ماجدوى الشعراء: ثالث الأجوبة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
استفتاء إيلاف الشعري
ما جدوى الشعراء في زمان البأساء والضراء؟ (3)
لمعرفة السؤال وقصيدة هولدرلن وأجوبة: صلاح حسن/ جمال بدومة/ عبدالكريم كاصد/ محمود عبدالغني وإبراهيم نصرالله، انظر:ماجدوى الشعراء: أجوبة أولى
وانقر هنا ماجدوى الشعراء: ثاني الأجوبة لقراءةأجوبة نصر جميل شعث/ باسم المرعبي/ إبراهيم المصري/ محمد جميل أحمد/ سلمان مصالحة/ عبدالله بحري/ شوقي مسلماني/ محمد حسنأحمد
والآن إلى الحلقة الثالثة:
***
غادا فؤاد السمان (شاعرة سورية):
عندما سئل بريتولد بريخت ماذا تكتب في الزمن الأسود؟ قال: أكتب قصائد سوداء؟
وأنا منذ تعلّمت الخربشة ، لم أجد سوى الجدران السوداء، حيث رحتُ بشراسة هرّة مشاكسة أهيم على طريقة كيهان ديونيزوس أخرمش جغرافيتها المغلقة، علّي أتلمّس بصيصا ما !، لأخطّ قصائدي السوداء بأسلوب بريتولد بريخت، وراعني أنّ الذين كانوا يعبرون من هنا أو حتى من هناك كانوا يفرّون من السواد شكلا، وحرفا، ونصّا، وموضوعا، ومضمونا وحقائق مؤجّلة، قد تجتاحهم جميعا، فيعرفونها ويدركونها ويتعلّمون منها جيدا ضرورة تلافي العبث في إشاعة السواد، موروثنا الأوحد يوم انبثقوا، ويوم عاثوا، ويوم يردّون إلى أوهامهم الوردية خائفين
ومنذ ذلك الحين وأنا أواصل التخبّط كما العادة وكما المُتاح في السواد فقط، في السواد بقاياهم لا سواها، استنسل منه طقوسي الباهتة، استحثّ الفراغ على استيلاد فجر لقيط، أرعاه بكل ما أوتيت من أمومة وخيبات.
كم يُرهقني أنني عرضة لاحتمال هنا، وأنا التي أدمنتُ تأبين الوقائع ، فاجعةً تلو الأخرى، أيّ ظروفٍ شائكة تلك التي يُمكن أن تسوّر أحلامنا بعد سنوات من الحصار والنفي والإغتراب؟
أيّ بلد يُمكن أن نقصدها في الليلة المقدّسة وإنساننا فقد أوراق الطمأنينة الثبوتيّة ؟
كان علّي أن أتكهّن اختناقا جديدا معكم وأنا المطاردة للحول دون الإسترسال، والمطالبة حُكما بمئتي جلدة لمجرّد أنني آثرت الإستجابة لسؤال طريف بمنتهى الوجع، الوجع الذي لم نألف غيره، منذ أول صفعة تلقناها إكراما لدرس الكرامة داخل الوطن الذي استجرّ تلك الملاحق التعليميّة لأصول الخزي وقواعد الإنكسار.
***
هاتف جنابي (شاعر عراقي): العالم بدون الشعر والشعراء سيكون أقبح وأغبى!
الشعراء لن يوصلوا العالم إلى التهلكة، كما وأنهم غير مسؤولين عن بؤسه المتفاقم. إذا كان التعبيرعن قبح وبشاعة وجمال العالم،عن الحب والعشق والكره،عن سموالإنسان وانحطاطه، عن هارمونية الوجود، جدليته وتناقضاته، صيرورة الأشياء، الكشف عما هو سري، غامض، ممتليء، فارغ، بسيط ومعقد في آن واحد، عن حركية الأشياء وسكونيتها، محاورة الخلق والخليقة، عن سر الوجود البشري، والعلاقة بين بني البشر، وبني الحيوان وبينهم وعناصر الطبيعة، إذا كان الشعر والشعراء مهتمين بإذكاء المخيلة وتنشيط الحواس وتنشيط الذهن وتفعيل المحبة، ورفع الغمة عن الكلمة، بدرء تحجرها وإسفافها وانحدارها، الأمر الذي سيؤول بالفكر إلى مصير أسود مجهول، أقول إذا كان وجود الشاعر ومشاغله مرتبطة بهذه الهموم وهذه الفعالية بأوجهها الوجودية والفكرية والتخييلية، فهل يحق لنا بعد ذلك، أن نسأل عن جدوى الشعراء؟ صحيح أن الشعراء "يهيمون" في كل وادٍ، لكن في حدود الشعر والطبيعة والوجود.، في فضاءات الكلمة والفكر والخيال. وصفهم القرآن بذلك وأكده الشاعر هولدرلين. لقد قال جان كوكتو: "إن الشعر ضرورة، ولكن ليتني أعرف لماذا ؟". الشعر يمنح الحرية والخلود. ألم يُرْوَ عن النبي محمد قوله: "علّموا أولادكم لاميّةَ العرب فإنها تُعّلّمهم مكارمَ الأخلاق"؟
كان أبو العلاء المعرّي قد ذكر في "رسالة الغفران" كيف أن بيتا شعريا واحدا يمكنه أن ينقذ شاعرا زنديقا أو خليعا بإخراجه من الجحيم أو حتى من أعماق الجحيم! أنا أؤمن بذلك وأكثر! حتى تراني أرَتل في داخلي ما قاله الشاعروالكاتب البرازيلي ماشادو دي آسيس: من أن الأرض لم تتوقف حتى الآن عن الدوران لأن عددا من قصائد الشعر لم تظهر بعد!
العالم بدون الشعر والشعراء، ستنقصه المحبة والعشق والإلهام والهارموني والتوازن، سيكون أردأ أسوأ أقبح أكثر جمودا وأغبى بكثير مما هو عليه الآن.
***
ميلود حميدة (شاعر جزائري)
تذكرت على الفور مقولة كاتب كبير حينما قال : نحن الكتاب نبحث عن الألم بأظافرنا .. و لأن هذا السؤال الذي طرحته عليّ و طرحه من قبل الشاعر الألماني هولدرلين على نفسه في قصيدته تلك يفتح أبوابا كثيرة قد لا ننتبه إليها و لكننا نمارس كل أجوائها و نحن نتلذذ ذلك ، و لن نجانب الحقيقة إذا قلت أن سيَر الكثير ممن ذاع صيتهم كانت عبارة عن بؤس مستمر و أكبر شبه لذلك ما أورد تفاصيله الكاتب المغربي محمد شكري ، فلا نستطيع في رأيي أن نقرن طبيعة الشعر مع طبيعة الألم و لكن يمكن للشعر أن يفضح مكامن الألم و بواعثه ، فضرورة الألم أو البؤس كحتمية لا بد منها تشبه كثيرا حتمية الشعراء في الوجود ، لأنهم ضمير العقل و القلب معا و يتميز الشعر فيهم بصلابة ألوانه الواضحة جدا و ليونة خطوطه الصافية التي تتأثر بشكل فضيع أمام تقلبات الحياة و النفس ..
فجزئية وجود الشعراء التي تقابل جزئية أخرى منبعها الموضوع لا يتفقان في الطرح ، و إنما يتفقان في المبادلة الشعورية التي يبعثها الآخر للآخر على فرض وجود أنماط متعددة لشخصية الشاعر ..
و أرى أفكاري تتجه مباشرة إلى أن القلب قابل للتفاوض إذا ما استطاع الشاعر الولوج إلى المسك الفعلي بسحرية النص ، كنص يقف أمام توهجات الموضوع ( الخارج) ، و لذلك يمكن للشاعر أن يكون لغة الإنسان البسيط الذي يعجز عن فك طلاسم هذا الوجع ، فيمكن له فهم الموضوع من منطلق أحاسيس الشاعر و دلالاته التي يغرسها في قلوب القراء .. تكون ربما سبيلا من سبل النجاة .. من الفكرة وعبرها كجسر يمتد إلى أفق يراه على امتداد الحدس..
***
نصيف الناصري (شاعر عراقي): لا جدوى لي ولصرخاتي في هذا الزمان
شهدت وتشهد أزمان العالم منذ بدء الخليقة الى الآن دورات واندفاعات مستمرة من البؤس والضرر الوحشي في جميع جوانب الحياة والطبيعة والانسان، لكن الميزة الأساسية للشعر والتي هي التصادم مع هذه الأزمان ومحاولة فضحها وتعريتها. تكمن في تلك الجهود التي لا تتوقف في محاولة تغيير المفاهيم المعرفية التي تحتضن هذه الأزمان. أن الكشف الحقيقي عن جوهر الحياة الانسانية البائسة والتي ألقي بها في هاوية العدم عبر قانون الصدفة العمياء. لا يستطيع الشعر والشاعر أن يفعلا له شيئاً غير الاصرار الدائم على ارتياد الآفاق السرية للوجود من أجل توسيع الجغرافيا الحلمية للانسان والبحث عن السحر الكامن في ماوراء المادة، حتى تعاش الحياة بطرق أجمل من حقيقتها المريضة والمتعفنة دائماً. أن جدوى الشاعر في هذا الزمان لا تتحدد بمسألة الظروف التي تحيطه. الشعر في جميع العصور غير معني بالظروف الآنية، وهذه ميزته العظيمة التي نعّول عليها دائماً. وبما أن الفاعلية الشعرية هي التوغل المستمر في المجاهل السرية للعالم من أجل تعرية بؤسه وشراسته التي تذهب بعيداً في استلاب الانسان والكشف عن أسراره العميقة ومحاولة التصالح مع محتواه الذي يحمل بذور الفناء والعدم، فأن زمان البأساء والضراء هنا يبدو لا شيء أمام القوى العمياء التي تدمر آمالنا وأحلامنا في حياة لطيفة نحياها بكرامة انسانية حقيقية. جميع أزمان العالم هي أزمان وحشية وعدوة للانسانية التي كتب عليها أن تنوجد في هذه المتاهة المحيرة التي نسميها الحياة والتي لا تمنحنا اللحظة الكافية في العيش والأحلام والتجوال بحرية في الليل الممتد من الميلاد الى الموت. لا جدوى لي ولصرخاتي في هذا الزمان ولا أستطيع كما كان مألوفاً بصيغة شعبية تخون جوهر ووظيفة الشعر الأساسية، أن أكون شاهداً ومؤرشفاً بطريقة المؤرخ البائسة عن هذا الزمان. أن أزمنتي وحياتي كلها ضارة وبائسة وعديمة الرحمة ولا تمنحني اشارة ما للخروج من الجحيم الذي أحيا فيه منذ أن ألقي بي في هذه الهاوية
***
عبد العظيم فنجان (شاعر عراقي): مامن جدوى الا الغناء
بالنسبة إلي، وقد عشت السراء والضراء معا، لايبدو لي ان الامر يختلف، مادمت املك حلمي الخاص في ان ارسخ مشروعي كانسان عبر الشعر، وهكذا حكم خاص بي، فثمة شعور بأن مشروع "الانسان" قد ولد ناقصا اصلا، وهو ما حاولت الاديان اكماله : هذا شعوري الخاص - مرة اخرى - ولا اريد ان ابشـّر به، فلست مبشرا او صاحب رسالة من هذا النوع : ان كل الازمان التي مرت، والتي سوف تمر، تقفز على هذه الحقيقة، لأن من يتسيّد الموقف دائما هم القتلة : صانعو الكوارث، واقصد بهم الساسة، الذين قادوا البشرية الى حروب ومطاحن لن تتوقف، مادام النقص في مشروع الكائن الانساني قائما.
كم يبدو ريلكه الشاعر على حق حين يقول - حسب ماينقل عنه عبد الرحمن بدوي - ما معناه : الالهة تبدأ قليلة العدد، ثم تتكاثر كلما ضعفت قوتها وتضائل سلطانها، وكذلك الحضارة حينما تبدأ
بالذبول تستكثر من الالهة، مثلما الان استكثر الساسة من انفسهم، فتعددوا الى ما لانهاية له من مسوخ..
الكوارث تتوالي، وبالنسبة لي كشاعر عراقي اشعر انى اعيش مرحلة مابعد الضراء او السراء : مرحلة لايمكن تجسيمها او تسميتها، خاصة وانا مستلب من كل جوانبي، فماذا افعل سوى ان اعيد لي جدواي ككائن بشري اولا ؟ هكذا يبدو لي ان الشعر لايمثل خلاصا او هو فك لإشتباك ما مع الأشياء، بقدر ما يعني لي انه ذلك المحفز نحو البحث عن النقص في المشروع الانساني ذاته، بغية اكماله.
في الاشهرالاخيرة توجهت الى رفع حنجرتي نحو ناصية الغناء، عبر احياء مأثرة انسانية وكونية، هي الحب، الذي يمكن ان نتخطى به، ككائنات عاقلة، مرحلة من مراحل تدهورنا وعودتنا الى الوراء الاف المرات : الحب الذي لايمكن ان يحقق وجوده الا من خلال قلب ناصع البياض : ان شحنة من الدفء تحتاجها ارواحنا الملتاعة، والمشرفة على الهلاك في اي لحظة من زمن هذا السخام الذي يلتف حول بدن العراق، حيث تفقد الأشياء لمعانها، والكلمات معانيها : هكذا يبدو لي ان مثل هذا السؤال لايجب ان يشمل العراقيين، لأنهم بحاجة الى سؤال يتناسب مع الوضع البشري الخاص بهم.. وهكذا ايضا يبدو لي انى لم اجب عن السؤال، وبالقدر نفسه اشعر بأني اجبت عليه بشكل غامض لشدة وضوحي : عليّ كشاعر ان ارفع حنجرتي بالغناء من اجل بناء السد امام طوفان من الكراهية والعنف والارهاب والاحتلال، يتزايد يوما بعد اخر، رغما عن الضراء والسراء وما بعدهما : هذا هو اقصى مايمكن فعله لمقاومة غزو الأشباح - الالهة القادمة.
***
شربل بعيني(شاعر لبناني): كان الشاعر وسيبقى بوصلة زمانه
ـ1ـ
قديماً، كان الشعر ديوان العرب، لا يتقدمه فن من الفنون، ولا يجاريه أدب، وكانت القصائد تحفظ عن ظهر قلب، وتعلّق بالأماكن المقدسة، ليقرأها الحجاج ويتنعمون بها، كي لا أقول: ويتباركون، وتقوم علي قيامة البعض، فسميت من جراء ذلك بالمعلقات. وكان الشاعر صوت قبيلته، وحامي شرفها من الضياع، فإذا ناح، كالخنساء، ناحت، وراحت تبكي قتلاها:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلتُ نفسي
ولو قتلت سيدة الرثاء العربي نفسها، في ذلك الحين، للحقها إلى عالم الموت نصف دزينة من رجال ونساء قبيلتها المعجبين بها، والمحزونين عليها وعلى شاعريتها، التي تعتبر ملكاً حلالاً لكل واحد منهم، ويجب عدم التفريط بها.
ـ2ـ
وإذا تفاخر، كعمرو بن كلثوم، تفاخرت قبيلته، وراحت تناطح السحاب تبجحاً، وتتغنى كما تغنى:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ـ3ـ
وإذا حض على القتل، كما فعلت دختنوس إبنة لقيط بن زرارة سيد تميم، وقـد قتـله بنو عبس، حين توعدت قتلة أبيها بالموت:
لنجزيكم بالقتلِ قتلاً مضعَّفا
أو إذا جعل الحيوانات الكاسرة تضحك، والطيور تشبع، كما فعل الشاعر الصعلوك تأبط شراً:
تضحك الضبع لقتلى هذيلاً
وترى الذّئب لها يستهلُّ
وعتاق الطّير تغدو بِطاناً
تتخطّاهم فما تستقلُّ
فاعلموا أن أنهاراً من الدماء ستجري بين القبائل المتناحرة، إلى أن يرزقها الله شاعراً إنسانياً واعياً، كزهير بن أبي سلمى، يكره الحرب، ويندد بها، ويهتف بأعلى صوته:
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
ـ4ـ
أما إذا خانته قريحته الشعرية، وهذا أبغض الأشياء عند القبائل، خارت عزائمها، وراحت تتلطى وتتنقل من مكان لآخر، مخافة التشهير بها، وراح شاعرها المهزوم يلعق جرح خيبته، ويشيح بوجهه عن أعين الغاضبين من أبناء عشيرته، هذا إذا لم يهجر القبيلة ويهيم على وجهه.
من هنا بدأت رحلة البؤس عند الشاعر، ولم تتوقف إلى يومنا هذا، وكان أشهر ضحاياها شاعر الشعراء المتنبي، الذي مدح سيف الدولة، ليهجره بعد طمع وحب، ومدح كافور الأخشيدي ليشتمه ويهرب بعد خلاف، ولكنه ما أن كال المديح لنفسه، حتى وقّّع، دون أن يدري، على صك وفاته:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وبما أن حكايته مع هذا البيت القاتل مشهورة، اسمحوا لي أن أتخطاها.
ـ5ـ
ومن منا لا يعرف قصة شاعرنا (الأصمعي) مع الأمير البخيل، الذي تململ الشعراء وتذمروا من كثرة الوقوف على بابه بغية الحصول على حفنة من المال تكفي لسد جوع أبنائهم دون جدوى، وكان سموه يعبد الدينار، ويأبى أن يهبه لأحد، إلى أن جالت في دماغه الفارغ فكرة استغلال الشعراء، والتنعم بمديحهم، دون أن يدفع لهم، فأعلن أنه سيمنح الشاعر الذي يمدحه ثقل قصيدته ذهباً، إذا لم يحفظ هو أو جاريته القصيدة، فهوى الشعراء كأوراق الشجر الخريفية، أمام ذكاء جاريته، وسرعة حفظها للشعر، ولم يبلوا ريقهم بنقطة ماء من غدير أميرهم المجفف، إلى أن جاء (الأصمعي)، أذكى شعراء عصره، فنظم قصيدة طويلة لا يحفظها إلا الجن، وحفر أبياتها على حجر ثقيل، ما زلت أذكر منها بيتاً واحداً، وكم أتمنى الحصول عليها في غربتي، بعد أن احترقت مكتبتي في لبنان، أثناء الحرب اللعينة:
فقلت وَصْوَص وصوصٌ
فجاء صوتٌ من علِ
فأخذ بثأر جميع الشعراء المهزومين، وراح يوزّع عليهم ما حصده من ثروة، أبى الأمير البخيل إلا أن تؤخذ منه قسراً.
ـ6ـ
ذكرت كل هذا لأثبت أن الشاعر، مهما اندحر الشعر وتقوقع، سيبقى بوصلة زمانه، أنّى اتجه تتجه الأعين، وكيفما مال تشرئب الأعناق. إنه إبن الوحي. شعره، لا يستمده من المدرسة، كباقي الفنون، بل من الموهبة التي تأتيه هبة من الله، لذلك تبقى كلمته مسموعة، وصوره الشعرية مشعة، ورحلته مع الأدب موفقة. فإذا هز الشاعر القديم أبدان أعداء قبيلته بأبياته الشعرية، نجد أن الشاعر الحديث ما زال يهز الأحداث بهدير انفعاله، وها هي ثورة الحجارة في فلسطين تحصد آلاف القصائد، وها هي نكسة حزيران 1967، تلهب مخيلات الشعراء، فينشدون رغم الهزيمة:
الغضب الساطع آتٍ.
ويمنون النفس بحمل بندقية، وإن كانت مغشوشة، وتطلق رصاصها إلى الخلف:
أصبح عندي الآن بندقية
إلى فلسطين خذوني معكم
كما أن ثورة الجزائر، حصدت الكثير من القصائد الحماسية، التي ساهمت بشكل من الأشكال بحصول الجزائر على استقلالها. وهناك أمثلة عالمية كثيرة، على فاعلية الشعراء أثناء الأحداث الجسام، لا مجال لذكرها الآن.
صحيح أن الشعراء، كما قال الشاعر الألماني هولدرلين، مثل كهان ديونيزوس يهيمون على وجوههم من بلد إلى بلد في الليلة المقدسة، ولكن بصماتهم ستبقى مطبوعة على وجه كل بلد يحطون الرحال به، فيزينون ليلتهم تلك بقناديل إبداعهم، وبثمار عطاءاتهم، التي ستقطفها الأجيال لتتذوق طعمها، وتتنعم بها، ولو بعد غروب.
ـ7ـ
قبيلة الشاعر، في يومنا هذا، ضيعة كونية صغيرة، كل ما يقلقها يقلقه، لذلك ازدادت أهميته، وكثر قراؤه، وتنامت شعبيته، وما عليه سوى التفتيش عن موقع إلكتروني يلجأ إليه لنشر ما وهبه الأرق من قصائد، قد تقرأ وتتناقل، وقد يقفز الفأر الإلكتروني فوقها ويتخطاها، لتنزوي بعد ذلك في أرشيف الموقع، أو في دفتر أشعاره، غير عابىء بمديح قومه، ولا بعطاء أمير فاسد بخيل، همه الوحيد أن ينزف على الورق ما يتأجج بداخله من أشعار، قد تهلكه كما أهلكت معلمه المتنبي، أو قد تغنيه كما أغنت زميله الأصمعي.
يتبع