ملفات...

لوتريامون وبيرس وقصيدة النثر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قضية لوتريامون (1846-1870) Lautréamont

ولد ايزيدور دوكاس (المعروف باسم لوتريامون، المحرّف عن عنوان رواية لاوجين سو) عام 1846 في مونتفيديو عاصمة الاورغواي، من أبوين فرنسيين مهاجرين. وقبل أن يبلغ السنتين، ماتت والدته.

رحل عام 1859 إلى فرنسا ليتلقى التعليم في مدارسها. بعد أن تنقل من مدرسة إلى أخرى، أستتب في باريس حيث مات في الرابع والعشرين من تشرين الثاني 1870 تاركاً كتيباً صغيراً تحت عنوان "أشعار" وعملا وحيداً مكوناً من ستة فصول عنوانه "أناشيد مالدورور" سيقلب، خصوصاً بعد إكتشافه من السورياليين، كل لغة المستقبل الشعرية. وإن لم يوزّع الناشر الفرنسي الكتاب في السوق، خوفاً من الملاحقة القانونية، فإن صديقاً وفياً له باعه على سبيل الإيداع الائتماني في سويسرا وبلجيكا. على أن لوتريامون، الذي دفع كل نفقات الطبع، بقي يستعلم، عبثاً، عن مصير كتابه، بل أستبد به الشعور بالذنب من أنه كتاب شرير، وبالتالي ليس عليه إلا أن يكتب شيئاً آخر أكثر تفاؤلاً. وبالفعل أخذ لوتريامون يتنكر للكتاب واعداً صاحب المصرف داراس بأنه سيكتب مقدمة لكتابه المقبل الحافل بالأمل، ليقرأها والده فيبعث إليه بالمال الكافي لطباعته. وهذا ما أشار إليه لوتريامون نفسه في توطئة لكتيبه "أشعار". لكن لوتريامون مات قبل أن يكتب مجلد الرجاء هذا، وقبل أن ينزل كتابه في المكتبات بعد أكثر من عشر سنوات، أي عندما حلت أزمة مالية بالناشر فباع النسخ جملة بسعر رخيص.
كتب لوتريامون "أناشيد مالدورور" في الوقت الذي كانت قصيدة النثر تجربة جديدة تتدفق على شكل أعمال لم تتحدَّد قوانينُها. كما أن الأسلوب الذي كتبت فيه هذه الأناشيد تتجاوز إشكالية نظم/نثر، شعر/نثر شعري وإلى آخر الثنائيات التي ميزت كل محاولات التخلص من سطوة النظم. إن النثر المكتوبة به هذه الأناشيد هو اللغة بعينها ككل، جارفة كل ما يريد أن يقف بوجه تدفقها: كما لو أن سد النحو (التراكيب، الأسلوب، الألفاظ) والوعي (الشعور الأعمق، الذهن، الأخلاق) انهدّا كتلةً متماسكة شعراً لم تعد تهمه التحديدات. في الحقيقة إن البعد الجذري لكتاب لوتريامون في تغيير مسار قصيدة النثر سيتضح على يد السورياليين عند اكتشافهم الكتابة الآلية. فإنه التمهيد الأول لكسر كل إطار يريد تحديد قصيدة النثر ضمن شكل منغلق. غير إن الاعتراض على وجوده في أنطولوجيا مخصصة لقصيدة النثر مقبول في حال قبول التعريف الرسمي لقصيدة النثر: قصيرة ومكثّفة خالية من الاستطرادات والتطويل والسرد المفصّل وتقديم البراهينَ والمواعظ، محتفظة بكل مقوماتها التي تجعل منها كتلة مستقلة عن أي مرجع شخصي، وقائمة بذاتها. وهذا يعني أنّه لا يحق لنا استلال مقطع من عمل أدبي طويل. أما إذا حللنا بشكل أبعد عبارة بودلير " اِنزعْ فَقارةً، وسَرَعان ما سينضم وبكل سهولة جزءا هذه الفانتازيا المتلوّية. قطّعها أوصالاً عدة، ترَ أنّ لكلّ وِصلةٍ وجوداً مستقلاً"، فيمكننا أن نستلّ مقطعاً يشكل كتلة متماسكة تستمد وجودها من ذاتها. وهذا ما دفع موريس شابلان الذي وضع أول أنطولوجيا لقصيدة النثر وذلك سنة 1946 إلى نشر مقاطع من "أناشيد مالدورور" معتبراً إيّاها قصائد نثر. ومن بين اختياراته مثلاً هذا الجزء المستل من المقطع الرابع من النشيد الرابع الذي نستهل به المختار من "أناشيد مالدورور" ترجمة سمير الحاج شاهين، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

من "النشيد الرابع"
4
إنّي قذر. القمل يقضمني. الخنازير، عندما تنظر إليّ تتقيأ. قشور البرص وندوبه سفطت جلدي، المغطى بالقيح الأصفر. إني لا أعرف ماء الأنهار، ولا ندى الغيوم. فوق عنقي، كما فوق زبل، نما ثمة فطر ضخم، ذو سويقات صِيوانية. إني لم أُحرِّك، جالساً فوق أثاث بلا شكل محدود، أعضائي منذ أربعة أجيال. أقدامي تجذّرت في التربة وتشكل حتى بطني، نوعاً من نبات حي، مملوء بطفيليات مقززة، ليس مشتقاً بَعد من العشب، ولم يعد لحماً. ومع ذلك فإن قلبي ينبض. لكن أنّى له أن ينبض، لو لم تكن عفونة وفوحانات جثتي (لا أجرؤ أن أقول جسدي) تغذيه بغزارة؟ تحت إبطي الأيسر، اتخذت عائلة من الضفادع لها مقراً، وعندما يتحرك أحدهما، فإنه يدغدغني. حاذروا أن يهرب ضفدعٌ من تحت إبطي، ويأتي يحكّ بفمه، باطن إذنكم: إنه قد يكون خليقاً بعد ذلك بدخول دماغكم. تحت إبطي الأيمن، يوجد حرباء تطارد هذه الضفادع باستمرار، كي لا تموت جوعاً: كل واحد يجب أن يعيش. لكن عندما يُحبط أحد الفريقين حَيل الآخر كلية، فإنهم لا يجدون أفضل من أن لا يتضايقوا، ويمصّون الشحم الرقيق الذي يغطي جوانبي: لقد اعتدت على هذا الأمر. أفعى شريرة التهمت قضيبي وحلّت محله: لقد جعلتني خصيّاً هذه السافلة. آه! ليتني استطعت أن أدافع عن نفسي بذراعيّ المشلولتين، لكني أعتقد بالأحرى أنهما قد تحولتا إلى حطبتين. مهما صار، يهمني تسجيل أن الدم لم يعد يأتي ليُجيل فيه احمراره. قنفذان صغيران، كفّا عن النمو، رميا إلى كلب، لم يرفضه، داخل خصيتيّ، حيث سكنا، بعد أن غسلا البشرة بعناية. الشرج تم احتجازه من سلطعون؛ شجّعه جمودي، إنه يحرس المدخل بمشابكه، ويسبب لي الكثير من الوجع! مدوستان عبرتا البحار، وقد جذبهما مباشرة أمل لم يخب. لقد نظرتا بانتباه إلى القسمين اللحميين اللذين يشكلان المؤخرة البشرية، ومُتشبثتين بحنيتهما المقببة، سحقتاهما بضغط ثابت لدرجة أن قطعتي اللحم اختفتا، بينما بقي مسخان، خارجان من عالم اللزوجة، متساويان في اللون، والشكل والضراوة. لا تتحدثوا عن عمودي الفقري، بما أنه سَيف.

6

كنتُ قد نمت على الشاطئ الصخري، إنْ ذاك الذي طارد، خلال يوم، النعامة عبر الصحراء، دون أن يتمكن من بلوغها، لم يتسنَّ له الوقت كي يتناول غذاءً، ويغمض عينيه. إذا كان هو الذي يقرأني، فإنّه جدير بأن يحزر، عند الاقتضاء، أي رقاد يثقل عليّ. لكن عندما تكون العاصفة قد دفعت سفينة عامودياً، براحةِ يدها، حتّى أعماق البحر، فإنه إذا لم يبقَ من كلّ طاقم الملاحة على الطوف سوى رجل واحد، منهوك من التعب والحرمانات من كلّ نوع؛ إذا أرجحَه الموجُ، كحطام سفينة، خلال ساعات أطول من حياة إنسان؛ وإذا لمحت فرقاطة راحت تمخر فيما بعد هذه المناطق الكئيبة بغطاستها المصدوعة، الشقيَّ الذي يُجيل فوق الأقيانوس هيكله العظمي الناحل، وحملت إليه نجدةً كادت أن تكون متأخرة، فإني أعتقد أن هذا الغريقَ سيحزر أفضل أيضاً إلى أي درجة وصل خدرُ حواسي. إنّ المغنطسية والبنج، عندما يكلفان نفسهما عناء ذلك، يعرفان أحياناً أن يولدا مثل هذه التخشبات البليدة، التي ليس هناك أي شبه بينها وبين الموت: ستكون كذبة كبيرة أن نقول ذلك. لكن فلنصل رأساً إلى الحلم، كي لا يأخذ نافذو الصبر، الجائعون إلى هذه الأنواع من القراءات، يزمجرون غضباً، كسرب من حيتان العنبر الكبيرة الرأس التي تتقاتل فيما بينها من أجل أنثى حبلى. كنتُ أحلم أني قد دخلت في جسد خنزير، لم يكن سهلاً علي الخروج منه، وأني كنت أمرمغ وبري في أكره المستنقعات. هل كانت هذه مكافأة؟ لم أعد أنتمي إلى الإنسانية، وهذا موضوع رغباتي! فيما يختص بي، لقد فهمت التأويل هكذا، وشعرت من جراء ذلك بفرح أكثر من عميق. ومع ذلك، رحت أتقصّى بهمّة أي فعل فضيلة أنجزته كي أستحق، من جانب العناية الإلهية، هذه الخطوة العظيمة. الآنَ وقد استعرضتُ في ذاكرتي مختلف مراحل هذا التسطّح المريع فوق بطن الصوَّان، الذي مرّ خلاله المدُّ والجزر، من دون أن أدرك ذلك، مرتين، فوق مزيج يتعذّر إنقاصه من المادة الميتة واللحم الحي، فأنه قد لا يخلو من الفائدة أن أعلن أن هذا التدهور لم يكن على الأرجح سوى قصاص، أنزلته بي العدالة الإلهية. لكن مَن الذي يعرف حاجاته الحميمة أو سبب أفراحه المفسدة؟ إنّ الإنمساخ لم يظهر قط لعينيّ إلاّ كدويّ عالٍ وشهم لفرح كامل، كنتُ أنتظره منذ أمد بعيد. لقد جاء أخيراً اليوم الذي صرت فيه خنزيراً! جرّبت أضراسي على لحاء الأشجار؛ فنطيستي كنت أتأملها بلذة. لم يبقَ أدنى جزءٍ من ألوهة: عرفت أن أرفعَ روحي حتّى العلو الشاهق لهذه الشهوة الحسيّة الفائقة للوصف. اسمعوني إذنْ، ولا تحمروا، يا رسوم الجمال الساخرة التي لا تنفد، الذين تأخذون عن جد النهيق المضحك لروحكم، الجديرة بالاحتقار إلى أقصى حد، والذين لا يفهمون لماذا استمرأ العلي- القدير، في لحظة نادرة من التهريج الممتاز، الذي لا يتجاوز، طبعاً، قوانين الهزل العامة الكبرى، لماذا استمرأ المتعة العجيبة في أن يعمر كوكباً متحيّراً بكائنات غريبة ومجهرية، يسمونها بشرية، وتشبه مادة المرجان القرمزي. لاشك، إنكم على حق في أن تحمرّوا، وأنتم عظم وشحم، لكن اسمعوني. إنّي لا ابتهل إلى ذكائكم؛ ستجعلونه يبصق دماً بسبب الكره الذي يكنّه لكم: انسوه، وكونوا منطقيين مع أنفسكم... هنا، لا إكراه بعد. عندما كنت أريد أن أقتل، كنت أقتل؛ وهذا الأمر، حتّى، حصل لي مراراً، ولم يردعني أحد عنه. القوانين كانت تلاحقني بعد بانتقامها، مع أني لم أهاجم الجنس الذي هجرته بكل هذا الهدوء؛ لكن ضميري لم يكن يوجّه لي أي توبيخ. خلال النهار، كنت أتصارع مع أشباهي الجدد، والتربة كانت موشاة بعدة طبقات من الدم المتخثر. كنت الأقوى، وكنت أحرز جميع الانتصارات. جراح كاوية كانت تغطي جسدي؛ كنت أتظاهر بأني لا ألاحظها. الحيوانات الأرضية كانت تبتعد عني، وكنت أبقى وحيداً في عظمتي المتألقة. كم كانت دهشتي عظيمة، عندما حاولت، بعد أن كنت قد عبرت نهراً سباحةً، كي أبتعد عن البقاع التي أخلاها حنقي من سكانها، وأبلغُ أريافاً أخرى لأزرع فيها عاداتي في الاغتيالات والمجازر، عندما حاولت أن أمشي على هذه الضفة المزهرة. قدمامي كانتا مشلولتين؛ لم تكن أي حركة تأتي لتخون حقيقة هذا الجمود الاضطراري. وسط جهود فائقة للطبيعة، لأواصل طريقي، استيقظت، وشعرتُ أني أعود إنساناً. العناية الإلهية جعلتني أفهم هكذا، بطريقة ليست متعذرة على التفسير، إنها لا تريد، حتّى في الأحلام، أن تتحقق مشاريعي السامية. الرجوعُ إلى شكلي الأصلي كان بالنسبة إليّ ألماً كبيراً لدرجة أني لا أزال خلال الليالي أبكي منه. شراشفي تظل مبللة باستمرار، كما لو أنها غطست في الماء، وكلّ يوم أغيّرها. إذا كنتم لا تصدقوني، تعالوا لمشاهدتي؛ ستتحققون باختباركم الخاص، ليس فقط من احتمال، لكن، فوق ذلك، من حقيقة زعمي ذاتها. كم من مرّة، منذ تلك الليلة التي أمضيتها في العراء، فوق شاطئ صخري، امتزجتُ بقطعان خنازير، لأستردّ، كحقٍ، انمساخي المقوَّض! حان الوقت كي أهجر هذا الذكريات المجيدة، التي لا تترك، وراءها، سوى المجرّة الشاحبة للحسرات الأزلية.

مسألة سان جون بيرس

في رسالة إلى صحفية أميركية أوضح سان جون بيرس بأن شعره لا علاقة له لا بالشعر الحر، ولا بقصيدة النثر ولا بالنثر الشعري. وإن هو يزيح الفارق بين التقطيع الشعري والكتلة النثرية غير أن شعره يميل إلى الآية التي ترتقي لغتها أحياناً إلى فخامة ملحمية، معتمدة اعتمادا كليّا إيقاعات وزنية.

وكما أوضح مصطفى القصري في مقدمة ترجمته لـ"الفلك ضيقة"، "يكاد يطغى أسلوب الخطابة والاسترسال في هذا الشعر حتى لننسى أحياناً أنه شعر موزون يخضع لقوانين العروض الفرنسي: نجد أن الجملة الشعرية ظاهرها جملة خطابية فنحلل أجزاءها لنكتشف في سرور بأنها مبنية على أحد البحور الشعرية الفرنسية التقليدية مركبة من أثني عشر سبباً أو ثمانية أو ستة أو أربعة أسباب. إنها حقاً جمل واسعة التركيب وأناشيد مديدة النفس متتابعة مسترسلة مجودة كالآيات البينات". وربما القصيدة الوحيدة التي يمكن اختصاصييّ الأجناس الأدبية اعتبارها قصيدة نثر (رغم أن البيت الذي يستهل ويقفل القصيدة موزون) هي المقطع الرابع من "مدائح" التي كتبت سنة 1916 والتي تكشف عن جرأة سان جون بيرس باستخدام كلمات تكنيكية كالقِمع مثلاً، أو كلمات تعتبر فجة كان استعمالها محرماً في الشعر آنذاك (كالإبط، الإسهال وسواهما). وهاهنا ترجمتها:

مدائح
4

أيّها اللازورد، بهائمنا غصّتهم صرخة.
أستيقظُ، حالماً بالفاكهة السوداء لشجر الأنيب العطر بقِمعه المبتور المتثألل... سراطين البحر أتت على كل الشجرة ذات الثمر الرخي. وشجرة أخرى مملوءة بالندوب، أزهارُها كانت تنمو، ريّانة، عند الجذع. وأخرى، لا يمكننا مسَ يدها، كما نفعل مع شاهد، من دون أن تبكي من الذباب والألوان! نساء يضحكن وحدهن في حقل من شوك الغنم، هذه الأزهار الصفراء المبقع أسفلها بالأسود والبنفسجي، التي نستخدمها لوقف إسهال البهائم ذات القرن. والعضو طيب الرائحة. العرق يتفتح طريقاً منعشاً، رَجلٌ وحيد سيضع أنفه في ثنية ذراعه. الأنهار هذه تنتفخ، تتهاوى تحت طبقات من حشرات ذوات أعراس غير منطقية. تَبرعمَ المجداف في يد المجدّف. كلب يعيش على طرف الناب أفضل طُعم لسمك القرش...
- أستيقظُ حالماً بالفاكهة السوداء لشجر الأنيب، بأزهارٍ في علب تحت إبط الأوراق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف