ثقافات

لو لم يكن مارادونا لاعب كرة، لكان ثائراً

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إمير كوستوريكا"كثيرة هي الكتب التي كتبت عني وعديدة هي الأفلام التي صورتني، لكنها جميعاً أظهرتني إنساناً شريراً وسيئاً وعادياً للغاية بغية الإساءة لي. أما كوستوريكا، فقد إستطاع أن ينفذ إلى أعماق قلبي، أن يتحدث عني ومعي ليستكشف اللحظات الجميلة والسيئة في حياتي". (مارادونا) تقديم وترجمة علي كامل: "مارادونا لكوستوريكا" هو عنوان الفيلم الوثائقي الأول للمخرج السينمائي البوسني ـ الصربي إمير كوستوريكا، والذي يشارك في الدورة 61 الحالية لمهرجان كان السينمائي خارج المسابقة الرسمية. مارادونا وكوستوريكا غنيان عن التعريف، الأول هو "الطفل الذهبي" كما تحب شعوب أميركا اللاتينية مناداته، والذي ترك بصمته الراسخة كأفضل لاعب كرة قدم في العالم بعد هدفه الشهير الذي حققه ضد فريق إنكلترا في بطولة كأس العالم عام 1986، الهدف الذي يسميه كوستوريكا "هدفٌ من أجل ترسيخ العدالة".
أما إمير أو "الغجري الأخير"، فهو المخرج السينمائي الذي سبق له أن فاز بسعفتين ذهبيتين في مهرجان كان عن فيلميه: "حين كان أبي في رحلة عمل" عام 1985 وفيلم "أندرگراوند" عام 1995(1).
وفيلمه الجديد عن مارادونا هو الفيلم الوثائقي الأول له. مارادونا وكوستوريكا هما بمثابة إلتحام متجانس لعبقريتين خالصتين في ميداني السينما وكرة القدم. كان كوستوريكا قد بدأ العمل على هذا الفيلم منذ عام 2005 والذي كان ثمرة لدعوة وجهّها المخرج لدييغو مارادونا لزيارته في منزله في صربيا، تلك الزيارة التي أسست لعلاقة حميمة وصادقة بين إثنين مشاكسين للسائد، والتي توجت أخيراً بمشروع عمل الفيلم هذا.

كان كوستوريكا حينها قد أجرى حواراً طويلاً وعميقاً مع مارادونا في لقاء تلفزيوني قال فيه للصحافيين يومها:"إن مارادونا فتح لي قلبه". لم تجر عملية إنجاز الفيلم بيسر، فقد توقف العمل على الفيلم أكثر من مرة لأسباب كثيرة لامجال هنا للبحث فيها، إلا أنه أستؤنف فيما بعد بحماسة شديدة وتم الإتفاق على أن يتزامن إكمال الفيلم مع إفتتاح مهرجان كان الحالي.

يقول كوستوريكا بشأن فكرة الفيلم أثناء فترة التحضير والتصوير له: "ربما سيكون هو الفيلم الأول الذي يعالج كل جوانب حياة مارادونا. وسيكون العمل عليه معقدا جداً بالطبع لأنني أريد أن أظهر الشخصية الحقيقية لهذا الإنسان.
الفيلم يتناول ثلاث شخصيات لماردونا تلك التي إستطعت إكتشافها أثناء عملية التصوير: الأولى، معلم كرة القدم ولاعبها الخلاق، والثانية، المواطن الأرجنتيني المشاكس للسياسة الأميركية أحادية الجانب. وأخيراً، الإنسان المولع بالحياة العائلية بثبات. ستتجلى هذه الشخصيات الثلاث في نهاية الفيلم تماماً والتي سأصورها في ملعب "آزدك" في المكسيك، المكان الذي سجل فيه مارادونا أحد أشهر الأهداف خلال بطولة كأس العالم عام 1986 ضد المنتخب الأنگليزي". في كل لقاء يجري معه كان كوستوريكا يشدد على أنه سيُظهر الصورة الحقيقية لهذا اللاعب الأرجنتيني الذي وصمته الصحافة الصفراء في السنوات الأخيرة بالإدمان على الكحول والمخدرات والشراهة في الأكل.

سيصور الفيلم أيضاً، حسب كوستوريكا، الرؤى السياسية الخلافية لمارادونا، إنتقاده وشجبه لسياسة الولايات المتحدة إلى جانب إعجابه بحركات التحرر في أميركا اللاتينية ممثلة بإرنيستو تشي جيفارا وفيديل كاسترو، اللذين هما من أقرب أصدقائه، كما يقول. وكوستوريكا يشارك مارادونا رؤاه ومواقفه إزاء سياسة الولايات المتحدة الأميركية، وكان قد شارك في موكب الإحتجاج ضد زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش للأرجنتين عام 2005، بمصاحبة مارادونا والرئيس الفنزويللي تشافيرز المعروف بموقفه الأنتقادي والأكثر راديكالية لإدارة بوش الأبن.
في الواقع ثمة إعجاب متبادل بين الإثنين، فمارادونا معجب بكوستوريكا، ومصدر هذا الإعجاب ربما هو سحر وغرائبية العالم الذي صوره كوستوريكا في أفلامه. ومن الممكن العثور على أكثر من قاسم مشترك بين الإثنين، ربما أحدها هو ذلك التماهي بين الحياة الهامشية لشعوب دول البلقان وبين الأحياء الفقيرة في بوينس آيرس. الشيء الآخر، هو معالجة كوستوريكا لموضوعة "الموت" التي يقابلها عند مارادونا تجربة الموت التي قاساها، فمعروف للجميع أن مارادونا قد تعرض لموت سريري إستغرق مدة أربع دقائق وبعث ثانية إلى الحياة. في أفلام كوستوريكا نجد الشخصيات تموت ثم تبعث ثانية من جديد دون أي تفسير، بل يضعك المخرج أحياناً في موقف ملتبس تحار دون معرفة أنهم أحياء أم موتى!. مارادونا نفسه كان يفكر بالموت كثيراً، وكان كثيراً مايكرر في أحاديثه جملة "في الفترة التي مّت فيها" أو حتى "في الفترة التي مّت فيها حقاً".
الموت السريري لمارادونا كان قد أذهل يومها علماء الطب وأصدقاءه معتبرين نجاته بمثابة "معجزة إلهية".
أما كوستوريكا فقد عبّر عن حبه وإمتنانه لصديقه مارادونا بهذه الكلمات الحميمة قائلاً:"أنا معجب بقلقه حول مايدور في العالم، معجب بمرحه وإنسانيته". وهكذا فقد شيّدت بينهما صداقة حميمة وفريدة من نوعها، حيث التماهي بالرؤى ذاتها في السياسة والثقافة والحياة عموماً.
صديق ثالث إنضم للمشاركة في هذا الفيلم هو المغني والمؤلف الموسيقي الفرنسي الباسيكي مانو تشاو، المعروف بإهتماماته الجادة بمواضيع العالم الثالث الرئيسة كالفقر والعنصرية، والتي كثيراً ما إستخدمها وبشكل مكرر في أغانيه، فضلاً عن مشاركته الإثنين الموقف السياسي ذاته إزاء الولايات المتحدة الأميركية.
وحول مشاركته في الشريط الموسيقي للفيلم يقول مانو:" إلتقينا نحن الثلاثة في ناپولي وطلب مني إمير أن أغني (سانتا مارادونا) لكنني لم أحبذ الفكرة، لذا قمت بتأليف وتلحين أغنية جديدة خاصة بالفيلم هي بعنوان (الحياة مغامرة)".

عموماً، يمكن للمرء أن يتوقع من كوستوريكا فيلماً مشاكساً سياسياً آخر، ومن المحتمل جداً أن يكون رائعة سينمائية أخرى تضاف إلى رصيده الألق.


***

"الفقر أقدم من الغنى"

" ثمة أولاد زنى يقفون دائماً في صف واحد من أجل أن يسحبوك إلى الأسفل بإتجاه الأرض.
ينبغي علينا أن نحّلق عالياً بين الحين والآخر، وعلينا جميعاً أن نحس بتلك البهجة. وبدون ذلك نحن لاشيء". كوستوريكا

* الحوار أدناه هو حوار حميم جرى بين دييغو مارادونا وإمير كوستوريكا في صربيا عام 2006، حين كان مارادونا ضيفاً في منزل كوستوريكا، وقد نشر يومها في الصحيفة الصربية "السياسة".

كوستوريكا: (تعليق)
دييغو مارادونا إنسان كان يحس برغبة شديدة في الثأر لحظة توجيهه الكرة نحو هدف إنگلترا خلال مباراة كأس العالم عام 1986، ليس هو فحسب، بل السبعة عشر لاعباً الذين كانوا يقفون خلفه في تلك اللحظة، أولئك اللاعبون الذين قدموا من أجل إعادة الكرامة لكل الناس المهانين لسنين وسنين والذين كانوا بإنتظار لحظة الثأر هذه. لم يعد هناك لاعبو كرة قدم يقفون إلى جانب الفقراء بعد لاعب الكرة الألماني پاول بريتنر سوى مارادونا. إنه بالنسبة لي في تلك اللحظات القليلة والحاسمة، لم يكن يوجه الكرة نحو الهدف فحسب، إنما هدّفها نحو مارغريت تاتشر، رولاند ريغان، بريطانيا العظمى والملكة إليزابيث الثانية والأمير تشارلس، الپاپاجان بولالثاني، وطالما كرة القدم هي لعبة تخييلية، فيمكننا عندئذ أن ندرج إسم جورج بوش الأب والإبن إلى القائمة!.. وبالنسبة لمارادونا كان ذلك كافيا جداً.
ربما يظن بعض الناس أن لاعبي كرة القدم هم أناس أغبياء. ربما الجميع حقاً يظن ذلك. صحيح أنهم غير متعلمين! لكنني مع ذلك لا أتفق مطلقاً بأنهم أغبياء، لأنه كيف كان بإمكانهم عمل كل تلك الملايين من الدولارات في حساباتهم البنكية إن لم يكونوا أذكياء.
حين كنا في الموكب الإحتجاجي المتوجه نحو "مار دل بلاتا" في التظاهرة ضد بوش، وكان مارادونا ضمن هذا الموكب، إكتشفت أن پاول بريتنر لم يكن وحيداً يومها، وأن ماحدث في السبعينات لم يضيع إلى الأبد. في هذا الموكب لم يكن هناك مكان للغباء.الوضع كان على العكس تماماً.

مارادونا:
هل تعرف يا إمير أنني تعلمت كرة القدم في العتمة حين كنت صغيراً. كان ثمة ملعب لفريق من الفئة الرابعة يقع خلف منزلنا. كنت ألعب الكرة كل يوم. وحين كان يغادر بقية الأطفال إلى بيوتهم كنت أبقى لوحدي مدة ساعتين ألعب في تلك العتمة. لم يكن بإستطاعتي رؤية أي شيء في تلك العتمة! كنت أضرب نحو الهدف، كنت أوجه الضربات نحو عصوين كبيرتين بحثاً عن الشبكة. بعد عقد من الزمن وحين وقعّت عقداً لأجل نادي "صغار السن الأرجنتينيين" أدركت أن الكرات التي كنت أضربها في تلك العتمة كانت متقنة وصحيحة تماماً.


كوستوريكا:
أنت ولدت في حي "فاڤل فيوريتو" الذي هو من أكثر أحياء بوينس آيرس فقراً. ينبغي علي هنا أن أسأل عما كان يدور في ذهنك، لأنك لم تنس أولئك الناس أبداً، وبقيت معهم إلى الأبد...

مارادونا:
الفقراء لايخذلونك ولايتخلون عنك أبداً.. معظم أصدقائي خذلوني وأحدهم "كوبولو" مدير فريقي الذي سرقني وسلبني أموالي. أما أبناء الحي الذي كنت أعيش فيه في فيوريتو فقد بقوا مخلصين كما هم. حي فيوريتو مكان حقيقي للفقر. ربما توجد الآن الكثير من الشوارع الإسفلتية هنا وهناك، لكن الفقر بقي نفسه مثلما كان يوم كنت أعيش في ذلك الحي.
السياسيون وأولئك القريبون من الحكومة أصبحوا أغنى وأغنى. أنا أيضاً أتيحت لي الفرصة أن أصبح أحدهم، لكنني رفضت وقلت لا. لأن ذلك يستلزم السرقة من الفقراء. مرة واحدة فقط في حياتي تحدثت فيها مع أناس يشتغلون في السياسة في الأرجنتين، وقلت لهم كل شيء عما فعلوه، لكنهم لم يريدوا سماعي.

كوستوريكا:
بونو فوكس وبوب جيلدوف (2) لم يكونا شهيرين مثلك، لكنهم وظفوا تلك الشهرة جيداً لأعمال خيرية عالمية ولحملات الترويج لأغانيهم في الوقت نفسه. أنت لم تفعل شيئا من هذا القبيل.
مارادونا:
الأموال تسرق الوقت منك ولاشيء آخر!. ينبغي عليك الإحتفاظ فقط بشيء قليل من الكرامة وعزة النفس والعافية. أربعة وأربعون عاماً خلفي الآن ومازلت أدرك حقيقة أن الفقر مازال قائماً. إنني انظر بغضب وحزن إلى التفاوت المخزي بين أولئك الذين يملكون كل شيء، والآخرين الذين هم بلا أي شيء. إنها ليست مشكلة الأرجنتين فحسب، إنما هي مشكلة فنزويلا والبرازيل أو كوبا...

الأميركيون هشموا رؤوسنا ياإمير. أنظر مافعلوه في السبعينات. لقد قزمّونا مثلما أرادوا. إنني أتحدث بشكل مجازي بالطبع... لقد وضعوا نظاماً عسكرياً في الأرجنتين خلّف وراءه ثلاثين ألف قتيل. وبعدها، الشيء ذاته جرى في تشيلي ونيكاراغوا وغواتيمالا.
أولاً يضربونك وبعدها يتركونك تقاسي. لقد عادوا ومعهم الأرصدة والكثير من الأموال، وأنت بقيت مثل كلب وتعيش مثلما يعيش الكلاب. إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً هكذا، وهم لايمتلكون الحق في فرض سياسات عدوانية كهذه علينا. بالعكس، تدخلاتهم السياسية ومساندتهم للأنظمة الفاشية في أميركا اللاتينية وحّدتنا أخيراً. نعم، لقد توحّدت الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا وعدنا مرة أخرى لنقول معاً وبصوت عال وواضح في وجوههم كل مانعتقده بذلك القاتل بوش.
أنا لاأعرف لماذا أحكي لك كل هذا أخي إمير وأنت تعرف كل ذلك، ألست على معرفة بذلك؟ ماهي مشاعرك إزاء ماقلته؟

كوستوريكا:
يعجبني مشهد تشارلي تشابلن حين كان يسير مرة في الشارع وإنضم بطريق الصدفة إلى تظاهرة كانت تجري هناك وناوله أحدهم راية!.
دعنا نتحدث عن العلاقات في داخل أميركا. إن كنت أنا قد فهمت الأمور بوضوح، فأعتقد أنهم سحقوا أدمغتكم مثلما مافعلوا بشكل مشابه مع إتفاقيات البترول. لقد أعطوا أموالاً للمكسيك، وهيأوا فرص عمل لأكثر من ثلاثين ألف عامل. بعض المكسيكيين يدفعون أجوراً جيدة، إلا أن الأموال ذهبت إلى بلد أخر وليس إلى المكسيك..

مارادونا:
نعم، ذلك صحيح تماماً! المكسيك أيضاً بلد فقير جداً، عدا أولئك الثلاثين ألف عامل. السياسة الأميركية فعلت الشيء نفسه في كل أنحاء هذا الكوكب، وهي القصة ذاتها دائماً. أخذوا الثمار وتركوك مجرّد أشلاء..

كوستوريكا:
إذن، ما الذي يمكن فعله إزاء كل ذلك. إنه الوضع ذاته منذ زمن الفراعنة والأمبراطورية الرومانية؟

مارادونا:
ما العمل؟ من الصعب تغيير الأشياء، إلا أن الشيء المهم هو أن بوسعنا أن نتحدث عن ذلك في الأقل. لسوء الحظ، الپاپا نفسه لايريد التحدث عن المشكلة، وحتى وأن فعل ذلك.. ليس في ذهن الپاپا سوى شيء واحد فقط: كيف يمكن الحفاظ على الڤاتيگان، تماماً مثل الأميركيين.
الڤاتيگان غني جداً ويمتلك نفوذ إمبراطورية قوية. جون پول الثاني لم يكن في أفريقيا قط. لم يذهب إلى هناك لتقبيل الأرض وإطعام الأطفال الجائعين، ولم يكن في الأرجنتين يوماً. لكنه أخذ المئة وخمسين مليون دولار، المخصصة لعمل إعلانات تجارية لجهاز الواقي المطاطي ( (
condoms لتفادي إنتشار مرض الإيدز في أفريقيا.
الوكالة أعطت الأموال كلها للحملة الدعائية تلك، لكن الپاپا إعتقدَ أن ليس هناك حاجة ملحة للتوعية والدعاية للواقي المطاطي.! لذا فقد صادر تلك الأموال، وكل ذلك مدعم بوثائق الفاتيكان نفسه. ولم يكن بوسع أحد أن يتحدث عن ذلك بالطبع، ولم يشر أحد حتى ولو بإشارة عابرة كيف تخلى البابا عن أفريقيا.
كوستوريكا (معلقاً)

حين إقتربنا من "مار دل بلاتا" كان المحتجون نائمين، ويمكنك بشكل معلن وجلي ملاحظة أن التضامن كان شيئاً منسياً، تماماً مثل الشخصيات التي كنا نراها في أفلام السبعينات، حيث كانوا يفضلون الحفاظ على مصائرهم دون أي شيء آخر.
أعتقد أن كل كلمة نطق بها مارادونا تعبر عن قلقه وحرصه وفهمه لعالم اليوم.
كان ياماكان، كان هناك شخص شبيه بالرب، شيء ما شبيه بأسطورة جلجامش، تلك القصة الملحمية عن تحطيم رّب صنع من الطين.
منذ إن كان مارادونا هو الوحيد وساحر الكرة الأفضل في العالم، إلى اللحظة التي أغلقت فيها كل الأبواب بوجهه وهو يختنق. لقد أصبح لصيقاً بمكان لايمكنه فيه أن يتنفس، ولم يكن يعرف إلى أين يذهب. نعم لم يكن الهواء كافياً، ولم يخبره أحد أن سموّه وكبرياءه هذا هو شيء غير مُؤمّن بالنسبة إليه!.
وهكذا ابتدأ يتعاطى الكوكايين، تماماً كما في جلجامش "إله الطين" يوم ارتطم بالأرض. لقد بدأ رحلة البحث عن نفسه مثل ذلك الرجل الذي ظهر في دعاية المعكرونة والذي يشبه رعاة البقر البدينين في جنوب أميركا. وحتى وهو في تلك اللحظات الصعبة حاول العودة إلى مكان يستطيع فيه أن يتنفس الهواء الكافي، أن يكون "شخصاً سوياً" لكن ذلك أوصله إلى حالة من الموت السريري لأربع دقائق.

لقد أصبح الحلم بعيداً! وها أنا شاهدٌ أجلس على كرسي بالقرب منه. إنني محظوظ جداً أيضاً لإنني أصبحت جزءاً من استرداده لعافيته!. لقد تخلى الجميع عنه، سوى عائلته وفيديل كاسترو. عندما أغلقت مستشفى بوينس آيرس الأبواب في وجهه، تلقفه كاسترو.
بوسع الناس الظن أن مارادونا لايمكنه العيش مطلقاً من دون مخدرات لأنه لايستطيع تحمل عبء الشهرة، لكن ذلك ليس هو السبب الوحيد فقط!.
يمكن للمرء من خلال تأمله لسيرته الذاتية ملاحظة أن مارادونا لم يكن يهتم أو يعتني بنفسه، لكنه، وفي لحظة واحدة، يعرف كيف يتولى أمر نفسه.
حين أصبح لاعباً محترفاً عرض النادي الرياضي "ريڤر بلاتا" عليه الكثير من الأموال، لكنه رفض وذهب إلى نادي "بوكا جونيارز" هناك حيث حاول بعض مؤيديه إبتزازه بالتهديد، لكنه قاتلهم بضراوة. حين كذب عليه مدربه قام بتحطيم غرفة الملابس في الملعب. لم يكن المال بالنسبة لمارادونا هو "الحلم" مطلقاً، بل هو مجرد تبديد للوقت كما يقول..

مارادونا:
اتذكر حين كنت طفلاً يوم عاد والدي مرة من العمل وكان يومها لم يتقاض مالاً يكفي لإطعام ثمانية أطفال. كنا ننتظره بصمت لأنه لم يكن لدينا طعام لنأكل. الناس لايمكنهم أن يفهموا ذلك، وأعني بالخصوص أولئك الذين لم يتضوروا جوعاً يوماً ما.
كان على شقيقتي تناول القليل من الطعام لكي توفر لي وجبة غداء. في جو كهذا أخي إمير تتفجر لديك حالات من التعاطف الإنساني والحب والشفقة، وقصص الطفولة تلك لايمكن أن تتلاشى هكذا بيسر.
كانت والدتي تختلق أوجاعاً في معدتها لكي توفر الطعام لنا، وكنت أراقبها على الدوام وهي تتطلع بحزن في أواني الطعام لتتأكد ثانية وثانية إن كان هناك طعام أم لا.
أمي، هي النموذج الساطع للفقر، نعم.. تصور أن أمك تكذب من أجل إطعامك. ربما البعض يظن أن هذا نوع من الخيال العلمي، لكن صدقني يا
أخي إمير، هكذا كانت حياتنا، وأنا أقول لك الحقيقة.

كوستوريكا:
نعم إنه الفقر بعينه، وهو شيء محزن حقاً. المصيبة إن بعض الناس ينسون ذلك بسرعة. وأنت، كيف بقيت تحتفظ بكل هذه المشاعر من طفولتك.

مارادونا:
أنا لم أنسَ!. لاأستطيع أن أنسى! الفقر هو أقدم من الغنى! كان والدي يعمل في سوق كڤانتاكا، وكان دائماً يحمل على ظهره حقائب ثقيلة، حتى حين أصبح مسّناً. وحين يصل البيت كانت والدتي تضع قطعاً من الثلج على رقبته وظهره لتخفف من آلامه. أما نحن الأطفال فقد كنا نجلس حوله مثل القطط، وكان ذلك أشبه بنوع من الطقوس التي لايمكن أن تمحى من ذاكرتي...

كوستوريكا:
دعنا نتحدث عن الأرستقراطية وسط الفقراء من الناس. ماهي الذكرى الأكثر جلاء لديك من فترة طفولتك؟

مارادونا:

الكرامة! الكرامة!. نحن لم نحتفل يوماً بعيد ميلاد لأحدنا لأننا لانملك المال لفعل ذلك. الأصدقاء والأقارب كانوا يمنحونك قبلة بمناسبة عيد ميلادك، وتلك القبلة كانت بمثابة أكبر هدية. بوسعي الحديث كثيراً عن البورجوازية والفقر، وأنا لاأضع أيّ فوارق مطلقاً، لكن هذا ليس شأن الآخرين الذين اصبحوا أغنياء. أنا ليس لدي أي شكوك أن الناس يتصرفون بشكل توفيقي لكي يكونوا قريبين من السياسيين، والسياسيون بدورهم يستخدمونهم حين يحتاجون لخدماتهم.
إذا أنت لم تتكيف مع صورة كهذه فانت مجنون. نعم، وأنا هو ذلك المجنون، وأفضل أن أكون مجنوناً، وبعدها عليّ أن أتحمل ماسيحل بي.
أتعرف يا إمير إنني مت لأربع دقائق؟ بعدها فقط بدأت أعرف ماذا تعني الحياة...

كوستوريكا:
منذ أثيوبيا ومنظمة "لايڤ أيد" وبوب جيلدوف أغنى بكثير من ذي قبل. بونو فوكس نفسه على سفر دائم إلى كل أنحاء المعمورة في سعي لإقناع رؤساء الدول إلى إلغاء ديونهم على الدول الأفريقية. حتى أنه جرب مفاتحة بوش نفسه بهذا الأمر.

مارادونا:
شيء واحد أعرفه فيّ هو أن ليس لدي الشجاعة الكافية للتعامل مع بوش...
كوستوريكا:
لماذا؟
مارادونا:
لأنني لاأحبذ تناول الطعام مع سفاح.

كوستوريكا:
ماركيز قال لي مرة إنه بوسعنا قول أشياء كثيرة عن كاسترو، بإستثناء أنه كان حامي إرث الثقافة الأسبانية في أميركا اللاتينية.

مارادونا:
نعم هذا صحيح، لكن الأرجنتين أصبحت جزءاً من الولايات المتحدة الأميركية. الأرجنتينيون باعوا كل مايملكونه للأميركيين، الجزء الجنوبي من الأرجنتين، المنطقة الخصبة والنقية من البلاد بيعت. لهذا فإن كل ماكان يتقاتل من أجله كاسترو فقدناه! بهذه الأموال أصبحنا مجرد أحد الأجزاء الأستعمارية لأميركا، وها أنك ترى كيف توسعوا وإنتشروا في كل أنحاء الدنيا...

كوستوريكا:
وكيف قابلت كاسترو؟

مارادونا:
كنت قد حصلت على جائزتين في عام1987. واحدة في كوبا والأخرى في أميركا. قلت للأميركيين:"يمكنكم الأحتفاظ بتلك الجائزة" وذهبت مباشرة إلى كوبا.
قابلت فيديل وتحدثنا لمدة خمس ساعات عن تشي جيفارا وعن الأرجنتين. بالطبع كنت فتىً حين قرأت عن الثورة وعن شجاعة جيفارا، وفيديل... لقد شعرت بالحب نحو فيدل حقاً!. أتخيله أحياناً مثل أسد وهو يقاتل من أجل بلاده. إنه السياسي الوحيد، إذا أردنا تسميته هكذا، الذي لم يفكر يوماً في السرقة من الفقراء.
***
هوامش:
(1) فيلموغرافيا: (إمير كوستوريكا: 1954ـ )1981 (هل تتذكر دوللي بيل؟)
1985 (حين كان أبي في رحلة عمل)
1989 (زمن الغجر)
1993 (حُلم أريزونا)
1995 (تحت الأرض)
1998 (قطة سوداء، قطة بيضاء)
2001 (ثمان قصص رائعة) وثائقي
2000 (الفندق الأبيض)
2004 (الحياة أعجوبة)
2007 (أوعدني بهذا)
2008 (مارادونا).. وثائقي طويل

(2)
ـ بوب جيلدوف، موسيقي إيرلندي تحّول إلى ناشط سياسي. عام 1985 جمع بوب أربعين موسيقياً بريطانياً بضمنهم عازف الجاز والروك "ستينك" وعازف القيثار المغني وكاتب الأغاني "بول ماكارتني" لتنظيم حفل موسيقي خيري مليوني لصالح ضحايا الأيدز في أفريقيا. منح وسام الفارس من قبل ملكة بريطانيا ورّشح لجائزة نوبل.
ـ بونو فوكس (وإسمه الحقيق بول ديفيد هيوسن المعروف ببونو) هو مغني وكاتب أغاني وملحن إيرلندي عرف بكونه ناشطاً سياسياً ومدافعاً عن حقوق الإنسان وهو غالباً ماكان يستخدم الثيمات الشعرية والدينية والإجتماعية والسياسية في أغانيه. بونو هو أحد المؤسسين المشاركين لمنظمة (داتا) الخيرية متعددة القوميات والتي أسست عام 2002 لتقديم المعونات لشعوب أفريقيا. عزف بونو وغنى ونظم حفلات خيرية كثيرة وقابل العديد من الساسة الكبار.
رشح هو الأخر لجائزة نوبل ونال وسام "الفارس" في المملكة المتحدة وكذلك نال لقب (رجل العام) من قبل مجلة نيوز تايم الأمريكية.
لندن
alikamel50@yahoo.co.uk

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تعليق
أبو سفيان -

شكرا للأستاذ علي كامل على ترجمة وتقديم هذا النص الصحفي الرائع والشيق، إنه نسيج دقيق لشخصيات تتقاسم الموهبة والإحساس العميق بالحياة

شكرا
الخطيب -

افتقدنا غيابك ايها المبدع .. موضوعاتك سواء عن المسرح او السينما تنم عن موهبة كبيرة ..