رسل ايدسن: قصيدة النثر في أميركا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
رعاة قصيدة النثر الأمريكية (3)
هنا واحدة من أهم المقالات التنظيرية لقضية قصيدة النثر الأمريكية، كتبها رسل ايدسن في منتصف سبعينات القرن الماضي. اخترتها، من بين عشرات المواد الانجليزية،لتنشر في أول ملف في العربية عن قصيدة النثر (بالمعنى العالمي للكلمة وليس بمعناها العربي المشطر)، طرحته مجلة "فراديس" في عددها المزدوج (6/7). وقد طلبت آنذاك من الصديق محمود شريح أن يترجمه، وأتذكر أنه عانى من صعوبة النص وكونه مادة جديدة عليه، وعلى القراء العرب. أعدت نشر هذه المقالة في كتابي "الأفعى بلا رأس ولا ذيل: انطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية".. وأعيد نشرها هنا، لأن معظم المواد النظرية التي ستنشر في ملف إيلاف عن "رعاة قصيدة النثر الأمريكية"، يتطرق إلى هذه المقالة، أشكر ثانية الصديق محمود شريح لسماحه لنا إعادة نشر هذه المقالة الجوهرية. (عبدالقادر الجنابي)
قصيدة النثر الأمريكية
بقلم رسل ايدسن
لطالما فزع بودلير، وهو الذي صاغ قصائده نظماً، من فكرة أن القصيدة يمكن أيضاً أن تكون نثراً. الآن، وقد مرّت مائة عام، فإن تلك الفكرة لم تعد خبراً مفاجئاً ومع ذلك فلا تزال بعض الأوساط تعالج مسألة قصيدة النثر وكأنها فتحٌ جديد.
في مراجعته لتسع مجموعات قصائد نثرية، في العدد السابع من مجلة "بارناسوس" يقدّم دبليو م. سباكمان تأريخاً موجزاً عن قصيدة النثر: "بودلير أطلقها، لوتريامون ورامبو عمّداها، ماكس جاكوب، بيير ريفيردي، السورياليون أدخلوها إلى هذا القرن، وها هي الآن متوفّرة لأي شخص، بحيث أنها أشبه بالسوناتة في بلوغها من العمر أرذله، وفي رتابتها المضجرة". أفترضُ أنّ ما يعنيه بقوله "متوفّرة" أنها صَدَقة جادَ بها التاريخ. إلاّ أننا متى نظرنا إلى قصيدة النثر على أنها أكثر من كلئن أُسلوبي متوحِّش، مع أنها قد تكون كذلك، لتوجّب علينا أن نفصلَها عن ذلك النوع من التراث الذي يصبو إليه السيد باسكمان، إذ أرى أنّ قصيدة النثر لا تنحدر إلينا تماماً من فكرة القصيدة المنثورة، بل من الشعر الحديث نفسه.
لا أعتقد أن هناك تسلسلاً أوروبياً خلقياً ضروري للوقوع على توافر قصيدة النثر في أميركا. فالشعراء الذين نجلّهم ويكتبون قصيدة النثر فإنما نجلّهم لأنهم شعراء. وإنها
ومهما رغب البعض في القول أن قصيدة النثر شكل قائم بذاته، فإن الرغبة هذه زعمٌ باطلٌ. يمكن النظر إليها من ناحية أولى على أنها لا شكلانية، ولكنها بالتأكيد من ناحية ثانية محصِّلة تراكم تسرَّبَ إلى مفاصل الشِّعر لزمن طويل، أي النثر. يمكن الوقوع على جذور قصيدة النثر في الشعر الحر Free verse، حيثما يتلاشى الزخرف ليفسح للكلام العادي. الكلام العادي صيغة نثر.
ويقول سباكمان في نفس المراجعة: "تاريخياً، فإن قصيدة النثر عارضٌ في قلب البلاغة الفرنسية." ربّما. إلاّ أن ما يقوله يعبّر عن موقف كان كثيرون منّا اتّخذوه حين بدا لهم لأوّل وهلة أن اصطلاح "قصيدة النثر" صياغة زائفة، إذ أنه يُبدي تناقضاً لا يشير إلى حقيقة ماثلة في الذهن. وهو فعلاً كذلك ما لم يأخذ المرء بالحسبان أن النثر هو نقيض النظم، وليس بالضرورة نقيض الشعر إلاّ أن التناقض الذي يبطّن المصاعبَ الأسلوبية لهو أكثر تعقيداً مما تسمح به النظرة الشائعة المتحامِلَة.
وبوصف متطرّف فإن التناقض قائم في كيفية إحساسنا بالزمن مع أن آثاره ليست مَحْضة بالمرّة سواء في النثر أم في الشِّعر. يسير الزمن في ثنايا النثر وحول الشعر. الشَّعر إحساس بالدائم، بالزمن وقد تجمّد. والنثر إحساس بالزمن العادي، بالزمن يسير. يمكن وصفة الحَبْكة نثراً بأنها ساعة حائط، وأحداث الخبر والأرقام واهتمام القارئ بأنها العقارب التي تتحرّك بين الأرقام على متن تلك الساعة.
النثر ضمناً شكلٌ مأساوي، "فالزمن، جالبُ الحدث، يدمّر في النهاية كل ما هو قائم". النثر يلمّ شتيتَ الوجود في زمن واحد ليغيّبه في نهاية الحبكة. ومهما كانت النهاية سعيدة فإن النثر ينهي صنيعه الأدبي عند كلمته الأخيرة، وهذا ليس شأن الشِّعر. فحين نعيد قراءة نصّ نثري، فإنما للوقوع على ما هو شعري فيه، أي تلك المقطّعات الدائمة الحضور. كل نثر ذي معنى يشتمل بالضرورة على شعر، أي على مفاصل تتحدّى الزمن يعود المرء إليها ليغتني بها من جديد. إن سيرَ الزمن الذي تصوغه الحبكةُ يتلاشى إثرَ الفراغِ من القراءة بأكملها. نعرف ما حدثَ وكيف، فيَفرغُ النثر من محتواه لضياع زمنه. إنّ هالة المفاجأة بما تبعثه من حتميّة مُطبقة تتلاشى برمّتها في مقدرتنا على التكهّن.
لا ينطبق هذا الكلام على الشِّعر، فالشعر لا يموتُ إثر قراءتنا له، ذلك أنّه من الممكن قراءة القصيدة مرّة بعد مرّة، فينمو معناها طيلة الوقت. وحينما ينمو عملٌ فني ما في معناه، فإنه يصبح أقلّ تحديداً وأكثر تجريداً.
الشعر ضمناً شيوعُ فرح ومهما بدا محتواه الظاهر كئيباً في بعض الأحيان، ومردّ ذلك أنّ الزمن لا يدمّر طاقةَ الشِّعر كما يفعل مع النثر، فالنثرُ يستنفدُ نفسَه مع سريان الوقت. أمّا الشِّعرُ فإنه بطبيعته النفسيّة يحتفلُ بكلّ ما يمسّهُ. نفسيته مؤسسةٌ على فكرة الحياة السرمدية.
إن الجمع بين الشعر في رؤيته لاستمرار الحياة وبين عتمة النثر هو ما يجعل قصيدة النثر فاقدة الوزن وذكيّة، ولكن في كونها أبداً وكيفما كانت قالباً لمّا يكتمل بعد. إنّ صَهْرَ الفرح بالأسى مبعثٌ للضحك. وفي رأيي أن التناقض الأساسي الذي تنشأ عنه قصيدة النثر لهو وعيٌ بالملهاة. في قصيدة النثر يشعر المرء أن الحقيقي ممتزج فعلاً بالحسّ الجمالي الذي يدرك نفسه على أنه صنيعٌ فنّي.
كلما كان العمل الفني قصيراً مال إلى القول الشعري، وكلما كان طويلاً انحاز إلى الخطاب النثري. ولأن قصيدة النثر حكرٌ على طبقة الأعمال الفنية القصيرة فإننا نصنّفها على أنها شعر أكثر من أنها نثر، مع أن الأمر لديّ سيّان. هذا معناه أيضاً أن العمل الشعري الطويل يعطف إلى النثر، أكان نظماً أم خطاباً، وفي هذا دحضٌ للفكرة القائلة أن النثر والشعر يمكن وصفهما تبعاً للمألوف التقني. إنّ الفروق النفسيّة بينهما شاسعة. ومن جهة الأسلوب فإنّ قصيدة النثر لا يمكن أن تكون سوى نثر. أي زخرف يعوقُ انسياب الزمن، جوهر النثر. النثر الشعري ليس شعراً. إنه نثر رديء. إنّ سبب عدم تحوّل قصيدة النثر تماماً إلى نثر محض كامنٌ في التعريف الأول، أي أن قصيدة النثر هي أساساً قصيرة. قِصَرُها هذا لا يسمح بتطوّرها نثراً. وعليه فإنّ ما يرمي النصّ إلى قوله قوّامٌ على الصور وليس على الوصف المتسلسل. إنّ التركيز المُحكم في قصيدة النثر يؤدّي إلى كثافة نفسيّة، وهذا مَعْلَمٌ سرمديّ في طبيعة القول الشعري. وأُسلوبياً فحين يضعفُ القولُ النثري يتعزّز شعره. ومع ذلك، وبخلاف الشعر، فإن الإحساسَ بتسرّب الزمن في قصيدة النثر مسألةٌ أساسية. هذا الأثر للزمن في قصيدة النثر لا صلة له بما حدث، كما في النثر التقليدي حيث الاهتمام بما تطوّر حَبْكاً، بل أنه في قصيدة النثر ذو صِلَةٍ بأنّ حدثاً وقعَ، بأن الزمن انساب. ومن الغرابة هنا أنّ الزمن ينصاعُ للشعر وليس لإنهاء القول النثري. ولكن، وبالمنهاج نفسه، فإن عناصرَ الشعر الأساسية تتكسّر قبل أن تنتظم من جديد بنَفَسٍ تكعيبي. إنّ حدّي الزمن المتناقضين في ملامسة التراكيب غير المتناسقة ثمّ صهرها لهما في آن منشأ الكناية المركزة في قصيدة النثر.
رعاة قصيدة النثر الأمريكية:
2- رسل ايدسن: لا كمال لقصيدة النثر(15 قصيدة نثر)