الدراما التي صهرت المجاز بالرمز
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الدراما التي صهرت المجاز بالرمز
(1)UNDER MILK WOOD
"إن الكرة التي قذفتها يوماً نحو السماء لم تعد بعدْ إلى الأرض" (ديلن توماس)
القسم الأول
علي كامل: على الرغم من الموت المبّكر والمفاجىء للشاعر ديلن توماس "توفي وعمره تسعة وثلاثين عاماً" إلا أن إرثه الشعري ومجازاته المبتكرة وقصصه القصيرة ونصوصه الإذاعية أصبحت بمثابة فنارات يستدل بها من يريد أن يبحر لأستقصاء سحر الكلمات.(2)
في كتابه "الشعر والتجربة" كتب الشاعر والناقد الأمريكي أرشيبالد مكليش قائلاً: (إن شعر ديلن توماس لايُنسج من الأفكار إنما من الكلمات، فقصيدته تتشكل في العلاقة بين الكلمات كأصوات، أما المغزى فهو تلك القيمة التي يثيرها بناء الكلمات كأصوات أكثر منه بناء الكلمات كمعانٍ. هذا التكثيف الشديد للمعنى الذي نشعر به في القصيدة، أي قصيدة، إنما هو محصلة لبناء تلك الأصوات.)..
لقد أصبحت شاعراً لأنني وقعت في غرام الكلمات (د. ت)
ـ الأتجاهان الرمزي والسوريالي في الشعر الفرنسي.
ـ المناخات الروائية والشعرية لتوماس هاردي.
ـ نتاجات معاصره جيمس جويس التي أعارته الطاقة النثرية الخصبة والديالوغ الفنتازي وتقنية الأيقاع والبناء الزمني للحدث والشخصية، تلك العناصر التي إستمدها من قراءته لـ "يوليسيس" و "صورة الفنان في شبابه" و "الدبلنيّون".
ـ على صعيد اللغة، كان جيرارد هوبكنز هو الشاعر الذي منحه المجاز الرحب والتقنيات العروضية
والإيقاع الداخلي للجملة الشعرية وهارمونيتها ضمن إطار البيت الواحد.
ـ البحوث السيكولوجية لسيجموند فرويد كانت مصدراً خصباً في إغناء مخيلة الشاعر، لاسيما الجانب المتعلق بالجنس والدوافع الشهوانية، اللذان شكلا نبعاً لإرواء مناخات مسرحية "Under Milk Wood"، فالجنس برموزه وأشكاله المتنوعة يكاد يسكن متن النص وفحواه.
ـ الأناجيل وسير اللاهوتيون والقصص الدينية التي إطلع عليها الشاعر بمختلف نصوصها وتفاسيرها قد إنعكست الكثير من مضامينها بجلاء في كتابات ديلن لاسيما في Under Milk Wood، حيث الشاعر والكاهن جينكينس الذي يحمل بين جوانحه روحية المبّشر أو كاهن المدينة ورمزها الأخلاقي، وهو صورة لديلن نفسه.
ـ رافد آخر، هو طبيعة البيئة العذبة لشواطىء ويلز وغاباتها ومدنها الساحلية الصغيرة التي لونت مخيلة الشاعر ووسعت إمكاناته في هذا المزج الموسيقي المذهل بين صوت الطبيعة وحوارات المخلوقات. فإيقاع الكلمات يردد صدى موج البحر وترنحات القوارب، صوت الأشجار وهبوب الرياح، دقات ساعات المدينة وأجراس كنائسها.
إن ما يميز ديلن توماس عن غيره من الشعراء هو قدرته الفذة على إبتكار مجازات غرائبية مركبّة. الناقدة كريستين بروك روز في كتابها (قواعد المجاز) تقول: "إن لدى ديلن توماس مجازات صعبة وغريبة، هي بمثابة خلاصة منطقية لشكسبير وهوبكنز من جانب، وبلوك وييتس وإليوت من جانب آخر. لقد إستطاع ديلن توماس حقاً أن يصهر المجاز بالرمز".
ميزة أخرى إتسّم بها الشاعر أيضاً هي قابليته الفذة والمدهشة في إلقاء قصائده، فحين سمعه أرشيبالد مكليش مرة وهو يقرأ قصيدته الشهيرة "لاتمضي وديعاً في هذا الليل الساحر" كتب قائلاً: "... إن ديلن توماس هو أروع من يقرأ شعره بين من عرفناهم من الشعراء..". (3)
لاريجاب تلك المدينة المجنونة
في عام 1943 بدأ ديلن معالجته لتلك الفكرة بأسلوب يجمع بين سمات المسرحية والقصيدة الشعرية، وقد كان كتب أجزاء منها وأسماها "المدينة المجنونة"، إلا أنه توقف عن كتابتها فيما بعد.
في صيف عام 1951 أكمل قصائده الثلاث "مرثية"، "عيد ميلاد الصبي الويلزي"، "لاتمضي وديعاً في هذا الليل الساحر"، ليستأنف في العام التالي عمله على مسرحية "المدينة المجنونة" منجزاً نصفها تقريباً هذه المرة، وقد نشر هذا النصف بعنوان جديد هو "لاريجاب ـ مسرحية للألقاء" في المجلة الأمريكية Botteghe Oscure التي كانت تصدر في إيطاليا.
1953 هو العام الأخير من حياة الشاعر وUnder Milk Wood)) هو العنوان الأخير لهذا النص الدرامي الشعري الوحيد الذي كتبه ديلن في حياته والذي كان قد إستغرق في كتابته على نحو متقطع ما يقرب من عشر سنوات منجزاً إياه في الشهور الأخيرة قبل وفاته.(4)
لابد من الأشارة هنا إلى أن صديق طفولته وكاتب سيرته الموسيقار الويلزي "دانيال جونس" يذكر في كتابه (صديقي ديلن توماس) من أن النص لم يكن مكتملاً لأن ديلن توفي فجأة وهو يعمل على القسم الختامي منه.
***
الوثائقية الشعرية
ليس هناك شخصيات رئيسية أو حدث مركزي واحد أو حبكة رئيسية واحدة في المسرحية، إنما هناك سلسلة من الشخصيات والأحداث والحبكات ذات البناء الدائري المتوازي.
على الرغم من فانتازية الشخصيات وسورياليتهم إلا أن أرملة الشاعر كاتلين توماس تشير في كتابها (المذكرات والسيرة الذاتية) إلى أن ديلن كان إستلهم ملامح تلك الشخصيات وبناءها من خلال مراقبته الصباحية والمسائية لأهالي لافارنا، مدينته الصغيرة، وهو جالس يحتسي شرابه في مكانه المفضل "براون هوتيل" الذي هو عبارة عن حانة ومكان لمراهنات الخيل. أما لاريجاب، هذه المدينة الخيالية، فقد أريد منها أن تكون معادلاً بصرياً وروحياً لمدينة لافارنا، التي هي بمثابة المكان الآمن الذي أنفق الشاعر فيه طفولته وصباه.
المسّنون من أهالي لافارنا يتذكرون ديلن جيداً حين كان يجلس في تلك الحانة (حانتهم) يشرب ببطء ويستمع إلى أحاديثهم بشوق ورهافة ودفىء. يقول أحدهم:"كان ديلن يمسك بقلم رصاص يدوّن كل شيء على قصاصات ورق أو علب دخان أو حتى ظروف رسائل ويدسها في جيبه دون أن يقول السبب ثم يخرج، وبعد قليل يعود ثانية ليسأنف الكتابة". الآخر يضيف:"كنا نظنه شخص غريب أو مجنون ولم نحسب أننا سنكون مادة خام لمسرحيته المقبلة".
إن هذا المزج الخلاق بين الواقعي والفنتازي أعطى لهذه الدراما ـ القصيدة شكلاً مبتكراً يمكن أن نطلق عليه تسمية هي "الوثائقية الشعرية".
حين بثت المسرحية بعد موت الشاعر بأشهر عبر إذاعة بي بي سي، إمتعض الكثير من أهالي لافارنا، لأنهم أحسوا أن شاعرهم كان يسخر منهم، فيما كان هو يقول عنهم أنهم الناس الحقيقيون، بل أنه رأى نفسه واحداً منهم، حسب حديث "الصوت الأول" في المسرحية.
وهج الأحلام وسحر الكلمات
وليس ثمة حركة سوى همس القوارب وهي تترنح مضطربة على الشاطىء، والقطط تموء بخلسة وهي تمشي بحذر على حواف السطوح، أما الشوارع فهي صماء كأنها ملفعّة بعُصابة، والمنازل الشبيهة بأشباح تقارن بحيوانات الخلد العمياء، والجياد بتماثيل منحوتة من الفحم، والحوانيت تبدو كما لو أنها في حِداد، وكأن المدينة أصابها الخرس!.
إن هذا المقطع قد وُظف هنا ليكون بمثابة إستهلال وإستعداد للدخول إلى فضاء الحلم، حيث الراوي
وهو يقدم لنا تشكيلة كثيفة من سكنة المدينة وسط هذا السكون وهم أسرى أحلامهم وكوابيسهم. الشخصيات تعيد لنا تشييد هذه المدينة الفانتازية لاريجاب لندخل ليس فقط في فضاءات أحلامهم، إنما لنشهد حماقاتهم وإبتهاجاتهم ومآسيهم اليومية أيضاً متابعين معهم رحلتهم الحلمية خلال المساء الأول والفجر ثم الظهيرة فالمساء التالي.
إدفنوا الموتى خشية أن يسيروا إلى القبر مُجهدين
مقطع من قصيدة ديلن "خمس وعشرون عاماً"
في هذا الحلم يشهد القبطان غرق سفينته ورجاله وحبيبته روزي. القبطان شخصية مركزية في المسرحية فهو من يستهل المساء الأول ويقفل المساء الثاني، وقد صوره الشاعر أعمى ليوسع من بصيرته الداخلية، فعلى الرغم من فقدانه البصر إلا أنه يعرف كل مايدور في مدينته الصغيرة من خلال حاسة السمع التي تلتقط كل همسة أو حركة صغيرة. حواراته مع الغرقى مؤثرة وبسيطة وعادية، فيها يتذكرون إبتهاجاتهم الصغيرة يوم كانوا أحياء. أحدهم يخبر القبطان أنه مات في نانتوكيت والثاني يبوح له بحبه لروزي والثالث يقول أن حوتاً قد إبتلعه، والرابع يسرد سيرته بشكل موجز ويقول أنه مغني عظيم، يضرب الآن على الطبول مع حوريات البحر، وإنه مدمن على تناول المشروبات الثقيلة، وأنه ضرب القبطان مّرة على رأسه بقنينة، إلا أنه مات أخيراً من أثر البثور.
غريق آخر يطلب من القبطان أن يقول لعمته بأنه رهن ساعتها الثمينة. أما روزي فتخبرنا أنها توزع عنوانها الشخصي على الفتيان وتناديهم أن ينهضوا ليتبعونها، وفي الآخِر تخبرنا أنها ماتت. يختتم الغرقى بعد ذلك حديثهم بسؤال حزين: "كيف هي الحياة على الأرض!؟" مناشدين قبطانهم بأن لاينساهم، وينتهي الحلم بدعوة القبطان لهم إلى مأدبة للوداع.
إن حوار كهذا لايبدو محادثة عادية بقدر ماهو شيء قريب الشبه بمقطوعة موسيقية تضيء ذاكرة الحالم. فكلمات الغرقى ذاتها تشيّد بشكل يتماهى وبناء النوتة الموسيقية حقاً. مانحسه هنا هو الحنين إلى تلك الأيام، إلى ذلك الماضي البسيط الذي يتردد صداه في كل أرجاء العرض.
ينقلنا "الصوت الأول" لنتعرف على الآنسة برايس، الخيّاطة وصاحبة محل بيع الحلوى، وهي نائمة فيما "الصوت الثاني" يخبرنا أنها تحلم بعشيقها السيد موغ أدواردس تاجر الأقمشة الذي يكتب لها أنه يحبها أكثر من حبه لجميع أقمشته التي يبيعها ويدمغ لها رسائله الغرامية تلك بختم المتجر منتظراً إياها في أعلى الهضبة لممارسة الحب. أما هي فتقول أنها تفضل الأبقاء على علاقة رومانتيكية عبر تبادل الرسائل الغرامية فقط.
ـ ننتقل لشخصية الأسكافي جاك بلاك الذي يوصف هنا بأنه ينام مقيدّ القدمين خشية أن تداهمه دوافع خارجة عن إرادته أثناء النوم.
يخبرنا "الصوت الثاني" إن جاك يحلم وهو يحصي فضائح المدينة ويشكو من صعوبة العيش فيها، إلا أنه مع ذلك لايستطيع مغادرتها لأنه يأمل في إمكانية إصلاحها!.
ـ جاك يحلم أنه أشبه بحارس أخلاقي يحمل فانوسه في المساء يضرب السكارى في الحانة، ويتجه صوب Milk Wood متعقباً العشاق مهدداً إياهم بالعقاب.
ـ إيفانز ذه ديث مسؤول دفن الموتى يحلم أنه يتذكر ويبكي بمرارة لأنه سرق الجزر من والدته قبل خمسين عاماً حين كان طفلاً. يصفه الصوت الأول أنه كان تعيساً في طفولته، وحيداً ومنعزلاً في شيخوخته.
والدو يحلم الآن بطفولته يوم كانت والدته تلقبه بـ "الخنزير الصغير"، ويتذكر كيف كان يقلد صوت أمه وزوجته وأبناء الجيران فتختلط عليه الأصوات، صوت الطفل بصوت الرجل. نعرف عبر الشائعات أنه زوج صعب المراس ولديه علاقة حب سرية مع بيتي روز ويُعتقد أنه والد الطفل الذي أنجبته.
ينتقل الحلم إلى فترة شبابه وزواجه فتمتزج طفولته بمراهقته وشبابه ونسمعه يبكي وهو يتلقى الشتائم من الجيران الذين يطالبون بإحالته إلى المحكمة بسبب سرقاته الصغيرة وتحطيمه زجاج النوافذ في طفولته، ومطارداته الفتيات في شبابه، وسوء معاملته لزوجته وأمه في كهولته.
والدو هذا يتجسد في أربع شخصيات تظهر في وقت واحد بشكل متوازي (يؤدى من قبل أربعة ممثلين) من الصعب التمييز بينهم إلا من خلال مراحل عمر الشخصية.
ـ السيدة أوغمور بريتشارد، المترملة من زوجين إنتحرا بإبتلاعهما مبيد للحشرات بسبب إستبدادها وبرودها الجنسي. إنها تحلم الآن وهي تصدر أوامرها إليهما لتظيف فندقها الصغير الذي يقبع في أعلى التلة، وتطلب منهما عدم دخول الفندق إلا بعد أن تلمّع الشمس أحذيتهما، فيستجيبان لأوامرها مثل طفلين ذليلين. بعدها تطلب السيدة أوغمور من كل واحد منهما خلع بيجامته لممارسة الجنس معها بالتناوب!. (واضح هنا أن الشاعر ديلن توماس أراد أن يعبّر عبر هذه الشخصية عن بغضه وإشمئزازه الشديد من السلوك الشائن والبارد لنساء المدينة عموماً).
ـ غوسامير بينون معلمة وإبنة قصاب تحلم أنها تجلس في مطبخها الشبيه بمسلخ تبحث في كومة من ريش الدجاج عن رجل بذيل كثيف، وحين لاتعثر عليه وسط الريش تستأنف بحثها هذه المرة في حقيبة أوراقها المدرسية.
ـ أورغن مورغن عازف الأورغن ينام ويحلم أنه يقود حفلاً موسيقياً وسط شارع كورونيشن وينضم إليه كل أهالي المدينة.
ـ الراعي أوتا وتكنز يحلم وهو يحصي عدد ماشيته حسب أسمائها ويقتل إحدى بقراته لأنها أخرجت له لسانها في إحدى المرات!.
ـ ويللي نيللي ساعي البريد يحلم وهو يوزع الرسائل في نومه فيما زوجته تفتح له الرسائل عبر بخار الأبريق ليطلع عليها.
ويللي هذا يحلم حين يعود إلى المنزل كل مساء وهو يضرب زوجته على قفاها ظناً منه أنه باب المنزل، فيما هي تحلم بتلك الضربات التي كانت تتلقاها من المعلم حين كانت تتأخر عن المدرسة في طفولتها وتتوسله بالكف عن الضرب. في كل مساء يأتي ويللي إلى المنزل ليضربها على قفاها تظن أنها تأخرت عن المدرسة!.
ـ أوكي بائع الحليب يحلم أنه يفرغ أوعية الحليب في النهر لأستخراج الزبدة ويهمس لنفسه على مضض أن الكلفة لاتعني شيئاً، فيما يخبرنا "الصوت الأول" أن أوكي يبكي مايعادل بكاء موكب عزاء كامل.
ـ تشيري أوين المدمن يحلم أنه يرّج إبريق البيرة فتخرج له سمكة من عمق الأبريق فيبتلعها حالاً ليتحول فجأة إلى سمكة. أما زوجته السيدة تشيري فلديها زوج آخر غير تشيري لايشرب الكحول، لذا هي تعتبر نفسها زوجة محظوظة لأنها تحب رجلين أحدهما سكير والآخر صاحي. إنها تجلس مع تشيري السّكير كل صباح على مائدة الفطور لتسرد له مافعله في الليلة الماضية.
ـ القصاب بينون يلازمه كابوس واحد هو أن الشرطة تلاحقه لأنه يبيع لحوم القطط والكلاب والبوم والبشر!.
ـ السيد بوخ معلم المدرسة يحلم أنه يقلبّ صفحات كتابه المفضل عن السموم لتدبير مكيدة لتسميم زوجته.
ـ سنباد سيلرس يعانق وسادته الرطبة ظناً منه أنها المعلمة غوسامير بينون.
ـ ماري آن سيلرس تحلم بمدينتها لاريجاب أنها جنة عدن.
ـ اللورد كات كلاس بائع الساعات يحلم بأجراس ساعاته الفانتازية الـست والستون توقظه وتحذره من هجوم مباغت على دكانه.
ـ السيد بوخ والسيدة أورغن مورغن يصوران بحيوية عبر مجازات حيوانية: فالسيد بوخ يقارن بالثعلب الماكر والسيدة مورغن بالسنجاب.
ـ ليّلي سمولز تحلم أن مغولياً يهجم عليها في مبنى غسل الملابس ليغتصبها.
ـ ماي روز كوتيج تتخيل نفسها عارية وهي بإنتظار السيد رايت.
ـ المومس بولي غارتر تحلم بثرثرة العجائز وشائعات الأهالي حول عشاقها وكثرة أطفالها الذين لايُعرف آباؤهم. في أغنيتها تخبرنا أن لها عشاق كثيرون لكنها أحبت شخصاً واحداً فقط هو ويلي وي.
ـ بيسي بكَهيد (صاحبة الرأس الكبير) تحلم وهي تقطف الزهور من الغابة لتضعها على قبر الصبي الذي قبّلها مرة في طفولتها من دون أن تراه.
تنتهي هذه الأمسية بحلم الشاعر ريفيريند جينكنس وهو يبتكر أوزاناً شعرية جديدة ويتذكر موسيقى ويلز وشعرها في غابر الأزمان ويقول: "شكراً للرب لأنه منحنا أمة موسيقية".
يبزغ الفجر وتستيقظ المدينة على صوت أجراس المرفأ يقرعها القبطان فيما نرى الشاعر جينكينس يجلس عند عتبة داره يقرأ قصائد الصباح وهي تمجّد المدينة مناشداً الرب أن يمنح المغفرة للضعفاء والمدمنين والمخطئين.
"الصوت الأول" يصف النهار بشمسه الربيعية وضجيجه، الحوانيت والأزقة، الكنيسة والمدارس، وآثار عشاق الليلة الماضية في Milk Wood.
القبطان وهو يقلي السمك في قاربه يردّد أغاني تلاميذ المدرسة وينصت لثرثرات النسوة قرب مضخة الماء وهن يتهامسن حول المومس بولي غارتر.
ساعي البريد وهو يوزع الرسائل.
المعلمة غوسامير تفتح نافذتها لتعلن للناس عمرها الحقيقي.
السيدة أوغمور بريتشارد وهي تطارد أشعة الشمس بمضربة الذباب.
الصيادون وهم ينهمكون في إصلاح شباكهم وقواربهم.
الشاعر جينكينس وهو يوزع الحلوى على المرضى منشداً قصائد وصلوات إلى الرب ليمنح أهالي مدينته مساء آخر ليعيشوا، وحين ينتهي من ذلك ينهمك في آخر الصباح بإكمال مجلده الضخم "الكتاب الأبيض" الذي يتناول فيه التأريخ والتأريخ الطبيعي لمدينته لاريجاب.
إن وظيفة الصوتان الأول والثاني هو إلقاء الضوء على الشخصيات فقط من دون إصدار أية أحكام عليها، فهي ُتقدمّ هنا مثلما هي دون إدانة أو شجب. وهما، أي الصوتان، يغفلان، ربما عمداً، عن عيوب تلك الشخصيات ومثالبها، ويدفعاننا إلى الضحك أكثر من توجيه اللوم أو النقد، ولاشك أنهما في ذلك إنما يعبران عن موقف ديلن الفلسفي من أن الناس ينبغي أن يُقبلوا كما هم فضائلهم وزّلاتهم.
القبطان الأعمى والشاعر جينكينس يمثلان مركزين أخلاقيين في هذه المسرحية، الأول بسخريته المرّة وشفقته التي ليس لها حدود، والثاني بسماحته الواسعة وتفاؤله الكبير من إمكانية إستعادة المدينة لعافيتها.
بقصيدة الشاعر الثانية ينتهي النهار ليحل المساء الثاني وتجتمع الشخصيات جميعاً في حانة المدينة يلوكون أحاديث النهار وقصصه وأسراره بلغة تهكمية مبتذلة تثير حزن القبطان وشفقة الشاعر. وهكذا تغفو الشخصيات ثانية كما لو أنها عودة دائرية إلى نقطة البدء حيث القبطان ينام بحزن في قاربه يحلم بزوجته المتوفاة روزي ورفاقه الغرقى ويدعوهم إلى مأدبة الوداع.
أصوات النسوة وهن يهدهدن الأطفال.
الفتيات يجلسن أمام مراياهن يتزّين للقاء الفتيان المنتظرين في الشارع، فيما يستأنف الشيوخ جلستهم في الحانة يحكون قصص النهار.
الشاعر جينكينس جالس وهو يدوّن ذكريات ماضي مدينة لاريجاب.
السيد والدو يغني أغنية عن أطفاله القساة مشبهاً إياهم بسخام المدخنة.
أورغن مورغن يعزف على الأورغن في الكنيسة، فيما يضطجع تشيري أوين قرب شاهدة قبر في مقبرة الكنيسة يشرب ويصغي إلى أنغام موسيقاره المفضل باخ القادمة من الكنيسة.
السيد أدواردس والآنسة برايس يكتبان رسائل حب أحدهما إلى الآخر على الرغم من أنهما لن يلتقيا مطلقاً.
السيد والدو يجوب الغابة لممارسة الحب مع بولي غارتر التي مازالت تنشد أغنيتها الحزينة لذلك الطفل الميت الذي أحبته ويلي وي.
فجأة يسود صمت مطلق ويهدأ كل شيء. بعده بقليل يتسلل صوت ريح ربيعية تداعب أشجار Milk Wood الغافية على التلة فيما يضرب موج البحر حواف القوارب بدفىء من الطرف الآخر للمدينة.
***
بـيبلوغرافيا
ولد الشاعر ديلن توماس في مقاطعة سوانسي الساحلية لمدينة ويلز عام 1914 وتوفي في نيويورك عام 1953.
1934 صدر ديوانه الشعري الأول "ثمان عشرة قصيدة".
1936 " ديوانه الثاني "خمس وعشرون قصيدة".
1939 " ديوان شعر وقصص بعنوان "خارطة الحب ـ قصائد وقصص"، إلى جانب مختارات من قصائد ونثر بعنوان "العالم الذي أتنفسه" وهو المجلد الأول الذي نشر في أمريكا..
1940 هو العام الذي غادر فيه ديلن مدينته لافارنا إلى لندن حيث صدرت له مجموعة قصصية هناك بعنوان "Portrait of the artist as a Young Dog".
1940ـ1943 عمل ديلن في لندن مع شركة سينمائية تدعى "ستاندرد فيلم" بمثابة كاتب سيناريو وصار يتنقل ما بين لندن وويلز.
1943 أصدر ديواناً شعرياً جديداً في الولايات المتحدة بعنوان "قصائد جديدة".
1946 صدر له في الولايات المتحدة ديوانان هما "فواجع ومباهج" و "كتابات مختارة".
زيارات متقطعة ما بين إيطاليا وبراغ وأكسفورد شاير توجّت بعودته عام 1949 ليقيم ثانية في لافارنا في منزله الساحلي الشهير "المنزل الزورق".
1950 رحلته الأولى إلى الولايات المتحدة.
1951 سافر إلى إيران لكتابة سيناريو فيلم أنتجته شركة النفط الأنكليزية الأيرانية.
1952 زيارته الثانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ونشره "قصائد مختارة 1934-1952".
1953 الزيارة الثالثة لأمريكا.
1953 العرض الأول لمسرحية Under Milk Wood في نيويورك حيث قرأ ديلان نص المسرحية بمفرده.
1953 نشر له سيناريو فيلم " ليس هناك مكان في الفندق" المقتبس عن مسرحية "الطبيب والأشرار" للكاتب المسرحي جون تيمبل.
توفي ديلن توماس في 9 نوفمبر من عام 1953 في مستشفى القديسة فينسينت في مدينة نيويورك بتأثير إدمانه على الكحول، ونقل جثمانه إلى مدينته لافارنا ليدفن في المقبرة التابعة لكنيسة القرية.
***
هوامش
(1)
عنوان المسرحية Under Milk Wood يمكن أن يحمل أكثر من دلالة، فـMilk Wood هو إسم إفتراضي لرابية مشجرة تشرف على قرية "لاريجاب" الساحلية، وهو بمثابة ملتقى للعشاق ومخبأ لمارسات الحب غير المشروع.
إن الكلمتين Milkwood إذا دمجتا بهذه الطريقة لتصبح كلمة واحدة فإنها تعني: أشجار متنوعة، أو مشروبات تستحضر من عصير الفواكه المسكرة، أو حليب الأشجار أي عصارته اللزجة السرية. والحليب مجاز هو الآخر يحمل بالطبع أكثر من دلالة لعل أقربها إلى روح النص هو (الطفولة والأمومة، الخصوبة والجنس).
من الممكن أيضاً أن Milk Wood هي تلك البيوت القروية البيضاء المتناثرة وسط الأشجار الخضراء لقرية "لاريجاب".
الناقد البريطاني كولن مير في ملاحظاته حول هذا النص يشير في كتابه: Notes on Under Milk Wood قائلاً:
(يوحي العنوان إلى أن قرية لاريجاب تقع تحت غابة العشاق Milk Wood، إلا أنه يلمّح في ذات الوقت إلى أن كل مايحدث هناك هو الذي يتحكم بحياة تلك القرية أو "مكان الحب هذا" كما يرد في النص.
أما الدلالة الأكثر مباشرة لـ "Milk Wood" فهي تتأتى من إستخدام معنى مفردة "حليب" كصفة تستدعي أو تستحضر أرض زراعية تقع على رابية في لاريجاب، لكن بما أن "الغابة" هنا هي المكان الذي يرتاده العشاق كثيراً طوال النص، فإن كلمة "Milk" يمكن جداً أن تحمل دلالات إيروتيكية).
(2): كتب ديلن مرة رداً لأحد المعجبين بشعره قائلاً: "القصائد الأولى التي كنت أعرفها كانت عبارة عن ترانيم أطفال. لقد أحببت فيها كلماتها فقط، أما دلالاتها أو ما كانت ترمز إليه تلك الكلمات فلم يكن هذا الشيء يعنيني على الأطلاق. الصوت، الصوت ذاته كان هو الشيء المهم، صوت الكلمات تلك التي سمعتها لأول مرة كانت بالنسبة لي بمثابة نوتات أجراس، أنغام آلات موسيقية، ضجيج الريح والبحر والمطر، جلجلة عربات باعة الحليب، ضربات حوافر على الحصا، نقر الأغصان على زجاج النافذة. شيء ما يشبه إحساس الشخص الذي ولد وهو أصّم وفجأة بدأ يسمع."
(3): كتاب "الشعر والتجربة" تأليف أرشيبالد مكليش وترجمة سلمى الخضراء الجيوسي ص19. منشورات دار اليقظة العربية ـ بيروت 1963.
(4): كانت هيئة الأذاعة البريطانية بي بي سي قد بثت هذا النص في 25 يناير من عام 1954 أي بعد شهرين من وفاة الشاعر وقد لعب الممثل ريتشارد بيرتون شخصية الصوت الأول. أما ظهوره الأول على خشبة المسرح اللندني فقد كان عام 1956 على قاعة مسرح نيو ثياتر ( ألبيري الآن).
الفيلم الذي أقتبس من المسرحية والذي يحمل ذات العنوان كان قد أفتتح مهرجان فينسيا عام 1972 والذي أنتجه وأخرجه المخرج السينمائي أندريه سنكَلير ولعب ريتشارد بيرتون دور الصوت الأول والمعلق ولعبت إلى جانبه زوجته إليزابيث تايلور دور روزي بروبرت أما دور القبطان الأعمى كات فقد لعبه المثل البريطاني بيتر أوتول.
(5): لاريجاب هو موقع جغرافي إفتراضي كان قد إستخدمه ديلن في قصة "الطفل المحترق" عام 1934 مشيراً إلى أن معناه هو أنثى الخنزير!. وقد إستخدمه أيضاً كمكان في قصة أخرى بعنوان "بساتين الفاكهة" القصة التي نشرها له تي. أس أليوت في مجلة "المعيار" عام 1936.
إنتهى القسم الأول وسيتبعه القسم الثاني (المعالجة الأخراجية)