي تعكس رؤية المخرج لكآبة وعصاب المجتمع المديني.
1977 هو عام فيلمه الموسيقي "نيويورك نيويورك" الذي هو بمثابة شوق وحنين لأفلام هوليوود الموسيقية في الأربعينات، حيث لعب الدوران الرئيسيان فيه كل من روبريت دي نيرو و ليزا مينيللي. أما في عام 1980 فقد صور سكورسيزي بواقعية مروعة وقاسية القوة الجسدية المتوحشة لبطل الملاكمة الأمريكي ذو الأصل الأيطالي جاك لاموتا، في فيلمه " الثور الهائج " الذي حاز بطله روبرت دي نيرو والمونتيرة ثيلما سكونماكر على جائزة الأوسكار، وكان الفيلم يومها قد رشح لنفس الجائزة كأفضل فيلم ومخرج. ومواصلة لنفس الخط الذي كان يشغل باله في ما يتعلق بالجانب المعتم لحياة المدينة أخرج سكورسيزي فيلم " ملك الكوميديا " 1983 وهو كوميديا درامية سوداء حادة تتحدث عن هاو ٍ طموح بشكل مفرط ( لعب دوره روبرت دي نيرو أيضاً ) يدفعه إلى إحداث دمار وخراب وفوضى مرعبة. في هذين الفيلمين ركزّ سكورسيزي على تلك الثيمة التي تكاد تخترق جميع أفلامه، وهي مأزق الأنسان اليائس غير القادر على التحكم في نفسه أو مصيره يمكن لنا توصيف شخصيات سكورسيزي منذ الآن بأنها شخصيات عنيفة بشكل جنوني كما لو أنها تحاكي البنى الأجتماعية القمعية التي يعيشون فيها، ففي فيلم " الثور الهائج " مثلاً، نعثر على ملاكم يحمل في أعماقه نزعة المشاكسة والقتل، يتملكه الغضب داخل الحلبة وخارجها على حد سواء.
بعد عامين يظهر فيلمه المدهش الأنيق " بعد الساعات " الذي هو بمثابة كابوس كوميدي يحكي هو الآخر الأفكار الغريبة لحياة المدينة خلال ليلة واحدة ليس لها نهاية، والذي حصل على جائزة كان كأفضل أخراج.
بعد فيلمه " الثور الهائج " بدأ سكورسيزي يتقهقر إلى الوراء حيث أصبح منذ تلك الفترة يتبّـل أفلامه بنكهة تجارية هوليوودية في أفلام مثل ( لون المال، خليج الخوف، وغيرها ) لغرض إكمال مشروعه الأكثر شخصية ألا وهو ( الأغواء الأخير للمسيح ) 1988، المأخوذ عن رواية كازنتزاكي، الفيلم المثير للجدل والذي يروي شخصية المسيح الأنسان المعّرض للأغواء، والذي يتعذب ضمن محاور تتوزع بين النزاع الداخلي، الشك الذاتي والرغبات الأنسانية كلها.
تعرّض الفيلم يومها إلى إحتجاج عنيف من قبل للفاتيكان إلا أنه رغم ذلك حاز على جائزتين، الجائزة الذهبية في فينيسيا وجائزة الأكاديمية.
من عام 1993 وحتى عام 2001 أنجز سكورسيزي أفلاماً مثل "سن البراءة" الفيلم المقتبس عن رواية أديث وارتون التي تحمل نفس العنوان والحائزة على جائزة نوبل عام 1920، وهو فيلم ينأى عن أن يكون قصة حب مستحيله قدر ما يقترب من أن يكون تحليلاً لسلوك الطبقات العليا النيويوركية تلك الفترة.
يليه فيلم " كازينو " 1995، وهو الفيلم الذي جمع فيه المخرج المضامين النظرية والأسلوبية لأعماله المبكرة، حيث العالم الساحر للمافيا والتقسيمات المرعبة للسلطة.
في عام 1997 يعود سكورسيزي مرة أخرى إلى معالجة الثيمة الدينية في فيلمه "كاندان" من خلال متابعة وتحليل شخصية القائد التيبيتي دلاي لاما الرابع عشر، الملك ـ الأله الذي يعيش في منفاه شمال الهند منذ أربعة عقود. أما آخر فيلمين أنجزهما المخرج فهما الملحمة الضخمة "عصابات نيويورك" و فيلمه الأخير "الطيار" 2004
لقد أستطاع سكورسيزي في عمله أن يناغم ما بين الأبداعي والتجاري، وهذا ما نجده ساطعاً في فيلمه "عصابات نيويورك" 2002، هذه الملحمة الهائلة التي استحوذت على إهتمام الناس بعد سبعة أشهر تصوير لها في ستديوهات إيطاليا. أما فيلمه الأخير وليس الأخير فهو "الطيار" 2004 الذي يتحدث عن وهج ودفق الطموح الذي لايحّد، من خلال شخصية الملياردير والمخرج والطيار هاورد هيوز، الشخصية السيكوباتية التي توزعت طموحاتها بين المال والفن والنساء والطيران، حيث لعب الدور الرئيسي فيه المثل ليوناردو دي كابيريو...
الثور الهائج (1980)
الفيلم الشهير بقطعاته المونتاجية المثيرة لمشاهد الملاكمة تلك التي أصبحت في ما بعد مادة دراسية في الكثير من معاهد السينما في العالم، وهو من بطولة روبرت دي نيرو، وكان الفيلم قد حاز على جائزتين للأوسكار، واحدة لروبرت نيرو والثانية للمونتيرة سكونميكر.
(***)
روجر إيبرت
هو رئيس قسم النقد السينمائي لجريدة " شيكاغو سان تايمز" والمشارك في إعداد وتنظيم برنامج جمعية الفيلم Ebert amp; Roper.
***
فيلموغرافيا
( مارتن سكورسيزي: ولد في 17 نوفمبر 1942... )
الأفلام الرئيسية:
1968 من ذا يطرق بابي؟
1972 عربة بيرثا
1973 الشوارع القذرة
1975 لم تعد آليس تعيش هنا بعد الآن
1976 سائق التاكسي
1977 نيويورك نيويورك
1980 الثور الهائج
1983 ملك الكوميديا
1985 بعد الساعات
1986 لون المال
1988 الأغواء الأخير للمسيح
1989 قصص نيويوركية
1990 الرفاق الطيبون
1991 خليج الخوف
1993 سن البراءة
1995 كازينو
1997 كاندن
1999 إخراج الموتى
2002 عصابات نيويورك
2004 الطيار
القسم الثاني:
"ينبغي أن يكون الممثل حُرا.. أو هكذا يجب أن نفكرّ " (مارتن سكورسيزي)
انقر هنا لقراءة الحلقة الأولى: شاشة مارتن سكورسيزي
إعداد وترجمة علي كامل: هذا اللقاء كان قد أجراه الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي لورينت تيراد في نيويورك صيف عام 1997، حين كان يومها مراسلاً صحفياً لمجلة الفيلم الفرنسي Studio، وقد كان اللقاء بواعز ٍ من الممثلة السينمائية جودي فوستر Judie Foster التي أختيرت وقتها لمنصب المحّرر الفخري لتلك المجلة وأرادت أن يكون مخرج فيلمها المفضّل "سائق التاكسي" واحداً من تلك الأسماء التي يتضمنها كتابه:(1) في مقدمة هذا اللقاء يصف لورينت تيراد إنطباعاته لدى رؤيته المخرج السينمائي الأمريكي مارتن سكورسيزي لأول مرة بقوله:
" إحدى أكثرالأشياء المدهشة والملفتة التي تواجهك حين تقابل مارتن سكورسيزي هي طريقته السريعة في الحديث، وإن ما تتوقعه منه هو أن يكون شخصاً رائعاً، وهو حقاً هكذا، إلا إن الأيقاع السريع الذي ينقل به المعلومات إليك يُشعرك بالهلع وبنوع من التهديد من شأنه أن يوقفك عن طرح الأسئلة.
دخلتُ إلى مكتب إدارة إنتاج سكورسيزي الذي يقع في Park Avenue وكانت يداي معروقتان، لأنني من الذين يعتبرون سكورسيزي واحداً من أكثر مخرجي الأفلام إثارة للأنتباه للعقدين الماضيين، فهو منذ فيلمه " الشوارع القذرة " كان قد أدهش المشاهدين وألهم جيلاً كاملاً من المخرجين السينمائيين، أولئك الذين حاولوا كثيرا ً إستخدام الكاميرا على طريقته، إلا أنهم فشلوا في محاكاة قدرته وإتقانه في إستخدامها.
كان سكورسيزي يتململ على كرسيه بعصبية في بداية اللقاء، ربما لأنه كان منشغلاً بفيلمه "كاندن" أنذاك، حيث كان حينها في مرحلة المونتاج.
لقد أستطعت أن أرى من خلال بريق عينيه أثناء ماكنت أتحدث إليه أن عقله وروحه ومخيلته كانوا منهمكين في ربط اللقطات بعضها مع البعض الآخر. لكنه، حالما بدأت أطرح عليه أسئلة تفصيلية، تـنبّه إليّ وبدأ يركز إنتباهه تماماً، بل إن أجوبته صارت تنهال عليّ بعد قليل بشكل سريع جداً، ومن حسن الحظ أنني كنت قد جلبت معي جهاز تسجيل لأستطيع اللحاق به! ".
***
الدرس السينمائي الأول للمخرجين الشباب
كان لديّ شيئاً ما من الخبرة في مجال التدريس في جامعة كولومبيا في الفترة التي كنت أعمل فيها على فيلمين، هما " لون المال " عام 1986 وفيلم " الأغواء الأخير للمسيح " عام 1988 .
لم أكن أعرض للطلبة آنذاك أفلاماً أو ألقي عليهم محاضرات في فن السينما، كل الذي فعلته هو أنني جئت فقط لمساعدة المتخرجين منهم، لأقدّم لهم المشورة والملاحظات على الأفلام التي أخرجوها .
الواقع إن أكثر الأشياء إلتباساً وصعوبة وجدتها في تلك الأفلام يتعلق بـهدفها وفحواها، وماذا أراد المخرج أن يوصله إلى المتفرج، وهذه المشكلة يمكن أن تظهر نفسها للعيان بطرق مختلفة عديدة، إلا إن المعضلة الأساسية تكمن في عملية التعامل مع الكاميرا، أعني كيفية توجيهها، لقطة إثر لقطة، وكيف أن كل لقطة تبنى لتخلق مغزى محدد ولتكشف عن شيء ما، أراد مخرج الفيلم من المتفرج أن يفهمه.
يمكن لذلك المغزى، بالطبع، أن يكون فيزيائياً بشكل محض، مثلاً: رجل يدخل إلى غرفة ويجلس على كرسي.
أو من الممكن أن يكون ذلك المغزى فلسفياً أو سيكولوجياً أو متعلقاً بموضوع أو فكرة، رغم أنني أفترض أن الموضوع أو الفكرة يتضمنان أصلاً مغزىً فلسفياً وسيكولوجياً. إلا إنه ينبغي عليك البدء في الأساسيات، وهي:
إلى أين توجه كاميرتك لتعّبر عما دونته على الورق في السيناريو؟
والمسألة هنا ليست فقط توجيه كاميرتك لتصوير لقطة واحدة فقط ، بل لتصوير اللقطة التي تليها والأخرى التي بعدها وهكذا.
ومن بعد ذلك، كيف يمكنك توليف تلك اللقطات بعضها مع البعض الآخر لتخلق جميعها ما تريد قوله للمتفرج.
يمكنني القول دون تردد إن من أكبر المشاكل التي يواجهها المخرج الشاب هي حين لن يكون لديه شيء ليقوله!. وهكذا ترى بشكل ثابت وعلى الدوام، أن معظم أفلام هؤلاء الشباب تكون إما غير واضحة أو أحياناً مبهمة جداً، أو إنها أفلاماً تقليدية عادية جداً، أعّدت إلى حّد ما للسوق التجاري لاغير .
لذا أعتقد أن الشيء الأول الذي تحتاجه لتسأل به نفسك إن أردت أن تعمل فيل